الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اللَّهِ لا تُحْصُوها)
الآية 34 من سورة ابراهيم من ج 2، فيا أيها الناس «هذا» نبيكم محمد «نَذِيرٌ» لكم بهذا القرآن «مِنَ النُّذُرِ الْأُولى 54» الذين أرسلوا الى أقوامهم لينذروهم بما أوحى إليهم ربهم من الشرائع فعليكم أن تطيعوه وتؤمنوا به ولا تتوانوا إذ «أَزِفَتِ» قربت الساعة «الْآزِفَةُ 57» أي القيامة الموصوفة بالقرب وانها إذ حضرت «لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ 58» أي الحالة التي تقع فيها على الناس لا يقدر أن يزيلها عنهم أحد الا الله إذ كل نفس عاجزة عن ازاحة ما يصيبها ولا يعلم وقتها إلا الله، راجع الآية الأخيرة من سورة لقمان من ج 2، قال تعالى (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) الآية 156 من الأعراف الآتية «أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ» القرآن القديم المحدث نزوله عليكم في علم الله الأزلى «تَعْجَبُونَ 59» أيها الناس وتنكرون حقيقته «وَتَضْحَكُونَ» منه استهزاء به وبمن أنزل عليه «وَلا تَبْكُونَ 60» خشوعا وخوفا من منزله وتعرضون عما فيه من الوعيد
«وَأَنْتُمْ سامِدُونَ 61» غافلون لا هون بما لديكم من الدنيا معرضون عن الآخرة. والسمود بلغة اليمن الغناء وفي اللغة رفع الرأس يقال سمد البعير إذا رفع رأسه وجد في السير والسامد اللاهي، أي وأنتم لاهون عنه بالغناء غافلون عن سماعه بلعبكم، فتيقظوا أيها الناس وإذا آمنتم به «فَاسْجُدُوا لِلَّهِ» شكرا على إرسال واحد منكم من قبل ربكم لإرشادكم وهدايتكم لسبيله «وَاعْبُدُوا 62» الله وحده ولا تشركوا به شيئا مما يعبده المشركون الضالون المهلكون.
مطلب في السجود وقصة الغرانيق:
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله قرأ سورة النجم فسجد فيها وسجد من كان معه غير أن شيخا من قريش (هو أمية بن خلف) أخذ كفا من حصباء أو تراب فرفعه الى جبهته وقال يكفي هذا، قال عبد الله فلقد رأيته بعد قتل كافرا. وروى البخاري عن ابن عباس أن رسول الله سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس. والحكم الشرعي سجود التلاوة واجب عند الحنفية استدلالا بهذين الحديثين لأن الأمر في هذه الآية للوجوب وبه ت (14)
قال سفيان الثوري. وقال الشافعي وأحمد ومالك سنة استنادا لما رواه البخاري ومسلم عن زيد بن ثابت قال: قرأت على رسول الله والنجم فلم يسجد فيها. وهذا لا ينفي الوجوب لأنه عبارة عن واقعة حال إذ يجوز ترك السجود لوقوع القراءة في وقت مكروه أو على غير وضوء لأنهم كانوا يقرأون القرآن عن ظهر الغيب لا بالمصاحف تلقيا وحفظا من رسول الله أو أن الرسول لم يسجد ليبين للناس أن السجود غير واجب على الفور، وهذا محمل حديث عمر المروي في الموطأ من أنه رضي الله عنه قرأ سجدة وهو على المنبر فلما نزل سجد وسجد معه الناس ثم قرأها في جمعة أخرى فتهيأ الناس للسجود فقال على رسلكم، إن الله لم يكتبها علينا إلا ان نشاء، فلم يسجد، ومعنى هذا أن الله لم يفترضها كالصلوات الخمس ولم يوجبها حالة قراءتها ولو أوجبها حالا لما جاز أن يقرأها أحد عن ظهر غيب إلا وهو متوضئ. هذا، ومن أراد زيادة التفصيل في هذا البحث فليراجع ص 414 من الجزء الأول من الهداية. والسبب في سجود المشركين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ يرتل القرآن ويفصل الآي أي يسكت سكتة خفيفة بين الآيتين، ولما قرأ (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) إلخ بمحضر المسلمين وقريش، ترصد الشيطان تلك السكتة فدسّ فيها ما اختلقه وهو جملة (تلك الغرانيق العلى وان شفاعتهن لترتجى) محاكيا بها صوت النبي صلى الله عليه وسلم فسمعه ممن دنا من الكفار فظنوها من الرسول ورأوه قد سجد هو ومن معه من المؤمنين فسجدوا معه، سرورا بذكر آلهتهم وشاع الخبر في الآفاق حتى ان المسلمين الذين هاجروا الى الحبشة أوائل سنة خمس من البعثة سنة نزول هذه السورة عادوا فرأوا الأمر على خلاف ما سمعوا فمنهم من دخل بجيرة غيره ومنهم من اختبأ ومنهم من عاد لهجرته، ولما عرف رسول الله ذلك حزن وضاق، فأنزل الله عليه مساء ذلك اليوم تسلية له وتعزية عما لحقه من الأسف قوله جل قوله «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ» الآية 52 فما بعدها الى 55 من سورة الحج من ج 3، ومعنى تمنى قرأ، قال حسان في عثمان بن عفان رضي الله عنهما حين قتل وهو يقرأ:
تمنى كتاب الله أول ليلة
…
وآخرها لاقى حمام المقادر
وقال غيره:
تمنى كتاب الله أول ليلة
…
تمني داود الزبور على رسل
ومعنى «فِي أُمْنِيَّتِهِ» قراءته كما سيأتي في تفسير تلك الآيات في محلها ان شاء الله، ولهذا ظن بعض المفسرين أن سورة الحج مكية والحال أنها مدنية عدا هذه الآيات، ولما تحقق عند حضرة الرسول ذلك أخبر المسلمين وقريشا بأن تلك الكلمات من الشيطان القاها أثناء سكوته بين الآيتين، أما من قال ان تلك الكلمات صدرت عن حضرة الرسول فقد أخطأ وزاغ، لأنه إذا قال تكلم بها عمدا فقد كفر لأنه يعد مادحا للأصنام التي ذمها الله وبعثه لأجل تحطيمها ومنع الناس من عبادتها فكيف يتصور منه مدحها؟ وإذا قال أجراها على لسانه سهوا أو غفلة فمردود لأنه لا يجوز وجود الغفلة والسهو حال تبليغ الوحي لأنه يسبب عدم الاعتماد على قوله ولأن الله تعالى وصف القرآن بقوله «لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ» الآية 42 من سورة فصلت ج 2 وقال جل شأنه «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» الآية 9 من سورة الحجر من ج 2 أيضا فعليه لا يجوز أن يدخل في التزيل شيء من ذلك، وإذا قال ان الشيطان أجرى تلك الكلمات على لسان الرسول جبرا بحيث لا يقدر أن يمتنع منه فهو ممتنع أيضا لأن الشيطان عاجز عن ذلك في حق الغير فكيف في حق الرسول، وقال تعالى (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) الآية 65 من سورة الإسراء الآتية وقال (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) الآية 40 من سورة الصافات الآتية أيضا، إذا لم يبق الا ان حضرة الرسول سكت عند قوله تعالى «وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى» كما هو شأنه بين الآيات فتكلم الشيطان بتلك الكلمات متصلا بقراءته فوقع عند البعض أن النبي تكلم فيها وهذا معنى الإلقاء في هذه الآية المارة الذكر من سورة الحج، ولا يخفى أن الشيطان كان زمن الرسول ومن قبله من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه يظهر بصورة الإنسان ويتكلم ويسمع كلامه كسائر البشر كما هو ثابت في الكتب القديمة وفي حادثة قريش
حينما اجتمعوا في دار الندوة للتداول في كيفية التخلص من حضرة الرسول كما سنبينه في تفسير الآية 41 من سورة العنكبوت في ج 2، وفي تفسير الآية 30 من سورة الأنفال ج 3، وقد ذكر الله عنه بأنه قال يوم بدر لكفار قريش (لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ إلخ) الآية 51 من سورة الأنفال أيضا. وروي أنه نادى يوم أحد ألا إن محمدا قتل، كما سيأتي في الآية 122 من آل عمران في ج 3 أيضا.
أما سجود المسلمين فلم يقدح فيهم لأنهم سجدوا مع حضرة الرسول لتحققهم من حاله في ذم الأوثان وأنهم كانوا يحفظون السورة عند تلقيها منه كما أنزلها الله ولم يسمعوا تلك الكلمات لذلك لم يأت ذكرها في الحديثين المارين وأن ما ذكره بعض المفسرين عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم لما تولى عنه قومه وشق عليه بعدهم تمنى أن يأتيه الله بما يقارب بينه وبينهم حرصا على إيمانهم وأنه لما قرأ سورة والنجم بينهم القى الشيطان على لسانه تلك الكلمات فلا عبرة به حيث رواه عنه الكلبي وهو ضعيف جدا لا يعتمد عليه ولم يؤيده أحد من أهل الصحة ولا لسنده ثقة بسند صحيح أو سليم متصل. ومما يدل على توهين هذه الرواية اضطراب رواتها وانقطاع سندها واختلاف ألفاظها، لأن منهم من قال أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في الصلاة ومنهم من قال أنه كان في نادي قومه وآخر يقول أنه قرأها في حالة سنة من النوم، وغيره يقول أنه حدث بها نفسه، فجرت على لسانه، والبعض قال ان الشيطان قالها على لسانه أو بعض الكفرة تكلم بها أثناء قراءته حتى ظنوها منه، وبعضهم قال انه لما عرضها على جبريل قال: ما هكذا اقرأتك، مما يدل على تلفيق هذه القصة ولا غرو أن كثيرا من المفسرين والمؤرخين ولعون بنقل كل غريب شاذ، لذلك فانهم ينقلون هذين النوعين بلا ترو لينقل عنهم هكذا مخالفات على حد خالف تعرف.
واعلم أن التمني ينحصر في معنيين لا ثالث لهما بمعنى حديث النفس وبمعنى التلاوة فعلى الأخير لا شيء فيه كما علمت، وعلى الأول يكون معنى تمنى خطر بباله وتمنى بقلبه ولا يبعد أنه إذا قوي التمني اشتغل الخطر فحصل السهو في الأفعال الظاهرة، الا أنه يستحيل وقوعه من النبي في كل ما يتعلق بأمر تبليغ الوحي بدليل ما مر