الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب التاسع في جمع القرآن ونسخه وترتيبه وكونه توقيفيا وبيان ناسخه
اعلم نور الله بصيرتك انه ثبت في الصحيح عن انس بن مالك رضي الله عنه أنه قال جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة كلهم في الأنصار أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وسعد بن عبيد أبو زيد أحد أعمام انس، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم.
مطلب جمعه ونسخه وكونه توقيفيا وكان جمعه على عهد الرسول على الرقاع واللخاف وجريد النخل، لا على صحف، وكان ترتيبه على ما هو موجود في المصاحف الآن، ثم كان جمعه على زمن أبي بكر، عبارة عن نسخه من هذه الأشياء إلى صحف، وجمعه على زمن عثمان نسخه إلى صحف وكراريس، وجعله بين دفتين، كما هو عليه الآن. ومن قال إنه لم يجمع على عهد الرسول فقد أخطأ، يؤيد هذا ما ذكرناه آنفا من حديث أنس المتقدم، وما أخرج الترمذي من أن عمر رضي الله عنه، قال قال صلى الله عليه وسلم خذوا القرآن على أربعة عن ابن مسعود، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة، وكان هؤلاء الكتاب يكتبون القرآن حسبما يمليه عليهم حضرة الرسول على العسب (جريد النخل) وعلى اللخف (الأحجار الرقيقة) ويضعون ما يكتبونه عند الرسول، ويكتب كل منهم نسخة لنفسه، وكلما ينزل ما يتعلق بالمكتوب، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يدلهم أين يكتبونه أي في أي سورة، وبعد أي آية، ولم يجمعه من النساء إلا أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث التي كان يزورها حضرة الرسول ويسميها الشهيدة ذكره الجلال السيوطي في إتقانه، وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم، لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن، وهذا زيادة في الثبت به، لئلا يدخل عليه ما ليس منه من أحاديثه صلى الله عليه وسلم، أو غيرها في تفسير بعض كلماته من لدنه أو من بعض الأصحاب، وتدوينها بهامشه أو بين سطوره خشية من إدخال شيء من ذلك فيه، ولهذا قال من قال، أن فلانا قرأ كذا، وفي مصحف فلان كذا، لأن بعض الأصحاب كان يدون بعض
ما يفسره أو ما يسمعه من تفسير غيره على هامش مصحفه أو بين سطوره، حتى ظنها بعضهم أنها في جملة القرآن والقراءات، وهذا لا ينافي كتابة الأحاديث أي تدوينها على حدة، لأنها ليست من القرآن ولا تكتب معه، إذ لا يجوز أن يكتب معه غيره البتة، وكانت حافظة الأميين وصحف الكاتبين والصحف التي عند حضرة الرسول وفي بيته إلى أن توفاه الله، والنسخ التي عند كتبة الوحي جميعها متعاونة على حفظ كتاب الله إنجازا لوعده في قوله (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) الآية 9 من سورة الحجر في ج 2، هذا وفي واقعة اليمامة التي قتل فيها سالم المذكور سنة 12 من الهجرة نسخه زيد بن ثابت بأمر من الخليفة أبي بكر وصاحبه عمر رضي الله عنهما في الرقاع واللخف وجريد النخل إلى صحف فقط كما مر آنفا، وإنما خص هذا الأمر العظيم بزيد لأنه أحد كتبة الوحي الأمينين، قال تتبعته من الرقاع والعسب واللخف الموجودة في بيت الرسول عند السيدة عائشة رضي الله عنها، وفي صدور الرجال حيث كان رضي الله عنه، يستقرأ الرجال الحفاظ ويقابل قرائتهم على ما في الرقاع واللخف والعسب، عند ما يحصل له شبهة في بعض الحروف والكلمات المحتكة ببعضها لزيادة التيقن بها خوفا من زيادة حرف أو نقصه فيما ينسخه لشدة حرصه عليه، ولئلا ينفرد بما يعلمه، وبعد أن أكمله على هذه الصورة وضعت تلك الصحف المشتملة على القرآن كله عند أبي بكر فبقيت عنده مدة حياته ثم عند عمر مدة حياته ثم عند حفصة كما هو ثابت في صحيح البخاري، وإنما وضعت عند حفصة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم لأنها بنت الخليفة، وتقرأ وتكتب فهي نعم الأمينة على كتاب الله.
مطلب توزيع نسخ القرآن وأمر الناس بقراءتها ولما ولي عثمان رضي الله عنه وصار يغازي أهل الشام في فتح أرمينية واذربيجان سنة 25 من الهجرة، طلبها من السيدة حفصة بتكليف من حذيفة اليماني وغيره من الأصحاب الكرام فأعطتها (وبعد الاستشارة بينهم انتصر رأيهم الصائب على نسخها
في المصاحف بمعرفة الأمناء الصادقين، زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد ابن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأمرهم عند الإختلاف في شيء من ألفاظه أن يكتب بلسان قريش لنزوله بلغتهم، فنسخوا ستة مصاحف أرسل واحدا منها إلى الشام، وواحدا إلى الكوفة، وواحدا إلى البصرة، وواحدا إلى مكة، وأبقى واحدا لنفسه، وواحدا لأهل المدينة، ومن قال أن النسخ سبع قال أرسل السابعة لأهل البحرين، ثم أمر بحرق ما سواها من الصحف المتفرقة لئلا يقع خلاف بين القراء، ولتتحد القراءات على نمط واحد كما أنزل ولهذا وصم عثمان رضي الله عنه بعض المارقين بحرّاق المصاحف، نسأل الله أن يحرق المارق بناره لأن عثمان رضي الله عنه لم يرد بذلك إلا الخير، وكان سعى الصحابة بجمعه بموضع واحد بين دفتين لا غير، وزادهم عثمان بنسخه والأمر بالتقيد بما نسخوه، ومنع ما سواه من مراجعة الصحف واللخاف وغيرها وإرسال نسخ منه للبلاد الإسلامية، فالفرق بين جمعهم وجمعه هو ذلك لا غير، قال زيد بن ثابت: فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع الرسول يقرؤها (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) الآية 22 في ج 3، وقد وجدتها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري الذي جعل رسول الله شهادته شهادة رجلين، ويعرف بذي الشهادتين فألحقتها بسورتها ووجدت آخر سورة التوبة (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) مع خزيمة أو أبي خزيمة بن أوس بن زيد الأنصاري غير خزيمة الأول فألحقتها بسورتها، وذلك بسبب تفتت بعض اللخاف المسطورتين عليها، وهو يعرفها لأنه أحد الحافظين الأربعة، وانه كان ينسخ لنفسه ما ينسخه لحضرة الرسول، فيعرف ما ينقص من آي التنزيل ويعلم مواضعه، وهذا ليس اجتهادا منه بل لثبوت حفظها ولسماعها من حضرة الرسول ولتأكد ما يحفظه على ما هو بحفظ الغير لئلا ينفرد بشيء ما، إذ لا محل للاجتهاد في شيء من ذلك ولا في ترتيب السور والآيات بل هو أمر توقيفي كما ذكرنا في المطلب السابق، ومن قال خلاف هذا فلا قيمة لقوله، وهذا هو معنى القول الشائع بأن
عثمان جمع القرآن، أما ما اشتهر به بأنه هو الذي جمعه مبدئيا ولا جمع قبله، فقول باطل لأنه مجموع على زمن الرسول ومنسوخ في زمن أبي بكر كما ذكرنا.
أخرج أبو داود في المصاحف بسند حسن عن عبد خير قال: سمعت عليا يقول:
أعظم الناس في المصاحف أجرا أبو بكر رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع كتاب الله. واخرج ابن ابي داود من طريق ابن سيرين قال: قال علي لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم آليت أن لا آخذ علي ردائي إلا لصلاة جمعة حتى أجمع القرآن، فجمعته. ويراد من جمع علي كرم الله وجهه جمعه على الصورة المارة المتروكة من لون حضرة الرسول على الجريد واللخاف وغيرها، ومن قال إن عليا جمعه قبل عثمان، أراد هذا لا غير لأنه كان مجموعا زمن الرسول كما أشرنا إليه آنفا، ولم يجمعه في الصحف إلا أبو بكر ومن بعده عثمان رضي الله عنهما على الصورة المارة، ثم طلب من الأصحاب أن يضعوا له اسما غير أسماء الكتب المنقدمة عليه، فقال ابن مسعود:
في الحبشة كتاب يدعونه المصحف فسموه به، ثم انه رضي الله عنه حمل الناس سنة 27 من الهجرة على قراءة المصاحف التي نسخت بأمره ومشورة الأصحاب الموجودين في زمنه، بعد أن وزعت في الآفاق على صورة واحدة خشية الفتنة بسبب اختلاف أهل الشام والعراق في أوجه القراءات، كي يقرأ الناس كلهم على نمط واحد هذا وما قيل أنه روي عن عائشة انها قالت: إن في القرآن لحنا ستقيمه العرب بألسنتها، لم يثبت، كما أن ما روي عن عثمان ان في المصحف لحنا ستقيمه العرب بألسنتها، باطل، لأن الصحابة يسارعون إلى انكار أدنى منكر، فكيف يقرون اللحن في القرآن، ولأن العرب كانت تستقبح اللحن في مطلق الكلام فكيف لا يستقبحونه في القرآن، ولأن القرآن يقف عليه العربي والعجمي الذي لا يفرق غالبا اللحن، فكيف يقرونه لمن لا يعرفه إذا كانواهم عارفين، ولأنه لما بلغ عمر أن ابن مسعود قرأ (عن) بدل (حتى) على لغة هذيل، أنكر عليه وأمره أن يقرأ حتى على لغة قريش لأنه نزل بلغتهم، وهذا من الاختلاف الذي نهى النساخ عنه من حيث كتابة
بعض الكلمات بأن لا تكتبه في القرآن إلا بلغة قريش لأنها سيدة اللغات، ومثله التابوت بالتاء لا بالهاء على لغة غيرهم، وكذلك الصلاة تكتب بالواو، ولما أراد زيد بن ثابت أن يكتب التابوت بالهاء على لغة الأنصار منعه الأصحاب ورفعوه إلى عثمان، فأمره أن يكتبه بالتاء، وكذلك الصراط ويصطر يكتبان بالصاد على لغة قريش لا بالسين على لغة غيرهم، وهكذا كما هو ثابت بالصحيح أيضا.
مطلب وضع السور والآيات توقيفي أما النطق بما تقدم وكتابته في غير القرآن فلا مانع منه، وليعلم ان وضع الآيات في سورها ومحالها على النحو المرسوم في القرآن توقيفي، لأنه بتعليم من حضرة الرسول وإعلام من الأمين جبريل إليه عند نزولها وإشارته بأن يكتب هذه السورة بعد سورة كذا، وهذه الآية بعد آية كذا من سورة كذا كما تقدم بلا خلاف إذ رتبت سوره وآياته كلها وفق ما هو في اللوح المحفوظ، وقد صح من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعرض القرآن على جبريل في كل عام مرة في رمضان وفي العام الذي توفي فيه مرتين، ويقال إن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة، ولهذا كافه أبو بكر وعمر نسخ المصحف أولا، وأمر عثمان النساخ ان يتبعوه عند الاختلاف في شيء منه، وعلى هذه الصورة حفظ الله كتابه المصون تحقيقا لوعده فيه، ومن ثم حرق ما سوى المصاحف الستة أو السبعة على القول الأخير بعد تمام النسخ والتوزيع سنة 26 من الهجرة، ولم يزد او ينقص أو يبدل أو يغير أو يحرف حرف واحد مما أنزله الله، وبقي محفوظا مصونا إلى الآن، وسيبقى إن شاء الله إلى أن يرفعه، انجازا لوعده هذا. ومن قال انه أهمل شيء منه لا برهان له به، وقد كذب وافترى وخالف الإجماع بلا مراء، كيف وهو نور النبوة وبرهان الشريعة، لا سيما وقد تصدر للخلافة بعد نشر هذه المصاحف وحرق ما سواها الإمام الحازم علي عليه السلام باب مدينة العلم وعالم الأرض بعد ابن عمه وهو ذلك الأسد الشديد الرشيد، الذي لا تأخذه في الله لومة لائم،