الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في التقسيم
اعلم أولًا أن الشيء المنقسم يسمى مقسَّمًا، وموردَ القسمة، والأجزاءُ المنقسم هو إليها تسمى أقسامًا، وكل قسم بالنسبة إلى الآخر يسمى قسيمًا له.
والأجزاء الداخلة في المقسَّم ولم تذكر في الأقسام تسمى واسطة.
والتقسيم في اللغة: جعل الشي أقسامًا، أي أجزاء.
وهو في اصطلاح أهل هذا الفن ينقسم إلى نوعين:
الأول: تقسيم الكل إلى أجزائه.
الثاني: تقسيم الكلي إلى جزئياته.
أما تقسيم الكل إلى أجزائه فهو تحصيل الحقيقة المركبة بذكر جميع أجزائها التي تتركب منها، كقولك: الكرسي خشب ومسامير، والشجرة جذع وأغصان.
وأما تقسيم الكلي إلى جزئياته، فضابطه ذكر أفراد الكلي التي هو قدر مشترك بينها بأداة تقسيم كـ "إما" و"أو"، بشرط كون الأفراد متباينة أو متخالفة
(1)
.
(1)
راجع ما سبق ذكره عن قسمي التباين في المقدمة المنطقية ص 42.
كقولك: المعلوم إما موجود أو معدوم، والعدد إما زوج أو فرد، وقد قدمنا في المقدمة المنطقية إيضاح الكل والكلي والجزء والجزئي، وأوضحنا الفوارق بين تقسيم الكل إلى أجزائه والكلي إلى جزئياته فأغنى ذلك عن إعادته هنا
(1)
.
واعلم أن تقسيم الكلي إلى جزئياته يشمل تقسيماتٍ متعددةً باعتبارات مختلفةٍ، فيقسم باعتبار تباين الأقسام وتخالفها، إلى حقيقي واعتباري.
أما التقسيم الحقيقي فهو ما كانت الأقسام فيه متباينة في المفهوم والماصدق، أعني تباينها في العقل والخارج معًا.
وإيضاحه أن يكون العقل حدَّ لكم قسم من تلك الأقسام حقيقة تُباينُ حقيقة ما سواه، وبها يتميز عن غيره من الأقسام، ولا يكون في الخارج شيء واحد من تلك الأقسام يمكن أن تتحقق فيه الحقائق المتباينة، ولو باعتبارات مختلفة، كتقسيم العدد إلى زوج وفرد، والجسم إلى متحرك وساكن، فإن الزوج يباين الفرد مفهومًا وماصدقًا، والسكون يباين الحركة مفهومًا وماصدقًا، فتقسيم العدد إلى فرد وزوج، والجسمِ إلى متحرك وساكن، ونحوُ ذلك هو المسمى بالتقسيم الحقيقي.
وأما التقسيم الاعتباري فهو ما كانت الأقسام فيه متخالفة -أي متباينة- في المفهوم دون الماصدق، أعني تباينها في العقل وحده دون
(1)
راجع ص 26 وما بعدها من المقدمة المنطقية.
الخارج؛ لإمكان أن يوجد في الخارج شيء واحد تتحقق فيه حقائق الأقسام المختلفة في المفهوم باعتبارات مختلفة.
ومثاله ما يسمى في الاصطلاح بالنوع الإضافي، وقد أوضحناه فِيما مضى
(1)
، كالحيوان مثلًا فإنه جنس بالنسبة إلى ما تحته من الأفراد كالإنسان والفرس مثلًا، وهو نوع بالنسبة إلى ما فوقه كالنامي؛ لأن الحيوان نوع من جنس النامي، ونوعه الآخر النبات؛ لأنه نامٍ، أي يكبُر تدريجيًّا، وكالنامي؛ فإنه جنس بالنسبة إلى ما تحته من الأفراد كالحيوان والنبات، ونوع بالنسبة إلى ما فوقه كالجسم؛ لأن منه ناميًا وغير نام كالحجر.
فلو قسّمت الحيوان فقلت: الحيوان إما جنس وإما نوع، تعني بكونه جنسًا إضافته إلى ما تحته، وبكونه نوعًا إضافته إلى ما فوقه، فهذا التقسيم يسمى تقسيمًا اعتباريًّا؛ لأنك قسمت الحيوان فيه إلى جنس ونوع باعتبارين مختلفين. والجنس والنوع في هذا المثال مختلفان في المفهوم؛ لأن النوع يغاير مفهومُه مفهومَ الجنس كما تقدم إيضاحه في الكليات الخمس
(2)
، فقسما هذا التقسيم مختلفان في المفهوم، ولكنهما في هذا المثال المذكور متحدان في الماصدق، لأن عين المراد بالجنس فيه هو عين المراد بالنوع فيه، فالمراد بهما معًا إنما هو الحيوان، ولكنه صار جنسًا باعتبار، ونوعًا باعتبار آخر، فتغاير المفهوم بالاعتبارين، والماصدق واحد.
(1)
المقدمة المنطقية ص 53 - 55.
(2)
راجع ص 47 - 50.
وكما لو قلت: النامي إما جنس وإما نوع، تعني بكونه جنسًا إضافته إلى ما تحته كالحيوان والنبات، وبكونه نوعًا إضافته إلى ما فوقه كالجسم، وهكذا.
قال بعضهم: ألا ترى أن الملون جنس بالنسبة إلى الأسود والأحمر مثلًا، فتقول في تعريف الأحمر: هو الملون بالحمرة. وهكذا، مع أن الملّون نوع بالنظر إلى المكيف؛ لأن المكيف يتنوع إلى ملون ومشموم وملموس ونحو ذلك.
وهو أيضًا فصل بالنظر إلى الكثيف؛ لأنه يميز الكثيف عن اللطيف؛ لأنك تقول في تعريف الكثيف: هو جسم ملون.
والملوّن أيضًا خاصةٌ بالنظر إلى الجسم؛ لأن ما ليس بجسم كالهواء
(1)
لا يكون ملونًا.
والملون أيضًا عرض عام بالنسبة إلى الحيوان؛ لأن الجمادات ملونة أيضًا.
فصح في الملون أنه جنس باعتبار، ونوع باعتبار، وفصل باعتبار، وخاصة باعتبار، وعرض عام باعتبار، ومعلوم أن كل واحد من هذه الكليات الخمس يخالف غيره منها في المفهوم كما أوضحناه في تعريفنا لكل واحد منها في المقدمة المنطقية
(2)
، مع أن المقصود بجميعها لا يختلف في الماصدق؛ لأن المراد بها كلِّها الملونُ، فلو قلت: الملون إما جنس، وإما نوع، وإما فصل، وإما خاصة، وإما
(1)
الظاهر أنه يعني الفراغ، لا الغاز؛ فإنه جسم يتلون.
(2)
ص 47 وما بعدها.
عرض عام، فهذه الأقسام التي قسمت إليها الملون مختلفة في المفهوم، متحدة في الماصدق، وإذن فهذا التقسيم اعتباري لا حقيقي.
وبما ذكرنا تعلم أن التباين في اصطلاح أهل هذا الفن هو المخالفة في المفهوم والماصدق معًا.
وأن التخالف هو المخالفة في المفهوم فقط دون الماصدق، وقد قدمنا أنواع التباين في اصطلاح المنطقيين، وأنه ينقسم إلى تباين مخالفة وتباين مقابلة، وأوضحنا جميع أقسام كل
(1)
. واصطلاحات الفنون قد تختلف في الشيء الواحد.
وينقسم التقسيم بالنظر إلى طريق حصر المقسَّم إلى قسمين: عقلي واستقرائي.
وإيضاحه أنه لا طريق يعرف بها الحصر المذكور إلا العقل والاستقراء، ولا ثالث البتة.
فإن كان طريق الحصر العقلَ فهو تقسيم عقلي، وإن كان طريقه الاستقراءَ فهو تقسيم استقرائي.
واعلم أن ضابط التقسيم العقلي هو تقسيم المقسَّم إلى الشيء ونقيضه، أو إلى الشيء ومساوي نقيضه، فمثال تقسيمه إلى الشيء ونقيضه كقولك: العدد إما زوج وإما ليس زوج. والمعلوم إما موجود أو ليس بموجود؛ لما قدمنا من أن النقيضين هما السلب والإيجاب.
(1)
ص 42.
ومثال تقسيمه إلى الشيء ومساوي نقيضه قولك: العدد إما زوج وإما فرد، لأن لفظة (فرد) مساوية لـ (ليس بزوج)؛ لأن العقل يحكم بمجرد النظر في حصر الأقسام في الشيء ونقيضه، إذ لا واسطة بين النقيضين البتة، وكذلك: الشيء ومساوي نقيضه، فالعقل يحكم بمجرد النظر فيهما بحصر الأقسام فيهما.
وما يزعمه بعض المتكلمين
(1)
من أن ما يسمونه الحال المعنوية واسطةٌ ثبوتية بين المعدوم والموجود، فلا هي موجودة على الحقيقة، ولا هي معدومة على الحقيقة، لا شك في أنه باطل، وأنه من الأوهام الخيالية التي لا أساس لها من الحقيقة.
ولا شك أن العقل الصحيح يحكم بالحصر القطعي في الشيء ونقيضه أو مساوي نقيضه كما ذكرنا.
واعلم أن التقسيم العقلي قد يتعدد فتكون الأقسام أكثر من اثنين، كقوله تعالى:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيرِ شَيءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)} [الطور: 35] فإنه يتضمن تقسيمين عقليين قطعييين، وبهما تكون الأقسام ثلاثة.
وإيضاحه أن تقول: إما أن يكون خلْقُهم صدر من خالق هو خالقهم، أو لم يصدر من خالق أصلًا، وهذا تقسيم عقلي قطعي، منحصر في النقيضين المذكورين، ثم تُقسم أحد القسمين تقسيمًا عقليًّا
(1)
اشتهر بذلك منهم أبو هاشم الجبائي من أئمة المعتزلة (ت 321 هـ). انظر حول هذه المسألة "مذاهب الإسلاميين" للدكتور عبد الرحمن بدوي، ص 342 وما بعدها.
آخر فتقول: وعلى فرض أنهم خلقهم خالق فلا يخلو: إما أن يكون ذلك الخالق هو أنفسهم، أو ليس بأنفسهم، [فصح]
(1)
بالحصر العقلي انحصار الأقسام في ثلاثة:
الأول: أنهم خلقوا من غير شيء خالق لهم.
الثاني: أنهم خلقهم خالق هو أنفسهم.
الثالث: أنهم خلقهم خالق غير أنفسهم.
ومعلوم بطلان القسمين الأولين، وصحة الثالث كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله -تعالى-.
وأما التقسيم الاستقرائي الذي هو ما كان حصر المقسم في أقسامه فيه بطريق الاستقراء فهو ما لا يحكم العقل فيه بحصر، ولكن صاحب التقسيم استقرأ الأقسام أي تتبعها حتى علم بالتتبع والاستقراء أنه لم يبق قسم فِي الخارج غير ما ذكر.
كقولهم العنصر: إما ماء، وإما تراب، وإما هواء، وإما نار، وزعموا أنهم استقصوا تتبع أقسام العنصر فلم يجدوا له في الخارج من الأقسام إلا هذه الأربعة، مع أن العقل يجوز وجود غيرها من الأقسام.
وكقولهم: الكلمة إماسم، وإما فعل، وإما حرف.
وكقولهم: المبتدأ إما ظاهر، وإما مضمر.
(1)
في المطبوع: (وصح) بالواو، والسياق يقتضي ما أثبته.
وكقولهم: الخبر إما مفرد، أو جملة، أو شبه جملة، كالظرف والجار والمجرور، ونحو ذلك.
فتتبع الأفراد الخارجية حتى لم يبق منها فرد هو الحصر الاستقرائي.
وأصل الاستقراء من قولهم: استقريت البلد، إذا تتبعته قرية قرية.
واعلم أن الحصر في التقسيم قد يكون قطعيًّا وقد يكون ظنيًّا، فالعقلي قطعي مطلقًا، والاستقرائي قد يكون قطعيًّا، كقولنا الخبر إما مفرد أو جملة أو شبه جملة؛ لأنا نقطع أن تتبع أفراد الخبر الخارجية يعلم به أنه ليس قسم رابع للخبر، وقد يكون ظنيًّا.
تنبيه: اعلم أن الأصل في التقسيم العقلي أن يؤتى به عن طريق الترديد بين النفي والإثبات، كما قدمنا من أن أصله التقسيم إلى الشيء ونقيضه، والنقيضان هما النفي والإثبات، كقولك: المعلوم إما موجود وإما لا.
وأما التقسيم الاستقرائي فالأصل فيه ألا يكون بالترديد بين النفي والإثبات، كما قدمنا في المثال بالعناصر وأقسام الكلمة وأقسام المبتدأ وأقسام الخبر.
وقد يعرض لصاحب التقسيم عارض يستوجب إيراد الاستقرائي على طريق إيراد العقلي، وذلك كقصد ضبط الأقسام ومنع انتشارها، كقولهم: العنصر إما تراب أو لا، وهذا إما ماء أو لا، وهذا إما هواء أو لا، وهو النار.
والقسم الأخير في هذا النوع يكون أعم من نفس المراد به؛ لأن نقيض الهواء أعم من النار كما ترى.
وكقولهم الكلمة إما أن تدل على معنى في نفسها وإما لا، والثاني هو الحرف، والأول إما أن يكون الزمن جزءًا من مفهومه وإما لا، الأول الفعل، والثاني الاسم.
فنحو هذا من التقسيم الاستقرائي جيء به على صورة التقسيم العقلي بين الإثبات والنفي للعارض المذكور.
فإذا جاء صاحب التقسيم بكل نوع من هذين النوعين على ما هو الأصل فيه لم يلتبس أحدهما بالآخر، وإذا جاء بالاستقرائي في صورة العقلي، أو بالعقلي في صورة الاستقرائي التبس أحدهما بالآخر.
والتباس الاستقرائي بالعقلي يضر صاحبه؛ لأن خصمه يتوهم أن التقسيم عقلي فيعترض عليه بتجويز العقل قسمًا آخر، الذي هو مفروض في الاستقرائي، فيضطر إلى بيان أنه استقرائي جيء به في صورة العقلي.
بخلاف التباس العقلي بالاستقرائي، فلا يضر؛ لأن العقل فيه لا يجوّز قسمًا آخر.
وزاد بعض أهل هذا الفن التقسيم الجعلي والقطعي: أما الجعلي فكتقسيم المؤلف كتابًا أبواب الكتاب أو فصوله إلى عشرة مثلًا، فالمؤلف هو الذي جعل الأقسام عشرة، فهو جعلي بالنسبة إليه، واستقرائي بالنسبة إلى قارئ الكتاب.
وأما القطعي فهو ما كان قطع العقل فيه بنفي قسم آخر مستندًا إلى دليل أو تنبيه، ومثاله أن يدل على الحصر المذكور إجماع شرعي، ومثل له بعض الأصوليين بإجبار البكر البالغة على النكاح عند من يقول به، فإن علة الإجبار إما البكارة، وإما الجهل بالمصالح، فإن قال المعترض: أين دليل الحصر في الأمرين؟ أجيب بأنه هو الإجماع على عدم التعليل بغيرهما، فإسناد التقسيم المذكور إلى الإجماع صغيّره قطعيًّا، ومعلوم أن التقسيم القطعي أعم من هذا التقسيم، ولكن لا مشاحة في الاصطلاح.