الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تطبيق قواعد البحث والمناظرة التي كنا نوضحها على الاعتراضات المعروفة في فن الأصول بالقوادح
اعلم أنا نريد أولًا أن نطبقها في الأدلة الثلاثة المذكورةِ في البحث والمناظرة، وهي النقض الإجمالي، والمناقضة التي هي المنع، وتسمى بالنقض التفصيلي، والمعارضة بأقسامها.
واعلم أنا سنقدم أمام هذا البحث ثلاثة تنبيهاتٍ لا بد لطالب العلم منها:
التنبيه الأول: اعلم أن قياس التمثيل الذي هو القياس الأصولي المعروف بقياس الفقهاء وهو أحد أدلة الفقه الأربعة التي هي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس عند غير الحنابلة =
(1)
لا فرق بينه وبين القياس المنطقي في الحقيقة؛ لأنك كلما جعلت الفرع فيه حدًّا أصغرَ والأصلَ حدًّا أكبرَ والعلةَ حدًّا أوسطَ كان قياسًا اقترانيا من الشكل الأول، فلو قلتَ مثلًا: الذرة يحرم فيها الرِّبَا قياسًا (سقط) على البر بجامع الكيل، كما يقوله الحنفي والحنبلي، أو بجامع الطُعم كما يقوله الشَّافعي، أو بجامع الاقتيات والادخار - قيل: وغلبةِ العيش - كما يقوله المالكي، فهذا قياس تمثيل، وهو القياس الأصولي.
(1)
لأن الحنابلة يجعلون الرابع استصحاب الحال. انظر روضة الناظر لابن قدامة ص 60.
والفرع فيه الذرة، والأصل فيه البر، والعلة الكيل أو الطعم أو الاقتيات والادخار.
فإن جعلت الذرة في هذا القياس حدًّا أصغرَ والبرَّ حدًّا أكبرَ والكيلَ مثلًا حدًّا أوسطَ كان قياسًا اقترانيًا من الشكل الأول.
وكيفيةُ نظمه أن يقول: الذرة مكيلة، وكل مكيل يحرم فيه الرِّبَا، ينتج من الشكل الأول: الذرة يحرم فيها الرِّبَا.
وكذلك لو قلت: الذرة مقتاتة مدخرة، وكل مقتات مدخر يحرم فيه الرِّبَا، ينتج أيضًا من الشكل الأول: الذرة يحرم فيها الرِّبَا.
وهكذا فهو مطرد في كل قياس أصولي؛ فإنه راجع إلى القياس المنطقي الاقتراني المعروف بالحملي والشمولي على نحو ما ذكرنا، وبه تعلم أن تفريق المنطقيين بين قياس [التمثيل]
(1)
وقياس الشمول زاعمين أن الأول لا يفيد القطع والثانيَ يفيده غلط منهم؛ لأن مرجعهما في الحقيقة إلى واحد.
وكونُ النتيجة قطعيةً أو غيرَ قطعيةٍ راجعٌ في كل منهما إلي المقدمات التي تركب منها الدليل، فإن كانت قطعية فالنتيجة قطعية، وإلا فلا.
وبه تعلم أن قول الأخضري في سلّمه
(2)
:
(1)
في المطبوع: (التمثيلي).
(2)
ص 75، مع حاشية الباجوري وتقرير الأنبابي.
ولا يفيدُ القطعَ بالدليلِ
…
قياسُ الاستقراء والتمثيلِ
غلط منه، كما غلط فيه عامة المنطقيين.
وإذا علمت أن كل قياس أصولي فهو راجع بالطريقة التي ذكرنا إلى قياس منطقي اقتراني من الشكل الأول، فاعلم أن في تطبيق القوادح على البحث والمناظرة إذا جئنا بالدليل في صورة قياس تمثيلي فإنما فعلنا ذلك لأنه في قوة قياس منطقي كما أوضحناه.
والقياس المنطقي هو الدليل الذي يوجه إليه الاعتراض في البحث والمناظرة.
التنبيه الثاني: هو ما قدمنا من أن فن الأصول إذا جاءت فيه كلية موجبة مثلًا في كتاب أو سنة ثم جاءت في نص آخر جزئيةٌ سالبةٌ مناقضةً لها أن ذلك لا يُعدّ تناقضًا في فن الأصول؛ بل تكون السالبة الجزئية مخصِّصةً لعموم الموجَبة الكلية، كما أوضحنا في المقدمة المنطقية
(1)
مع أمثلة قرآنية، وإنَّما يعد تناقضًا مستلزمًا لبطلان أحدهما في فن المنطق.
واعلم أن فن البحث والمناظرة كذلك؛ لما ذكرنا مرارًا من أن إنتاج نقيض الدعوى أو مساوى نقيضها أو أخصَّ من نقيضها مستلزمٌ بطلانَها، كما أوضحناه مرارًا.
وبهذا تعلم أنَّه ما كل دليل مبطلٍ دليلًا في البحث والمناظرة يبطلُه
(1)
ص 94.
في الأصول، لأن تخصيص أحدهما بالآخر في فن الأصول مانعٌ من التناقض المستلزمِ بطلانَ أحدهما في المنطق والبحث والمناظرة.
وقد قدمنا أمثلة متعددة لذلك، منها أن قوله - تعالى -:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، في قوة كلية موجبة هي (كل مطلقة تتربص بنفسها ثلاثة قروء)، وقولَه - تعالى -:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ} [الأحزاب: 49] في قوة جزئية سالبة مناقضة للكلية الموجبة المذكورة، وهي اليس بعض المطلقات يتربصن بأنفسهم ثلاثة قروء) وهن المطلقات قبل الدخول؛ لأنهن لا عدة عليهن، إلى آخر الأمثلة القرآنية التي قدمنا.
فهذه الموجبة الكلية لا تنقضها هذه السالبة الجزئية في الأصول، بل تكون مخصِّصةَ لعمومها، والتخصيص هو قصر العام على بعض أفراده بدليل، كما هو مقرر في الأصول، ومعلوم أن الجزئية السالبة هي بعينها نقيض الموجبة الكلية، كما قال الأخضري في سلمه
(1)
:
فإن تكن موجبة كلية
…
نقيضُها سالبةٌ جزئية
أما في فن المنطق وفن البحث والمناظرة فإثبات السالبة الجزئية يقتضي إبطال الموجبة الكلية، لأن إثبات النقيض يستلزم نفي نقيضه الآخرِ كما أوضحناه مرارًا.
(1)
ص 57، مع حاشية الباجوري.
ومرادنا بهذا التفصيل بين فن الأصول وفن البحث والمناظرة والمنطق أن تعلم أن ما كلُّ ما يبطل الدليل في البحث والمناظرة يبطلُه في الأصول، بل قد يبطله في البحث والمناظرة لمناقضته له، ويكون مخصِّصًا له في فن الأصول لا مبطلًا له، فافهم ذلك.
وبالاختلاف المذكور قد تختلف الأجوبة عن الاعتراض في الأصول عن الأجوبة في البحث والمناظرة.
التنبيه الثالث: اعلم أن الذي جاء مسمى باسمه من [القوادح]
(1)
الأصولية فيما ذكرنا في طرق البحث والمناظرة ثلاثةُ قوادحَ فقط، هي التي ذُكرت أسماؤها في البحث والمناظرة مطابقةَ لأسمائها في مبحث القوادح في الأصول: وهي النقض، والمنع المعروف بالمناقضة، والمعارضة.
وغيرُ هذه الثلاثةِ من القوادح لم نذكر له اسمًا فيما ذكرنا في البحث والمناظرة، وسنتكلم أولًا على الثلاثة المسماة في الفنين، ثم نذكر ما تيسر من تطبيق ما لم يُسمَّ في البحث والمناظرة من القوادح على ما سُمّي منها.
(1)
في المطبوع: (القواعد).