الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فصل في الكسر]
(1)
تنبيه: اعلم أن ما قدمنا
(2)
مما يسميه أهل البحث والمناظرة بالنقض المكسور وأوضحناه بأمثلة وبينا المقبولَ منه والمردود = له شبه في الجملة بالقادح المسمى في اصطلاح أهل الأصول بالكسر.
واعلم أن ضابط القادح المسمى في اصطلاح أهل الأصول بالكسر هو أن يبيّن المعترض خللًا في بعض أجزاء العلة، وذلك بثلاثة أمور:
الأول: بيانه وجود الحكم دون حِكمته.
الثاني: عكسه، وهو وجود الحِكمة دون حُكمها.
والثالث: إبطال المعترض بعضَ أجزاء العلة المركّبة، ويكون الباقي من الأجزاء بعد الجزء الذي أبطله ليس صالحًا للتعليل، بشرط عجز المستدل عن الإتيان ببدلٍ صالح للتعليل في مكان الجزء الذي أبطله المعترض.
واعلم أولًا أن الحكمة في اصطلاح أهل الأصول هي جلب المصلحة أو تكميلُها، أو دفع المفسدة أو تقليلُها، وضابطها أنَّها هي التي صار الوصف علة من أجلها، كما قال في تعريفها صاحب مراقي السعود
(3)
:
(1)
هذا العنوان زيادة يقتضيها السياق وترتيب فصول الكتاب.
(2)
ص 237، 238.
(3)
ص 84، رقم (665).
وهي التي من أجلها الوصفُ جرى
…
علةَ حُكمٍ عند كلِّ من دَرى
فتحريم الخمر مثلًا هو الحكم، والإسكار هو علة التحريم، والمحافظة على العقل هي الحكمة؛ لأنها هي التي من أجلها صار الإسكار علةً لتحريم المسكر، وهكذا.
وإذا عرفت ذلك فاعلم أن وجود الحكم بدون حكمته قد قال بعض أهل العلم إنه كسر قادح في العلة؛ لتخلف حكمتي التي صارت من أجلها علة، وقال بعضهم إنه ليس بقادح.
ووجه قول من قال إنه قادح ظاهر؛ لتخلف الحكمة التي هي أساس العلة التي صارت من أجله علة.
ومن قال إنه ليس بقادح أن إنه لا يكون إلَّا في المعلَّل بالمظانّ، والمعللُ بالمظانّ، لا يتخلف فيه الحكم بتخلف الحكمة؛ نظرًا إلى إناطة الحكم بالمَظِنَّة لا بنفس الحكمة، وأشار إلى هذا الخلاف صاحب مراقي السعود
(1)
بقوله:
وفي ثبوت الحكم عند الانتفا
…
للظنِّ والنفيِ خلافٌ عُرِفا
والفروع المبنية على هذه القاعدة منها ما يرجّح فيه بعض العلماء ثبوت الحكم؛ بناء على أن هذا النوع من الكسر ليس بقادح، ومنها ما يرجّح بعضهم انتفاءَ الحكم فيه لانتفاء حكمته؛ بناء على أن هذا النوع من الكسر قادح.
(1)
ص 85، رقم (671).
ومن الفروع المبنية على ذلك استبراء الصغيرة؛ لأن تجدّد مِلْك الأمة علةٌ لاستبرائها، وحكمة الاستبراء هي تحقيق براءة الرحم من الحمل، وهي متحقِّقة في الصغيرة بدون الاستبراء.
وكمن مسكنُه على البحر ونزل منه في سفينة قطعت به مسافة القصر في لحظة، فهل يجوز له قصر الصلاة والفطرُ في رمضان لوجود علة ذلك وهي السفر، أو لا يجوز له ذلك نظرًا إلى تخلف الحكمة التي هي رفع المشقة؛ إذ لا مشقة على المذكور أصلًا؟ .
ومنها شرع الاستنجاء من خروج حصاة منه لا بلل معها، ووجوبُ الغسل على النفساء من وضع الولد جافًا لا دم معه.
ومنها عدم نقض الوضوء بمس الذكر إذا لم توجد اللذةُ في اللمس بباطن الكف أو الأصابع.
ومنها نقض الوضوء بالقبلة على الفم إذا لم توجد اللذة.
ومنها ما لو قال لامرأته: أنت طالق مع آخر جزء من الحيض؛ فإنه طلاقٌ صادفَ الحيض، وهو علةٌ لتحريم الطلاق، ولكنْ يستعقبُ العدةَ فلا تطويل فيه، فالحكمة الموجبة للمنع التي هي التطويل منتفية هنا.
ومنها ما لو قال: أنت طالق مع آخر جزء من الطهر؛ فإنه عكسُ الصورة المذكورة قبله.
في قول من قال (إن تخلّف الحكمة عن الحكم قادحٌ في العلة) فلا [يجوز]
(1)
عنده قصرُ الصلاة والإفطار في رمضان لمن لم تلحقْه
(1)
في المطبوع: (يجب)، ولعلها سبق قلم.
مشقةٌ أصلًا، ولا يجب عنده الغُسْل بخروج الولد جافًا من الدم، ولا يُنقض عنده الوضوءُ بدون اللذة في لمس ذكرٍ أو تقبيل، ولا يُمنع عنده الطلاقُ مع آخر جزء من الحيض لأنه تطويلٌ وإن كان نفسُ الطلاق واقعًا في آخر جزء من الطهر.
ومن قال (إن هذا النوعَ من الكسر غيرُ قادح) فإنه يلزم على قوله استبراء الصغيرة، وجواز القصْر والإفطار لمن لم تلحقْه مشقةٌ بسفره، والوضوءُ من حصاة لا بلل معي، ونقضُ الوضوء باللمس وإن لم توجد اللذة، إلى آخر ما ذكرنا من المسائل المبنية على الخلاف في هذه المسألة.
والحاصل أن من قال من أهل العلم: إن الحكم منتف في المسائل المذكورة لانتفاء علته، فهو قول منه بأن هذا النوع من الكسر قادح، وعلى قوله فلا إشكال؛ لأن العلة إذا بطلت بالكسر المذكور لم يوجد حكمها؛ لعدم وجود علته.
ومن قال من أهل العلم: إن الحكم فيها باقٍ مع تخلف الحكمة فلقوله توجيهان:
أحدُهما: أنَّه قائل بأن هذا النوع من الكسر ليس بقادح.
والثاني: أنَّه قادح، ويجيب عن عدم القدح به في المسائل المذكورة بأني إنما عُلّق الحكمُ بها بمَظِنّة وجود الحكمة، والمعروف أن المعلل بالمظان لا يتخلف الحكم فيه بتخلف الحكمة؛ لأن الحُكم فيه منوط بالمظنة لا بنفس الحكمة؛ وأشار بعض أهل العلم إلى هذا
بقوله:
إن عُلّلَ الحكمُ بعلةٍ غَلبْ
…
وجودُها اكْتفي بذا عن الطلب
لها بكل صورة إلخ.
وعلى هذا فالمانع من القدح بهذا النوع من الكسر إناطة الحكم بمظنة الحكمة لا بنفس الحكمة؛ وذلك لأن نفس الحكمة ربما لا يمكن انضباطها في بعض الأحوال.
كما لو عُلّق حكم قصر الصلاة وجوازُ الإفطار في رمضانَ مثلًا بحصول المشقة، فإن هذه الحكمةَ لا تنضبط؛ لاختلافها باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمنة، فأنيط الحكم بسفر أربعة بُرُدٍ
(1)
مثلًا؛ لأنه مظنة المشقة، ومن هنا لم يُنظر إلَّا للمظنة، وأُلغي نفس الحكمة عند من يقول بذلك، فأجاز الفطر والقصر لمن سافر أربعة بُرُدٍ وإن لم تلحقه مشقة؛ لأن سفرها مظنة المشقة، وهو حاصل، فاكتُفيَ بمظنة الحكمة عن نفس الحكمة.
واعلم أن هذه المسائلَ التي ذكرنا أنَّها مفرعةٌ على هذه المسألة مختلفٌ فيها بين أهل العلم، فمن أثبت الحكم مع تخلف الحكمة فهو إما قائل بأن ذلك الكسر غير قادح، أو أنَّه قادح مُنع من اعتباره إناطة الحكم بالمظنة.
ومن نفى فيها الحكم لتخلف حكمته فهو قائل بأن الكسر المذكور
(1)
جمع بريد، والبريد يساوي اثني عشر ميلًا.
قادح كما أوضحنا قريبًا.
وأما تخلف الحكم عن حكمته فهو أحد أنواع الكسر، والأظهر أن هذا النوع من الكسر غير قادح، وجزم بذلك ابن قدامة في روضة الناظر
(1)
، واختاره ابن الحاجب في بعض المواضع في مختصره الأصولي
(2)
، ومثّل له بقول الحنفي في المسافر العاصي بسفره: مسافر، فيترخص بسفره كغير العاصي، فإذا قيل له: ولم قلتَ إن السفر علة للترخيص؟ قال: بالمناسبة لما فيه من المشقة المقتضيةِ للترخيص؛ لأنه تخفيف، وهو نفع للمترخِّص.
فيُعترض عليه بصنعة شاقة في الحضر، كحمل الأثقال وضرب المعاول وما يوجب قربَ النار في ظهيرة القيظ في القُطر الحار، فههنا قد وُجدت الحكمة وهي المشقة، ولم يوجد الحكم الذي هو قصر الصلاة وإباحة الفطر مثلًا.
والجواب عن هذا الكسر بتخلف الحكم مع وجود الحكمة أن الشرع إنما اعتبر مشقة السفر، فالعلة في الترخيص المذكور السفر، وحكمتها رفع المشقة، والتخفيف على المسافر، فأصل العلة لم يوجد في هذا الكسر، وإنَّما وجدت فيه الحكمة فقط، فلم يقع كسرٌ في العلة؛ لعدم وجودها أصلًا في صورة الكسر المذكور، وسفرُ العاصي بسفره علة للترخيص، والمانع من تأثيرها عند من يقول بذلك أن
(1)
ص 310.
(2)
(3/ 47) مع شرح الأصفهاني، جامعة أم القرى، 1406 هـ.
الترخيص تخفيف، والتخفيف على العاصي إعانة له على معصيته، والله - جل وعلا - يقول:{وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)} [المائدة: 2].
ومن أنواع الكسر إبطال المعترض جزءًا من المعنى المعلَّل به، ونقصُه ما تبقى من أجزاء ذلك المعنى المعلل به، فعلم أن هذا النوع من الكسر لا يكون إلَّا في العلل المركبة من وصفين فأكثر.
والقدح بهذا النوع مقيدٌ بعجز المستدِل عن الإتيان ببدلٍ من الوصف الذي أبطله المعترض، فإن ذكر بدلًا صالحًا لأن يكون علة الحكم أُلغي الكسر واستقام الدليل.
وإبطال الجزء بأن يبيّن المعترض أنَّه مُلغىً بوجود الحكم عند انتفائه، والمراد بنقص الباقي عدمُ تأثيره في الحكم، وله صورتان:
الأولى: أن يأتيَ المستدلِ ببدلِ الوصف المسقَط عن الاعتبار، كأن يقول في وجوب أداء صلاة الخوف: هي صلاة يجب قضاؤها لو لم تفعل، فيجب أداؤها قياسًا على صلاة الأمن؛ فإنها كما يجب قضاؤها لو لم تفعل يجبُ أداؤها، فوجوبُ القضاء هو العلة، ووجوبُ الأداء هو الحكم المعلَّل بتلك العلة.
فيقولُ المعترض: خصوص الصلاة في دليلك مُلغَى، ويبين ذلك بأن الحج واجب الأداء كالقضاء.
فيبدلُ المستدل خصوصَ الصلاة الذي أبطله المعترضُ بوصفٍ عام وهو العبادة، فيقول: هي عبادة يجب قضاؤها لو لم تفعل، إلى
آخره.
فينقض عليه المعترض هذا البدلَ أيضًا بصوم الحائض؛ فإنه عبادة يجب قضاؤها ولا يجب أداؤها، بل يحرم.
الصورة الثانية: ألا يبدّل المستدل الوصف الذي أبطله المعترض، فلا يبقى للمستدِل علةٌ في المثال المذكور إلَّا قولُه: يجب قضاؤها.
فينقضه المعترض بأنَّ يقول: ليس كلُّ ما يجب قضاؤه يجب أداؤه، بدليل صوم الحائض في رمضان؛ فإنه عبادة يجب قضاؤها ولا يجب أداؤها، بل يحرم.
ومثال الإتيان ببدل صالح للتعليل أن يقول مشترط النية في الوضوء: الوضوء طهارةٌ واجبة فتشترط لها النية كغيرها من الواجبات.
فيقول المعترض: خصوص الطهارة مُلغَى، لأنه لا أثر له في وجوب النية؛ لأن طهارة الخبث طهارة لا تشترط لها النية إجماعًا.
فيُبْدِل لفظ الطهارة الذي أبطله المعترض بغيره فيقول: الوضوء قربة غيرُ معقولة المعنى؛ لأن موجَبَها في غير محل موجِبها، فتشترط لها النية كسائر القرب التي هي ليست معقولةَ المعنى.
وقصْدُنا المثال لا مناقشةُ أَدلة الأقوال.
وقد بيّنا فيما مضى أنا إن جئنا بالدليل على صورة القياس الأصولي كهذه الأمثلة التي ذكرنا آنفًا، فإننا إنما نفعل ذلك لأنه في قوة قياس منطقي اقتراني، بجعل الفرع حدا أَصغر، والأصلِ حدًّا أكبر،
والعلةِ حدًّا أوسط، كما أوضحناه سابقًا بأمثلته
(1)
.
وقد تكلمنا فيما مضى على قادحين من القوادح في الدليل عند أهل الأصول:
الأول النقض، وبيّنا أن النقض في اصطلاح أهل الأصول [داخل]
(2)
في المراد بالنقض في فن البحث والمناظرة، لأنه في فن البحث والمناظرة صادق بتخلف كل مدلول عن دليله، وكل استلزام [للمُحال]
(3)
كما تقدم إيضاحه
(4)
.
وفي اصطلاح أهل الأصول لا يطلق إلَّا على تخلف مدلول خاص عن دليله، وهو تخلف الحكم عن علته في حال كونها موجودة؛ لأن العلة دليل الحكم، ووجودُها بدونه وجودٌ للدليل بدون مدلوله، وأوضحنا كلام أهل الأصول فيه والأجوبة عنه.
الثاني الكسر، وإنَّما ذكرناه هنا في اصطلاح أهل الأصول وبينا صورة الجواب عنه على القول بأنه قادح لأنه له شبهٌ بالنقض المكسور في البحث والمناظرة؛ لأن النقض المكسور يَحْذِف فيه السائل بعض أجزاء الدليل، والكسرُ في فن الأصول يُبطل فيه المعترض بعض أجزاء العلة كما تقدم قريبًا.
(1)
ص 291.
(2)
في المطبوع: (وداخل)، بواو، ولا يستقيم الكلام معها.
(3)
في المطبوع: (للحال).
(4)
ص 234.