الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النسب الأربع
واعلم أن كل معقولين لا بد أن تكون بينهما إحدى نسب أربع لا خامسةَ لها وهي: المساواة، والتباين، والعموم والخصوص المطلًق، والعموم والخصوص من وجه.
وبرهان الحصر في الأربع أن المعقولين إما ألا يجتمعا البتة، أو لا يفترقا البتة، أو يجتمعا تارة، ويفترقا أخرى.
فإن كانا لا يجتمعان البتة فهما المتباينان، كالإنسان والحجر؛ فإن كل ذات ثبتت لها الإنسانية انتفت عنها الحجرية، كعكسه، فالنسبة بين الإنسان والحجر التباين.
وإن كانا لا يفترقان البتةَ فهما المتساويان، كالإنسان والناطق، فإن كل ذات ثبتت لها الإنسانية ثبتت لها الناطقية، كعكسه، فالنسبة بين الإنسان والناطق المساواة.
وإن [كانا]
(1)
يجتمعان تارة ويفترقان أخرى فلهما حالتان:
الأولى: أن يكون أحدُهما يفارقُ صاحبَه، والآخرُ لا يمكن أن يفارقه.
الثانية: أن يكون كلُّ واحد منهما يفارقُ الآخرَ في بعض الصور، مع أن المفروض الاجتماع في بعضها.
(1)
في المطبوع: (كان).
فإن كان الذي يفارق واحدًا منهما فقط دون الآخر، فهما اللذان بينهما العموم والخصوص المطلق، والذي يفارق أعمُّ مطلقًا، والذي لا يفارق أخصُّ مطلقًا، كالحيوان والإنسان؛ فإن الحيوان يفارق الإنسان؛ لوجوده دونه في الفرس والبغل مثلًا، والإنسان لا يمكن أن يفارق الحيوان؛ إذ لا إنسان إلا وهو حيوان، فلا يفارقُ الإنسانُ الحيوانَ بحال، فالحيوان أعمُّ مطلقًا، والإنسان أخصُّ مطلقًا فالنسبة بينهما العموم والخصوص المطلق.
وإن كان كل منهما يفارقُ الآخر فهما اللذان بينهما العموم والخصوص من وجه، كالإنسان والأبيض، فإنهما يجتمعان في الإنسان الأبيض، كالعربي والرومي، وينفرد الأبيض عن الإنسان في الثلج والعاج مثلًا، وينفرد الإنسان عن الأبيض في الزنجي مثلًا، فهو إنسان أسود.
وإذا عرفت هذه النسبَ الأربعَ فاعلم أنها هي الميزانُ الذي يُعرف به الصادق والكاذب من القضايا:
فكل قضية كانت النسبة بين طرفيها التباينَ فهي صادقة السلْبين، كاذبةُ الإيجابين -أعني بالسلبين: السلبَ الكليَّ والجزئي، وبالإيجابين: الإيجابَ الكليَّ والجزئي-، فلا تكذبُ سالبةٌ مطلقًا، ولا تصدُق موجبةٌ مطلقًا.
فلو ركّبْتَ قضية من الإنسان والحجر صدقَتْ في كل سلب، كقولك:(لا شيء من الحجر بإنسان)، و (لا شيء من الإنسان بحجر)، و (بعض الحجر ليس بإنسان)، و (بعض الإنسان ليس
بحجر)، كل ذلك صادق
(1)
.
وكذبَتْ في كل إيجاب كقولك: (كل إنسان حجر)، أو (كل حجر إنسان)، أو (بعض الإنسان حجر)، و (بعض الحجر إنسان)، كل ذلك كاذب.
وإن كانت النسبة بين طرفيها المساواةَ فهي صادقة الإيجابين، كاذبة السلبين -أعني الإيجابَ الكليَّ والإيجابَ الجزئي، والسلب الكلي والسلب الجزئي-، فلا تكذب في إيجاب مطلقًا، ولا تصدق في سلب مطلقًا.
فلو ركّبْتَ قضية من الإنسان والناطق فإنها تصدق في كل إيجاب، كقولك:(كل إنسان ناطق)، و (كل ناطق إنسان)، و (بعض الإنسان ناطق)، و (بعض الناطق إنسان)، فكله صادق.
وتكذب في كل سلب كقولك: (لا شيء من الإنسان بناطق)، و (لا شيء من الناطق بإنسان). و (بعض الإنسان ليس بناطق)، و (بعض الناطق ليس بإنسان)، فكل ذلك كاذب.
وإن كانت النسبة بين طرفيها العمومَ والخصوصَ من وجه فهي صادقة الجزئيتين -أعني الجزئية الموجبة، والجزئية السالبة-، كاذبةُ الكليتين -أعني الكلية الموجبة والسالبة- فلا تكذِبُ في جزئية مطلقًا،
(1)
يلاحظ هنا أن مفهوم المخالفة لا اعتبار له في فن المنطق، فلا يُعترض على صدق (بعض الحجر ليس بإنسان) ونحوها بأنه يلزم منه أن يكون البعض الآخر إنسانًا، فيناقض (لا شيء من الحجر بإنسان).
ولا تصدُقُ في كلية مطلقًا.
فلو ركبْتَ قضية من الإنسان والأبيض فإنها تصدق في كل جزئية، كقولك:(بعض الأبيض إنسان) و (بعض الإنسان أبيض)، و (بعض الأبيض ليس بإنسان)، و (بعض الإنسان ليس بأبيض)، فكل ذلك صادق.
وتكذب في كل كلية، كقولك:(كل إنسان أبيض)، و (كل أبيض إنسان)، أو (لا شيء من الإنسان بأبيض)، و (لا شيء من الأبيض بإنسان)، فكل ذلك كاذب.
وإن كانت النسبة بين طرفيها العمومَ والخصوصَ المطلقَ فلها حالتان:
الأولى: أن يكون الموضوع أخصَّ والمحمولُ أعمَّ.
الثانية: أن يكون الموضوع أعمَّ والمحمولُ أخصَّ.
فإن كان الموضوع أخصَّ مطلقًا جرت على حكم المتساويين، فلو ركبت قضية من الإنسان والحيوان، وجعلت الإنسان هو الموضوع، فإنها تصدق في كل إيجاب، وتكذب في كل سلب، كالمتساويين، فقولك:(كل إنسان حيوان)، أو (بعض الإنسان حيوان) كله صادق، وقولك:(لا شيء من الإنسان بحيوان) أو (بعض الإنسان ليس بحيوان)، كله كاذب.
وإن كان الموضوع أعمَّ والمحمولُ أخصَّ، كما لو ركبت قضية من الإنسان والحيوان، وجعلتَ الحيوان موضوعًا والإنسان محمولًا،
فإنها تجري على حكم الأعمّين من وجه، فلا تكذبُ في جزئية، ولا تصدقُ في كلية.
فلو قلتَ: (بعض الحيوان إنسان) أو (بعض الحيوان ليس بإنسان)، فكل ذلك صادق، بخلاف الكلّية؛ فإنها كاذبة هنا مطلقًا، كما لو قلت:(كل حيوان إنسان) أو (لا شيء من الحيوان بإنسان)، فكله كاذب.
واعلم أن التباين الذي هو إحدى النسب الأربع ينقسم إلى قسمين وهما: تباين المخالفة، وتباين المقابلة.
وضابط تباين المخالفة هو أن الحقيقتين متباينتان في ذاتيهما، ولكنهما ليس بينهما غايةُ المنافاة، بمعنى أنه يمكن اجتماعهما في ذات واحدة.
فحقيقة البرودة مثلًا تُباين حقيقة البياض، لأن كل معنى ثبت له أنه هو البرودة انتفى عنه أنه هو البياض، كعكسه، ولكن لا مانع من اجتماع البرودة والبياض في ذات واحدة كالثلج، فهو أبيض بارد.
وكالحلاوة والسواد، وكالكلام والقعود، فإن حقيقة الحلاوة تُباين حقيقة السواد، ولكنهما ليس بينهما غاية المنافاة، بمعنى أنه يجوز اجتماعهما في محل واحد، كالتمرة السوداء، فهي جامعة بين الحلاوة والسواد، فالنسبة التي بين السواد والحلاوة هي تباين المخالفة.
وكذلك حقيقة الكلام فإنها تباين حقيقة القعود، ولكن لا مانع من أن يكون الإنسان الواحد قاعدًا متكلمًا في وقت واحد.
وأما تباين المقابلة فضابطه أن تكون الحقيقتان متباينتين في ذاتيهما مع أن بينهما غايةَ المنافاة، بمعنى أنه لا يمكن اجتماعهما في محل واحد في وقت واحد، كالسواد والبياض، والحركة والسكون.
وتباين المقابلة ينقسم إلى أربعة أقسام وهي:
1 -
المقابلة بين النقيضين.
2 -
المقابلة بين الضدين.
3 -
المقابلة بين المتضائفين.
4 -
المقابلة بين العدم والملكة.
أما مقابلة النقيضين، فهي المقابلة بين السلب والإيجاب -أعني النفي والإثبات-، كقولك:(زيد قائم الآن)، (زيد ليس بقائم الآن).
فالمقابلة بين هذا النفي والإثبات مقابلة نقيضين، وهي واحد من أنواع تباين المقابلة.
وضابط النقيضين، أنهما "لا يجتمعان ولا يرتفعان"، بل لا بد من وجود أحدهما وعدم الآخر، والمقابلة بين الزوج والفرد مثلًا من مقابلة الشيء ومساوي نقيضه؛ لأن الفرد مساوٍ لـ (ليس بزوج)، كعكسه.
وأما المقابلة بين الضدين فهي المقابلة بين أمرين وجوديّين بينهما غايةُ المنافاة، لا يتوقف إدراك أحدهما على إدراك الآخر.
كالسواد والبياض، والحركة والسكون، ونحو ذلك؛ فإن النقطة
البسيطة من اللون يستحيل أن تكون سوداء وبيضاء في وقت واحد، وكذلك الجِرم الواحد يستحيل أن يكون متحركا ساكنا في وقت واحدٍ، فالمقابلة بين السواد والبياض، وبين الحركة والسكون مثلًا، مقابلة الضدين، وهي من أنواع تباين المقابلة، خلافًا لمن زعم أن السكون ليس بوجودي.
وضابط الضدين أنهما "لا يجتمعان ولكنهما قد يرتفعان"، وارتفاعهما إنما يكون لواحد من سببين:
الأول منهما: وجود واسطة كضد ثالث؛ فإن السواد والبياض مثلًا لا يجتمعان في نقطة بسيطة من اللون، ولكنهما قد يرتفعان عنها لوجود واسطة أخرى كالحمرة والصفرة، فتكون تلك النقطة حمراء أو صفراء.
السبب الثاني: هو ارتفاع المحل، فالجِرم الواحد الموجود يستحيل أن يجتمع فيه السكون والحركة فيكون متحركا ساكنا في وقت واحد، ولكن الحركة والسكون قد يرتفعان عنه بارتفاعه، أي بانعدامه وزواله من الوجود؛ فإنه إذا عُدم لا يقال فيه: ساكن، ولا متحرك.
وأما المقابلة بين المتضائفين فهي المقابلة بين أمرين وجوديين بينهما غاية المنافاة ولا يمكن إدراك أحدهما إلا بإضافة الآخر إليه، كالأبوة والبنوّة، والقَبْلِ والبعد، والفوقِ والتحت.
فإن الذات الواحدةَ يستحيل أن تكون جامعة بين كونها أبّا وابنًا لشخص واحد، فكون الشخص أبًا لشخص مع أنه ابن لذلك الشخص بعينه مستحيل، كاستحالة اجتماع السواد والبياض في نقطة بسيطة
واحدة. إلا أن الأبوة لا يُدرَك معناها إلا بإضافة بنّوة إليها، كعكسه.
والمكان الذي فوقك يستحيل أن يكون تحتك في الوقت الذي هو فوقك فيه، إلا أنه لا يُعقل فوو إلا بإضافة تحتٍ إليه، كعكسه.
وكذلك الزمان الذي قبل الوقت الذي أنت فيه: يستحيل أن يكون بعده في الوقت الذي هو قبله فيه، مع أنه لا يُعقل قبل إلا بإضافة بعدٍ إليه، كعكسه.
وهكذا فالمقابلة بين الأبوة والبنوة، والفوق والتحت، والقبل والبعد، مقابلة المتضائفين، وهي من أنواع تباين المقابلة، وهي المسماة في الاصطلاح بالصفات الإضافية.
واعلم أن عامة المنطقيين على أن الصفاتِ الإضافيةَ وجوديةٌ، كما ذكرنا أن المقابلة بين المتضائفين هي المقابلة بين أمرين وجوديين .. إلخ.
وعامة المتكلمين على أن الصفاتِ الإضافيةَ أمور اعتبارية لا وجود لها في الخارج، وقد سببوا بهذا القول أنواعًا من الإشكال، معروفةً في علم الكلام، ليس هذا محلُّ بسطها.
وأما المقابلة بين العدم والملكة فهي المقابلة بين أمرين: أحدُهما وجودي، والآخرُ عدمي، والطرف العدمي سلْبٌ للطرف الوجودي عن المحل الذي شأنه أن يتصف به.
كالمقابلة بين البصر والعمى، فهي مقابلة بين أمرين: أحدهما وجودي وهو المعبر عنه بالملكة، كالبصر في هذا المثال. والثاني
عدمي، وهو المعبر عنه [بالعدم]
(1)
، وهو العمى، وهذا الطرف العدمي الذي هو العمى سلبٌ للطرف الوجودي الذي هو البصر عن المحل الذي شأنه أن يتصف به، كالحيوان الذي هو من جنس ما يبصر.
أما ما ليس من شانه الاتصافُ بالملكة فلا تردُ عليه عندهم مقابلةُ العدم والملكة، كالحائط، والغصن، فلا يقول:(هذا الحائط أعمى)، ولا: بصير، ولا (هذا الغصن أعمى) ولا:[بصير]
(2)
؛ لأنه ليس من شأنه الاتصاف بالبصر حتى يُسلب عنه بالعمى.
فتبين أن المقابلة بين النقيضين وبين العدم والملكة كلتاهما مقابلة بين أمرين أحدهما وجودي والآخر عدمي، والفارق بينهما هو القيد الذي في العدم والملكة، الذي هو قولهم:(عن المحل الذي شأنه أن يتصف به)
(3)
.
وأن المقابلة بين الضدين والمتضائفين كلتاهما مقابلة بين أمرين وجوديين، والفارق بينهما أن الضدين لا يتوقف إدراك أحدهما على إضافة الآخر إليه، بخلاف المتضائفين، فلا يمكن إدراك أحدهما إلا بإضافة الآخر إليه كما تقدم إيضاحة.
(1)
في المطبوع: (بالعدمي).
(2)
في المطبوع: (يبصر).
(3)
ما قرره المؤلف هنا هو إصلاح المناطقة، وقد تذرع به المتكلمون إلى نفي عقوه -تعالى- على خلقه، وأنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصلًا به ولا منفصلًا عنه، انظر معيار العلم لأبي حامد الغزالي: ص 32، 62، 147، دار الأندلس، بيروت. وانظر نقد ذلك في التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 151 وما بعدها، ودرء تعارض العقل والنقل له (4/ 35 وما بعدها).