الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في إيضاح طرق مناظرة المتكلمين في الأدلة التي جاءوا بها
ونفوا بها بعض صفات الله الثابتة في الكتاب والسنة الصحيحة ويكفينا في هذا البحث تطبيقُه في مثال واحد؛ لأن جميع الصفات حكمُها واحد، فإيضاح مثال واحد منها مستلزمٌ لإيضاح جميعِها؛ لأنها كلَّها من باب واحد؛ لأن الموصوفَ بها -جل وعلا- واحد، وهو منزه كلَّ التنزيه عن مشابهة الخلق في شيء من ذواتهم أو صفاتهم أو أفعالهم، فإيضاح مثال واحد منها إيضاحٌ لها كلِّها.
وذلك المثال الذي نذكره في هذا الموضوع هو استواء الله -جل وعلا- على عرشه، فهو -سبحانه جل وعلا- أثنى على نفس في سبع آيات من كتابه
(1)
بأنه استوى العرش، فهي صفة ثابتة ثبوتًا قطعيًّا بسبعة أدلة قرآنية صريحة، وهذه الصفة الكريمة المقدسة التي كرر الله في كتابه ثناءه بها على نفسه ينفيها من أصلها كثير من [المتكلمين]
(2)
، والذين ينفونها قصدُهم حسن، وهو تنزيه الله عن مشابهة خلقه، ولكن هذا القصد الحسنَ تلزمه الإساءةُ الكبرى والجناية العظمى من ثلاث جهات، كلُّ واحدة منها أكبرُ من أختها، فهم ينطبق عليهم بيت الإمام
(1)
الأعراف 45، يونس 3، الرعد 2، طه 5، الفرقان 59، السجدة 4، الحديد 4.
(2)
في المطبوع: (المتعلمين)، و (المتكلمون) مصطلح يتناول كل من اشتغل بتقرير العقائد الإسلامية بالطرق العقلية على خلاف منهج السلف.
الشافعي رحمه الله:
رام نفعًا فضرَّ من غير قصدٍ
…
ومن البرِّ ما يكون عقوقًا
(1)
وسيأتي إيضاح تلك الإساءةِ الكبرى من الجهات الثلاث المذكورةِ في الخاتمة، في المقارنة بين مذهب السلف وما يسمّونه مذهب الخلف، إن شاء الله -تعالى-.
فالمتكلمون النافون لبعض صفات الله -جل وعلا- الثابتة له في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ينفون إستواءَهُ على عرشه فيقولون: (لم يستو على العرش)، وهذه الدعوى المخالفةُ لصريح القرآن في سبعة مواضع منه ينتجونها من قياس منطقي استثنائي، وقد يجعلونه اقترانيًا، وسنذكر قياسهم المذكور ونبينُ وجهَ بطلانه في الاستثنائى والاقتراني:
أما صورة الاستثنائي فإنهم يقولون: لو كان مستويًا على العرش لكان مشابهًا للمخلوقات؛ لأن الاستواء على المخلوق من صفات المخلوق، لكنه غيرُ مشابهٍ للمخلوقات، ينتج عندهم: هو ليس مستويًا على العرش.
وهذه النتيجة من أعظم الافتراء على اللهِ وأشنع الكذب؛ لأنها تكذّب سبعَ آيات من القرآن العظيم.
وإيضاح إبطال هذا الدليل الذي أنتج هذا الباطل الأعظمَ من أَوجه متعددة:
(1)
ديوانه: ص 67، دار إحياء التراث العربي، 1403 هـ.
الأول: منع كبراه وهي الشرطية فنقول: قولكم: (لو كان مستويًا على العرش لكان مشابهًا للمخلوق) شرطية متصلة كاذبة؛ لأن الربط بين مقدَّمها وتاليها غيرُ صحيح، ومدار صدق الشرطية على صدق الربط كما قدمنا إيضاحه، فإذا كان الربط بين المقدَّم والتالي غيرَ صحيحٍ كما هنا كانت الشرطيةُ غيرَ صحيحة، ولذلك أنتجت نقيض آيات القرآن، والتالي في هذه الشرطية أخصُّ من المقدَّم، والحكم بالأخص على الأعم لا يصدق إلا جزئيًّا، سلبًا كان أو إيجابًا، وسواءٌ كان الحكم معلقًا كما في الشرطيات أو غيرَ معلق كما في الحمليّات، بل هو -تعالى- مستوٍ على عرشه كما قال، مع التنزيه التام عن مشابهة المخلوق في استوائه؛ لأن استواءه كسائر صفاته وكذاته في تنزيه الجميع عن مشابهة الخلق، فدعوى أن استواءه على عرشه تلزمه مشابهة المخلوق دعوى كاذبةٌ كذبًا لا يماثله كذبٌ في الشناعة.
ومما يوضح هذا أنه لو قال معطل آخر: لو كان سميعًا بصيرًا لكان مشابهًا للمخلوق الذي يسمع ويُبصر، لكنه ليس مشابهًا للمخلوق، ينتج له: فليس سميعًا ولا بصيرًا، وهذا القياس كالذي قبله؛ لأن كلا منهما قياس استثنائي مركب من شرطية متصلة واستثنائية، استَثْنَى فيه المستدلُّ به نقيضَ التالي فأنتح له في زعمه الباطل نقيضَ المقدَّم، ولو كان الربط صحيحًا لكان الإنتاج صحيحًا، لكن الربط باطل فالإنتاج باطل، فلو قال من يثبت السمع والبصر: قولك لو كان سميعًا بصيرًا لا تلزمه مشابهةُ الخلق؛ لتنزيه سمعه وبصره عن مشابهه أسماع الخلق وأبصارهم. لقال له خصمه: وكذلك قولك (لو كان مستويًا على العرش لكان مشابهًا للمخلوق) شرطية كاذبة الربط؛ لأن استواءه على
عرشه لا تلزمه مشابهةُ الخلق؛ لتنزيه استوائه عن مشابهة استواء الخلق = لألزمه وألقمه حجرًا
(1)
؛ إذ لا فرق البتةَ بين الاستواء وبين السمع والبصر في أن كل ما وُصف به الله منها منزَّهٌ كلَّ التنزيه عن مشابهة صفات الخلق.
وما وُصف به المخلوق لائق بالمخلوق ولا يليق بالخالق البتة، والفرق بين الصفة والصفة كالفرق بين الذات والذات، والصفات كلها من باب واحد، وكذلك الصفات والذات، فما أُضيف من جميع ذلك للمخلوق فهو حق، وهو مناسب لذات المخلوق، وما وصف به منها الخالق لائقٌ بذات الخالق، منزّهٌ عن مشابهة صفات المخلوق.
فتبين أن القياس الشرطي المذكور الذي نفوا به صفة الاستواء كاذبُ الكبرى، وهي شرطية، والنتيجة تكذب لكذب كل واحدة من المقدمتين.
وتبين أن صاحبه يلزمُه مثلُه في كل ما يُقِر به من الصفات، كما مثلنا له بالسمع والبصر آنفًا.
الوجه الثاني من أوجه إبطاله: أنه قياس فاسد الاعتبار؛ لمخالفته سبعَ آيات من القرآن العظيم، وكل ما خالف القرآن فهو باطل؛ لأن نقيض الحق باطل بلا شك.
الوجه الثالث: معارضته بدليلٍ حقٍّ ليس فيه شائبةُ كذبٍ المعارضةَ
(1)
هذا جواب الشرط في أول الفقرة: (لو قال معطل آخر).
المعروفةَ بالمعارضة بالمثل، كأن يقال: لو كان غير مستوٍ على عرشه لما مدح نفسه باستوائه على عرشه في سبع آيات من كتابه، لكنه مدح نفسه باستوائه على عرشه في سبع آيات من كتابه، ينتج: هو مستوٍ على عرشه كما قال.
وهذا قياس استثنائي مركب من شرطية متصلة لزومية واستثنائية، استُثنيَ فيه نقيضُ التالي فأنتج نقيضَ المقدم إنتاجًا صحيحًا موافقًا للوحي؛ لصحة الربط بين مقدَّم الشرطية فيه وتاليها، فهي معارضة بالمثل أنتجت الحق الصحيح المطابقَ لكلام رب العالمين، الذي هو نقيض الباطل الذي أنتجه الدليل الباطل.
فتحصل أن قول نافي الاستواء: (لو كان مستويًا على العرش لكان مشابهًا للخلق) باطلٌ من جهات كثيرة: منها على طرق المناظرة منعُ كبرى الدليل، ومنها معارضتُه بمثله، ومنها نقضُه في الجملة باستلزام مثله المحال؛ لأن مثلَه مستلزمٌ نفي السمع والبصر بنفس الدليل المذكور، ونفيُهما محال، وكل دليل أَدّى إلى المحال فهو محال، وذلك في فن البحث والمناظرة من صور النقض الإجمالي كما تقدم إيضاحه
(1)
، لكنه هنا ليس نقضًا محضًا، ولكنه يشبهُهُ شبَهًا قويًّا، من حيث إن المحال يستلزمه مماثل الدليل لا نفسُ الدليل.
(فبان) أن استواءه -جل وعلا- على عرشه لا تلزمه مشابهةُ المخلوق البتة، بل هو -تعالى- قد استوى على عرشه كما قال من غير
(1)
ص 234.
مشابهة ولا مماثلة لاستواء المخلوق.
والاعتراف بهذا يَلزم الخصم لزومًا لا تخلّص له منه؛ لاعترافه بنظيره في كونه -تعالى- سميعًا بصيرًا قادرًا مريدًا إلخ، وأنه لم يلزم من ذلك مشابهةُ المخلوقات التي تسمع وتبصر وتَقْدِرُ وتريد.
وكلهم
(1)
يعترفون بأنه موجودٌ والمخلوقَ موجود، ولم تلزم من ذلك المشابهة، والجميع من باب واحد، والفرق بين صفة وصفة من ذلك لا وجه له البتة، ولا يقوم عليه دليل أبدًا كما لا يخفى.
وتبين أن قولهم (لو كان مستويًا على العرش لشابه الخلق) شرطيةٌ كاذبة، وأنها لا تصدق إلا جزئية، كما لو سُوِّرتْ بسور جزئي فقيل فيها: قد يكون إذا كان الشيء مستويًا على مخلوق كان مشابهًا للمخلوق؛ لأن الاستواء على المخلوق قسمان: قسمٌ تلزمه مشابهة المخلوق وهو استواء المخلوق، وقسمٌ لا يلزمه ذلك وهو استواء الخالق -جل وعلا-؛ لأنه لا يشبهه استواء المخلوق بوجه من الوجوه، كما أن سائر صفاته -جل وعلا- لا تشبه شيئًا من صفات المخلوقين، وكما أن ذاته -جل وعلا- لا تشبه شيئًا من ذواتهم، سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا.
ووجه جعلهم الدليلَ المنتجَ لنقيض القرآن اقترانيًا هو أن يقول نافي الاستواء: قولُكم (هو مستوٍ على عرشه) لو جعلناه مقدمة صغرى وضمَمْنا إليها مقدمة صادقة كبرى فإن النتيجة تكون كاذبة، فانحصر
(1)
يقصد المؤلف رحمه الله من ينفي بعض الصفات أو جميعها.
الكذب اللازم من كذب النتيجة في الصغرى، وهي قولكم (هو مستوٍ على عرشه).
وإيضاحُه أنهم يقولون: هو مستوٍ على العرش، وكل مستوٍ على مخلوق عرشًا كان أو غيرَه فهو مشابه للمخلوق، ينتج عندهم: هو مشابه للمخلوق سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا-، فيقولون: هذه النتيجة كاذبة بالضرورة، والقول بها كفر بواح -والعياذ بالله-، وكذبها لم ينشأ إلا من عدم صحة الصغرى التي هي قولكم (هو مستوٍ على العرش)؛ لأن الكبرى صادقة.
والجواب عن هذا بالمنع، وهو منع صدق الكبرى ومنع كذب الصغرى، وبيانِ أن الحق الذي لا شك فيه هو أن الكبرى التي جاؤوا بها وهي قولهم (وكل مستو على مخلوق فهو مشابه للمخلوق) كاذبة، ومن أجل كذبها جاءت النتيجة كاذبةً مناقضةً لسبع آيات من القرآن.
وهذه الكبرى لا تصدق أيضًا إلا جزئية، كما لو سُوِّرت بسور جزئي، كأن يقال: بعض المستوي على المخلوقُ مشابهٌ للمخلوق؛ لأن محمولها أخص من موضوعها، فلا يصدق الحكم عليه به إلا جزئيًّا، فقولهم (وكل مستوٍ على مخلوق مشابه للمخلوق) كليةٌ موجبةٌ مسورة بسور كلي إيجابي، وهي كاذبة السور، والمسورة تكذب لكذب سورها، كما تكذب الموجهة
(1)
لكذب جهتها، وقد بيّنا أن الاستواء على المخلوق قسمان: أحدهما لا تلزمه مشابهة المخلوق بوجه من
(1)
راجع ما سبق تعليقه عن القضايا الموجهة في ص 95، 225.
الوجوه، وهو استواء الخالق -جل وعلا- كما تقدم إيضاحه.
والدليل على أن الصغرى التي ادعوا كذبَها أنها هي الصادقةُ أن الله صرح بها في سبع آيات من كتابه، والله -جل وعلا- يقول:{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)} [النساء: 87]، ويقول:{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122]، ولا شك أنه لا أحدَ أصدقُ من الله، والصغرى صرَّح الله في كتابه العزيز بصدقها في سبعة مواضع منه، فتبين أن الكاذبة هي الكبرى التي جاءوا بها، ومن شدة كذبها صارت النتيجة كفرًا بواحًا -والعياذ بالله-، فزعموا للكاذبة الصدق، وادعوا على الصادقة الكذب، ولأجل هذا الافتراء جاءت النتيجة كاذبة.
وبإيضاح كذب الكبرى المذكورةِ تعلم أن كل قياس اقتراني جاؤوا به في الموضوع فبعض مقدماته كاذب يقينًا؛ لأن النتيجة كفر، وهي لا تكون كاذبة إلا بسبب كذب إحدى مقدمات الدليل.
ومثال كذب الكبرى هو ما رأيتَه.
ومثال كذب الصغرى قولهم: الاستواء على العرش تلزمه مشابهة الخلق، وكل ما كان [كذلك]
(1)
فهو ممنوع، ينتج لهم الباطل، وهو: الاستواء على العرش تلزمه مشابهة الخلق.
وبنحو هذا نعرف كيف يستدلون بالأدلة الباطلة، وينتجون بها ما يناقض القرآن.
(1)
في المطبوع: (كذب)، وهو خطأ.
وإبطال جعلهم الدليلَ اقترانيًا من جهات متعددة أيضًا: منها المنع كما أوضحناه آنفًا، ومنها كون دليلهم فاسدَ الاعتبار لمخالفته لسبع آيات من القرآن العظيم.
ومنها معارضتُه بالمثل كأن يقال: استواء الله على عرشه أثبته في كتابه، وكل ما أثبته الله في كتابه فهو حق لا شك فيه، ينتج من الشكل الأول: استواءُ الله على عرشه حق لا شك فيه، فهذا قياس اقتراني صحيح المقدمتينِ وصحيحُ صورة التركيب، ولذلك أنتج الحقَّ المطابقَ للوحي السماوي، فهو ينقض القياس الاقتراني الذي نفوا به صفة الاستواء بطريق المعارضة بالمِثْل؛ لأن كلا منهما اقتراني من الشكل الأول.
وكأن يقال: استواءُ الله على عرشه صَرّح في كتابه بالثناء على نفسه به، وكل ما كان كذلك فلا يلزمه محذور ولا باطل، ينتج من الشكل الأول: استواء الله على عرشه لا يلزمه محذور ولا باطل، وهذا أيضًا دليل اقتراني صحيح مطابق للقرآن، وهكذا.
فهذا النوع من إبطال هذه الأدلة الفاسدة مُطّرِد في جميع أدلتهم التي نفوا بها بعض صفات الله الثابتة بالوحي.