الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في آيات قرآنية تستلزم طرقَ المناظرة المصطلح عليها
اعلم أولا أن العلامة الشيخ محمد بن الحسن البناني
(1)
قال فيم شرحه لسلم الأخضري: ذكروا
(2)
أن الأشكال الثلاثة موجودة -أي بالقوة- في القرآن العظيم:
أما الأول: ففي احتجاج إبراهيم الخليل -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- علي انفراد الله بالربوبية ونفيِها عن النمرود، حيث ادعاها وقال للخليل: من ربك؟ فقال: ربي الذي يحي ويميت. فأحضر رجلين فقتل أحدهما وترك الآخر، وقال: أنا أحي وأميت؛ فهذا أمته وهذا أحييتُه. فانتقل
(3)
[به]
(4)
الخليل إلى ما [لا]
(5)
يتعلق به كسب المخلوق فقال: إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، فبُهت الذي كفر، وانحسمت شبهتُه.
(1)
سبق التعريف به ص 196.
(2)
أول من أشار إلى ذلك أبو حامد الغزالي (ت 505 هـ) في كتابه "القسطاس المستقيم"، مطبوع ضمن مجموعة "القصور العوالي من رسائل الإمام الغزالي"(1/ 18 وما بعدها)، وانظر انتقاد ابن تيمية له في الرد على المنطقيين: ص 194، 195.
(3)
قال ابن القيم في الصواعق المرسلة (2/ 491): وليس هذا انتقالا من حدة إلى حجة أوضحَ منها كما لاعم بعض النظّار، وإنما هو إلزام للمدعي بطرد حجته إن كانت صحيحة).
(4)
في المطبوع: (له)، والمثبت هو اللائق بالسياق.
(5)
ساقطة من المطبوع، والسياق يقتضيها.
فقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ} [البقرة: 258]: في قوة قوله: أنت لا تقدر أن تأتي بالشمس من المغرب، وكل من لا يقدر على ذلك فليس برب، ينتج: أنت لست برب.
فالصغرى يمكن أن تؤخذ من قوله (فأت بها من المغرب)؛ لأنه أمر تعجيز، وتؤخذ أيضًا من شاهد حال النمرود -لعنه الله-، ولا يسعه إنكارها،
والكبرى عكس نقيض قضية مفهومه من قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258]: وهي: ربي يقدر على أن يأتي بالشمس من المغرب، أي كما أتى بها من المشرق. فيُعكس [بعكس]
(1)
النقيض الموافق إلى الكبرى، والنمرود أيضًا يسلمها، فلهذا بهت.
والظاهر أن قولهم في الصغرى: (أنت لا تقدر) موجبة معدولة؛ ليكون الوسط مكررًا، وقولَهم في الكبرى:(وكل من لا يقدر) محصلةٌ سالبة، وإن لم تسوّر بالسور المتعارف للكلية السالبة؛ لأن المعتبر المعنى لا اللفظ.
ولو جُعل (عاجز) مكان (لا يقدر) ويقال في الكبرى: (ولا شيء من العاجز برب) لكان أولى.
ثم يصح سوق الدليل استثنائيًا فيقال: لو كنتَ يا نمرودُ ربي
(1)
في المطبوع: (بعض)، ولا معنى لها.
لقدَرتَ على الإتيان بالشمس من المغرب، لكنك لا تقدر عليه، ينتج: فلست بربي.
ويمكن أن يساق من الشكل الثاني بأن يقال: ما أنت قادرٌ على أن تأتيَ بالشمس من المغرب، وربي قادر على أن يأتي بها، ينتج: فلست بربي؛ فليس المقصود حصرَ المستنبط من الآية في الشكل الأول، وكأنهم رأوه أظهر من غيره.
وأما الشكل الثاني: ففي استدلال إبراهيمَ الخليلِ أيضًا -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- بالأفول على نفي الربوبية عن الكواكب والقمر والشمس في قوله -تعالى-: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيهِ اللَّيلُ رَأَى كَوْكَبًا} الآية [الأنعام: 76]؛ لأن قوله: {فَلَمَّا أَفَلَ قَال لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)} [الأنعام: 76] في قوة قوله: هذه آفلة، وربي ليس بآفل، ينتج من الشكل الثاني: هذه لست بربي، فالصغرى من قوله:(فلما أفل)، والكبرى من قوله:(لا أحب الآفلين). إذ المعنى: لا أحب عبادتهم؛ لأن الرب وهو الذي يستحق أن يعبد وحده لا يأفل أبدًا.
ويمكن سوقُه من الشكل الأول، وهو أَسهل، بأن يقال: هذه آفلة، ولا شيء من الآفل بربي، ينتج: هذه ليست بربي.
ويمكن سوقُه من الاستثنائي بأن يقال: لو كانت هذه ربي ما أفلت، لكنها أفلت، ينتج: فليست بربي.
ويمكن سوقُه من الشكل الرابع بأن يقال: الآفل ليس بربي، وهذه آفلة، ينتج: ربي ليس بهذه. وينعكس إلى: هذه ليست بربي، لكن
الشكل الرابع لبعده عن الطبع لا يُصار إليه مع تأَتي غيره.
وأما الشكل الثالث: ففي رد الله على اليهود في قولهم: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيءٍ} [الأنعام: 91] توصلًا منهم إلى إنكار نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فكأنهم يقولون:(هو بشر. ولا شيء من البشر أُنزل عليه الكتاب) وصغرى المقدمتين حق، وكبراهما باطلة، وهم يزعمون صدقها، فينتج لهم (هو صلى الله عليه وسلم ما أُنزل عليه الكتاب) فرد الله عز وجل عليهم بقوله -سبحانه-:{قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [الأنعام: 91].
ونظْمُه من الشكل الثالث: (موسى- عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- بشر، وموسى أُنزل عليه الكتاب) وكلتا المقدمتين حق، وهم يسلمون ذلك، ينتج من الشكل الثالث:(بعض البشر أنزل عليه الكتاب)؛ لأن الثالث لا ينتج إلا جزئية، وهذه النتيجة جزئية موجبة، تناقض السالبة الكلية التي جعلوها كبرى، يعني قولهم:{قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [الأنعام: 91]، فبطل بذلك إنكارُهم لنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه.
ثم قال البناني رحمه الله قال السعد
(1)
: الحد الوسط في الشكل الأول والرابع ليس بمتكرر، لأنه إذا وقع محمولًا فالمراد به المفهوم، وإذا وقع موضوعًا فالمراد به الذات.
(1)
هو سعد الدين، مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازاني، الماتريدي، شارح العقائد النسفية والمقاصد، حياته ما بين (722 - 791 هـ).
قلت
(1)
: إن أريد بكون المحمول هو المفهوم [أن]
(2)
ذات الموضوع عينُ مفهوم المحمول ففساده ظاهر، وإن أريد أنه يصدق عليه مفهوم المحمول فتكرر الحد الوسط في الشكلين ظاهر. انتهى كلام البناني بطوله، وجلُه واضح عند من فهم المقدمة المنطقية التي كتبنا قبل الشروع في البحث والمناظرة، وفي كلامه إشكالات تحتاج إلى جواب، وفيه بعض الاصطلاحات التي لم نوضحها في المقدمة المنطقية.
اعلم أولًا أن ما ذُكر من تكرار الحد الوسط في الأول والرابع باعتبار أن مفهوم المحمول صادق على ذات الموضوع واضح لا إشكال فيه، كما قدمنا إيضاحه في المقدمة المنطقية
(3)
في اختلاف المراد بالمحمول والموضوع في الحكم.
ومن الأسئلة المذكورة أن الدليل الذي بُيّن نظمُه من الشكل الثالث بصورة (موسى بشر، موسى أُنزل عليه الكتاب) ينتج من الشكل الثالث: (بعض البشر أنزل عليه كتاب) وهي جزئية موجبة، نقيضُ السالبة الكلية التي هي قولهم:{مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيءٍ} [الأنعام: 91] فهو إبطال دليل بإثبات نقيضه، على نحو الطرق المعروفة في المناظرة = يتوجه إليه السؤال بأن يقال: قد تقدم في شروط إنتاج الشكل الثالث أن تكون إحدى مقدمتيه كلية، وهذا الشكل الثالث الذي
(1)
القائل البناني.
(2)
في المطبوع: (وأن) بواو، ولا يستقيم معها الكلام.
(3)
ص 83، 84.
نُقض به دليل اليهود ليست إحدى مقدمتيه كلية؛ لأن مقدمتيه كلتيهما شخصيتان؛ لأن موضوع كل واحدة منهما شخص، وهو موسى -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام-.
والجواب هو أن كل ما تُشترط فيه الكليةُ تُنتج فيه الشخصيةُ؛ لاتحاد الكلية والشخصية في أن الحكم بالمحمول شامل لجميع أفراد الموضوع؛ أما في الكلية فحصر الأفراد بالسور الكلي، وأما في الشخصية المخصوصة فالحصر بأصل الوضع، فالحصر واقع في كل واحدة منهما، وهذا الجواب يجاب به عما في كلامه من الإتيان بالشخصية في موضع الكلية في بعض الأدلة التي ساق.
واعلم أن البناني رحمه الله لما قال إن قول إبراهيم: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258] في قوة (أنت لا تقدر على أن تأتي بالشمس من المغرب، وكل من لا يقدر على ذلك فليس ربي) ينتج من الشكل الأول: (أنت لست بربي)، وبيَّن كيف أُخذت صحة المقدمتين من الآية وشاهِدِ الحال = احتاج إلى أن يجيب عن سؤال وارد على كل واحدة من المقدمتين:
أَما الصغرى وهي قوله: (أنت لا تقدر أن تأتي بالشمس .. إلخ) فيقال فيه: هذه صغرى قياس من الشكل الأول، وصغراها يشترط لإنتاجه أن تكون موجبة.
فأجاب أن النفي في قوله: (أنت لا تقدر) من قبيل العدول لا من قبيل السلب، فهي موجبة معدولة، لا محصلةٌ سالبة، وبكونها موجبةً معدولةً صح شرط الإنتاج، وقوله:(كل من لا يقدر) محصلة سالبة
وإن لم تسور بالسور المتعارف للكلية السالبة؛ لأن السور المتعارفَ لها أَن يقال مثلًا: (ولا شيء ممن لا يقدر على ذلك بربي).
واعلم أن ضابط العدول في الاصطلاح هو اقتران السلب بالمحمول؛ بأن يكون السلب بعد الرابطة، وهي
(1)
في الاصطلاح: اللفظُ الدال على ثبوت المحمول للموضوع.
ولما كانت اللغة العربية غيرَ محتاجة إلى الرابطة؛ للاكتفاء عنها بالاشتقاق والاضافة ومطلق الإسناد، نحو (زيد أخوك)، اصطلحوا على أن يجعلوا الرابطة هي ضمير الفصل، فكل سلب كان مقترنًا بالمحمول بعد ضمير الفصل فهو العدول، وما سوى ذلك يسمى بالتحصيل.
فمثال المعدولة الموجبةِ: زيد هو ليس عالمًا.
ومثال السالبة المحصّلة: زيد ليس هو عالمًا.
ومثال المحصَّلة الموجبة: زيد عالم.
ومثال المعدولة السالبة: ليس زيد هو ليس عالمًا.
فالمعدولة السالبة يرجع معناها إلى معنى المحصلة الموجبة؛ لأن نفي النفي فيها إثبات، فيؤول للمحصلة الموجبة.
والسالبة المحصلة والموجبة المعدولة يتعذر الفرق بينهما.
(1)
أي الرابطة.
فالسالبة المحصلة كقولك: زيد هو ليس عالمًا، والمعدولة الموجبة كقولك: زيد ليس هو عالمًا.
وحاصل الفرق بينهما في اللفظ أن السلب في المعدولة بعد الضمير، وفي المحصلة قبله.
والأقدمون من علماء المنطق يفرّقون بينهما بأن الموجبة المعدولةَ تقتضي وجود الموضوع، والسالبةَ المحصلة لا تقتضي وجود الموضوع.
وقد أوضحت في أرجوزتي في فن المنطق أن هذا الفرق بينهما الذي اعتمده الأقدمون من المنطقيين فرق باطل، وأن الموجبة لا تقتضي وجود الموضوع كالسالبة، وذلك في قولي في الأرجوزة المذكورة:
والفرق بين السالب المحصّلْ
…
وذي عدولٍ موجَبٍ لم يُعقلْ
وبعضُهم بينهما قد فَرَّقا
…
ونور وجه الفرق لي ما أشرقا
والفرق باقتضاء موجَبٍ فقط
…
وجودَ موضوعٍ يحثٍ قد سقطْ
إذ كل محمول لديهم عدمي
…
أو بين ذي الوجودِ مع ذي العدمِ
مشترك فحمْلُه إذًا على
…
موضوعِهِ المعدومِ قطعًا قُبلا
ألا ترى في قولنا: المعدومُ
…
ممكنٌ أو مذكورٌ أو مفهومُ
فهذه موجَبةٌ لن يوجَدا
…
موضوعُها فما اقتضته أبدا
بل ربما لزم أن ينعدِما
…
موضوعُ بعضِ الموجَباتِ فاعلما
فالمستحيلُ ذو انعدامٍ موجَبُ
…
وعدم الموضوع فيه يوجبُ
وبحر زئبقٍ كذاك ممكنُ
…
منعدم موجَبُه لا تؤذنُ
بكون موضوعٍ لها موجودًا
…
فبطل اقتضاؤُها الوجودا
فبان مِن ذا للمذكيِّ الحاذق
…
الباذقِ
(1)
انعدامُ وجهِ الفارق
والحق في ذاكَ هو التفصيلُ
…
فيما له عدولٌ أو تحصيلُ
فكل ما منها اقتضت قيامَ
…
وصفٍ بموضوع لها إذا ما
يكونُ وصفُها وجوديًا فقدْ
…
صحَّ اقتضاؤها وجودَه فقدْ
لأن منع وصفِ ما قد عُدما
…
بصفةٍ ذاتِ وجودٍ عُلما
مثالُ ما ذكرتُ: زيد قائمْ
…
أو جالس أو أبيضٌ أو عالمْ
إذِ البياضُ والجلوسُ والقيامْ
…
ممتنع وجودُها من ذي انعدامْ
إذْ يستحيلُ أن يقومَ العرَضُ
…
بنفسه بدون جِرم يعرضُ
وغيرُ ما ذكرتُه لا يقتضي
…
وجودَه موجَبًا اولا فارتضِ
كمثل زيدٌ ممكن أو معلومْ
…
فالحكمُ فيه صادقٌ في المعدومْ
والحاصل أن الأمثلة التي ذكرها البناني تستلزمُ إبطال حجة
(1)
يقال: رجل حاذق باذق، من باب الإتباع، وهي فارسية معربة.
الخصم الضال، بما فيه بالقوة الطرقُ المعروفة في المناظرة.
فالنمرود مثلًا ادعى الربوبية لنفسه، وأقام على ذلك دليلًا في زعمه، فقتل رجلًا وترك آخر وقال: أنا أحي وأميت؛ أي وكل من يحيى ويميت فهو الرب، ينتج له على زعمه الفاسد: أنا الرب.
فأبطل إبراهيم هذه الدعوى الباطلةَ التي هي كفرٌ بواحٌ بدليلٍ مقتضاه: أنت عاجز عن الإتيان بالشمس من المغرب، وكل عاجز عن ذلك فليس برب، ينتج: أنت لست برب.
فعارض دليله بدليل صحيح أنتج نقيض دعواه، فصح بطلانها بإثبات نقيضها كما تقدم إيضاحُه
(1)
، وأن قومه زعموا ربوبية الشمس والقمر والكواكب، واستدلوا على ذلك بأدلتهم الفاسدة، فأقام إبراهيم الدليلَ المنتجَ نقيضَ دعواهم، وحاصله: هذه آفلة، ولا شيء من الآفل برب، ينتج: هذه ليس واحد منها برب. وهو نقيض دعواهم، وبإثبات نقيضها يتحقق بُطلانها.
ولا شك أن حجة إبراهيمَ هذه مركبةٌ من مقدمتين: الأولى أفولها، في قوله في كل واحد منها:{فَلَمَّا أَفَلَ} [الأنعام: 76] والثاني عدم ربوبية الآفل في قوله: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)} [الأنعام: 76].
واستنتاج هذه الدعوى المبطِلةِ دعوى الخصم سمّاه الله حجة، وأضافها إلى نفسه، وذكر امتنانه على إبراهيمَ بذلك في قوله بعد ذكر
(1)
ص 277.
المناظرة المذكورة: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَينَاهَا إِبْرَاهِيمَ} [الأنعام: 83]، والتحقيق أن المناظرة المذكورة داخلة في الحجة المذكورة، خلافًا لمن زعم أن الحجة مختصة بقوله:{وَكَيفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيكُمْ سُلْطَانًا} [الأنعام: 81] الآية، بل التحقيق أنها شاملة لاستنتاج بطلان دعواهم الكفرية من مقدمات صحيحةٍ تُنتج نتيجةً حقًّا، وهي أنه لا رب إلا اللهُ وحدَه.
وهذه الحجة التي هي استنتاج النتائج الصحيحةِ من المقدمات الصحيحة المقتضيةِ بطلانَ الحجج الكفريةِ نوّه الله بها، وأضافها لنفسه بصيغة التعظيم في قوله:{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا} [الأنعام: 83]، وذكر امتنانه بها على إبراهيم، وأشار إلى أن من آتاه الله ذلك النوعَ من الحجة أنه يكون فيه رفعُ درجتِه، وذلك في قوله:{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَينَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام: 83] الآية، ويدخل في عموم الآية رفع درجة إبراهيم بما آتاه ربه من الحجة القاطعة على قومه.
ولا شك أن اليهود لما قالوا: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيءٍ} [الأنعام: 91] أنهم يقصدون بذلك نفي إنزال الكتاب على نبينا صلى الله عليه وسلم، فحذفوا الصغرى والنتيجة كما أوضحنا في كلام البناني، وكانت عمدةُ دليلهم الكبرى التي هي كليةٌ سالبة، التي هي قولهم:{مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيءٍ} [الأنعام: 91].
وأن قوله -تعالى-: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [الأنعام: 91] ينتج نقيض دعواهم، لأن موسى بشر، وقد أُنزل عليه كتاب هو التوراة، فيلزم من ذلك أن بعض البشر وهو موسى أُنزل عليه كتاب هو التوراة، فهذه جزئية موجبة هي نقيض السالبة الكلية التي
احتجوا بها، و [بإنتاج]
(1)
الدليل نقيضَ حجة الخصم يتحقق بطلانها؛ لاستحالة اجتماع النقيضين، قال الأخضري في سلمه:
وإن تكن سالبةً كليةْ
…
نقيضُها موجبةٌ جزئيةْ
وقال في نحو جواز حذف اليهود المقدمةَ الصغرى والنتيجةَ من دليلهم:
والحذف في بعض المقدماتِ
…
أو النتيجة بعلمٍ آتي
ومن الآيات المتضمنة لإبطال الحجج الكفرية على طريق المناظرة المعروفة قوله -تعالى-: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]؛ لأن الكفار -قبحهم الله- ادعوا آلهة كثيرة مع الله، وعبدوها معه، واستدلوا على تعدد الآلهة بشبهٍ كفرية واهية، هي في زعمهم أدلة:
منها قول بعضهم: إن العالم أكثر شؤونًا من أن يمكن أن يقوم بجميع شؤونه إله واحد، فلا يمكن أن يقوم بذلك مع كثرته إلا آلهةٌ كثيرة.
ومنها قول بعضهم إن عبادة الآلهة معه قربةٌ إليه مشروعة، كما قالوا:{مَا نَعْبُدُهُمْ إلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3].
ولأجل شبههم الواهيةِ استَبعدوا كلَّ الاستبعاد أن يكون الإله واحدًا، فقالوا فيما ذكر الله عنهم: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيءٌ
(1)
في المطبوع: (إنتاج)، والمثبت هو الملائم للسياق.
عُجَابٌ (5)} [ص: 5]، فأقام الله -جل وعلا- الدليل القاطع الذي يُلقم كل مخالف حجرًا، على أنه هو الإله وحده -جل وعلا-، ولا يمكن بحال أن تكون معه آلهةٌ أخرى فقال -تعالى-:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22].
فهذه شرطية متصلة لزومية، استثناء نقيض تاليها محذوف لظهوره، أي لكنهما لم تفسدا، ينتج: لم يكن فيهما آلهة إلا الله، وهذه النتيجة القطعية لهذا القياس الشرطي المتصل التي هي (لم يكن فيهما آلهة غير الله) نقيض دعواهم تعدّدَ الالهة، وقد عرفت مما أوضحنا في البحث والمناظرة
(1)
أنه إذا قام الدليل القاطع على نقيض الدعوى تحقق بطلان تلك الدعوى بسبب ثبوت نقيضها؛ لاستحالة اجتماع النقيضين.
ووجه صحة الربط بين المقدم والتالي في قوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] أوضحه -تعالى- بقوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)} [المؤمنون: 91]، وأشار له بقوله -تعالى-:{قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42)} [الإسراء: 42]، على أصح التفسيرين.
ولأجل
(2)
أن القرآن بين أن موجِب فساد السموات على فرض
(1)
راجع ص 244.
(2)
الجار والمجرور هنا متعلقان بما قبلهما، وهو قوله: ووجه صحة الربط .. إلخ.
المحال الذي [هو]
(1)
تعددُ الآلهة هو استقلال كل إله دون الآخر بما خلق، وغلبةُ بعضهم لبعض، ونحوُ هذا لا يمكن أن يقوم عليه نظام السموات والأرض، وتنتظمَ معه شؤون العالم، بل هو مستلزم لفساد السموات والأرض، وضياعِ من فيهما.
ولما بين إبطال دعواهم الكفريةِ بالدليل القاطع نزه نفسه، وذلك فيه تأكيد لصحة إنتاج الدليل المذكور بطلانَ دعوى الكفار، وذلك في قوله:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)} فقوله: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ} الآية، تنزويهٌ منه - جل وعلا - لنفسه عن دعوى الكفار بعد إبطالها بالدليل القطعي.
وكقوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91] فقوله أيضًا: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ} الآية، تنزيهٌ عن دعواهم الكفريةِ بعد إقامة الدليل على إبطالها.
فهذه الأدلة القاطعةُ هي المعروفةُ في الاصطلاح بالقياس الشرطي المتصلِ المستثنى فيه نقيضُ التالي، فينتج نقيضَ المقدم كما تقدم إيضاحه
(2)
. والدليل في القرآن على نحو الشرطية المتصلة اللزومية كما ترى.
ومن أمثلة إتيان ما يشبه صور القياس الاقتراني في القرآن قوله
(1)
ليست في المطبوعة.
(2)
ص 130.
-تعالى-: {إلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)} [النساء: 146].
لأن قوله {فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} في قوة صغرى الدليل، وكونهم معهم يستلزم أنهم شركاؤهم فيما يؤتيهم الله.
وقولَه {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} في قوة كبرى الدليل المذكور، ينتج: أن {الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا} الآية، سوف يؤتيهم الله أجرًا عظيمًا.
وقد قدمنا في المقدمة المنطقية أن نتائج القياس المنطقي حق لا شك فيها إذا أقيمت أدلتها على الوجه الصحيح، وأنها لا يعتريها خلل إلَّا من جهة خطأ الذي يحتج بها، وأوضحنا وجه ذلك
(1)
.
وفي القرآن العظيم أدلة كثيرة تستلزم إبطال شبه الضالين، وهي في قوة المناظرة بالطرق المعروفة، وقصدنا التمثيل بآيات منها كما ذكرنا تنبيهًا بها على غيرها.
(1)
راجع ص 6، 7.