الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في مبادئ التصورات
اعلم أن مبادئ علم التصور هي الكليات الخمس، وهي: الجنس، والنوع، والفصل، والخاصة، والعرض العام. والكليات في هذا المبحث جمعُ (كلي)، وقد قدمنا أنه هو "ما لا يمنع تعقل مدلوله من وقوع الشركة فيه".
اعلم أولًا أن السؤال في فن المنطق إنما يكون بإحدى أداتين؛ لأنهما هما المحتاج لهما في فن المنطق، وهما لفظة (ما)، ولفظة (أي).
أما لفظة (ما) فالأصل فيها أن يُسأل بها عن تمام حقيقة المسؤول عنه، أما السؤال بها عن وصفه كقولهم: ما زيد؟ أكريم، أم بخيل؟ فهو خلاف الأصل.
أما لفظة (أي) فيُسأل بها عمّا يميز المسؤول عنه، ويفصِلُه عما يشاركه، ذاتيًا كان أو عرَضيًا.
واعلم أن الجواب عن السؤال ب (ما) محصور في ثلاثة أشياءٍ لا رابع لها، وهو أنها إما أن يُجاب عن السؤال بها بالجنس، أو بالنوع، أو الحد.
فإن كان السؤال بها عن أشياءِ متعددة مختلفةٍ حقائقُها فالجواب بالجنس، وإذًا فالجنس هو "ما صدق في جواب (ما هو) على كثيرين مختلفة حقائقُهم".
والصدق هنا والقول بمعنى الحمل، فلو قلت مثلًا: ما هو الإنسان؟ وما هو الفرس؟ وما هو الحمار؟ وما هو البغل؟ فالجواب بالقدر المشترك [بينها]
(1)
وهو الحيوان: فالحيوان إذًا قد صدق -أي حُمل- في جواب (ما هوَ) على كثيرين مختلفة حقائقهم.
وإن شئتَ قلتَ في تعريف الجنس: هو "جزء الماهية الذي هو أعمُّ منها"؛ لصدقه عليها وعلى غيرها، كالحيوان، فهو جزء من ماهية الإنسان؛ لأن الإنسان عندهم مركب من (حيوان) و (ناطق)، فالحيوان جزء ماهيته الصادقُ بها والفرسِ والبغل مثلًا.
وإن كان السؤال عن جزئي كـ (زيد)، ومثلُه المصنف كـ (الزنجي) و (الرومي)، أو عن أشياءِ متعددة متّحدةٍ حقائقُها كـ (زيد، وعمرو، والزنجي، والرومي)، فجواب ذلك بالنوع، فلو قلتَ مثلًا: ما هو زيد؟ أو ماهو الزنجي وزيد وعمرو؟ فالجواب بالقدر المشترك [بينها]
(2)
، وهو النوع الذي هو الإنسان.
فحد النوع إذًا هو "ما صدق في جواب (ما هوَ) على كثيرين متفقين بالحقيقة"، وإنما الاختلاف بينهم بالتشخص الذاتي، فقولك: ما هو زيد؟ وما هو عمرو؟ وما هو بكر؟ وما هو خالد؟ وما هي هند؟ الكلمة التي تُحمل على الجميع هي النوع، فجواب ذلك أن تقول (الإنسان)؛ لأنه القدر المشترك بين الأفراد، فالإنسان نوع.
(1)
في المطبوع: (بينهما).
(2)
في المطبوع: (بينهما).
وإن شئتَ قلتَ في تعريف النوع: هو "الكلي الذي هو تمام ماهية أفراده".
وأما حد الفصل- فهو "ما صدق في جواب (أيٌّ ما هو) صدقًا ذاتيًا لا عرضيًا"، كأن تقول:(أي أنواع الحيوان هو الإنسان؟ ) فجواب هذا السؤال الصادقُ على المسؤول عنه صدقًا ذاتيًا هو الفصل، وهو (الناطق) في هذا المثال، لأن (الناطق) هو نوع الحيوان الذي هو الإنسان.
وإن شئتَ قلتَ في تعريف (الفصل): "هو جزء الماهية المساويها في الماصدق"
(1)
؛ لاختصاصه بها.
وأما حد (الخاصة): فهو "ما صدق في جواب (أيٌّ ما هو) صدقًا عرضيًا لا ذاتيًا"، كأن تقول:(أي أنواع الحيوان هو الإنسان؟ ) فجواب هذا السؤال الصادقُ على المسؤول عنه صدقًا عرضيًا لا ذاتيًا هو الخاصة، وهو في هذا المثال (الضاحك) أو (الكاتب) مثلًا؛ لأن الضحك والكتابة خاصتان من خواص الإنسان، يتميز بهما عن غيره من أفراد الحيوان.
وإن شئتَ قلتَ في تعريف الخاصه: هي "الكلي الخارج عن الماهية، المختصُ بها دون غيرها"، كـ (الضاحك) بالنسبة إلى (الإنسان).
(1)
(الماصدق) هو الأفراد التي يصدق عليها مفهوم اللفظ الكلي. انظر ما يأتي ص 172.
وإيضاح انقسام الكليات إلى خمس أن الكلي إما أن يكون تمام الماهية أو ليس بتمامها، فإن كان تمام الماهية فهو النوع، وإن كان غير تمامها فهو إما داخل فيها وإما خارج عنها.
فإن كان داخلًا فيها فلا يخلو: إما أن يكون أعمَّ منها، وإما أن يكون مساويًا لها، فالأول (الجنس)، والثاني (الفصل)، وإن كان خارجًا عنها فلا يخلو أيضًا من أن يكون أعمَّ منها أو مساويًا لها، فإن كان أعم منها فهو (العرض العام) وإن كان مساويًا لها فهو الخاصة، وقد عرفتَ حدودها وأمثلتها.
فإن قيل: بقي كلَّي سادس لم يُذكر وهو (المصنف): كالزنجي، والرومي؟ فقد أجاب بعضهم بأن المصنف خاصة غير شاملة، وعليه فالخاصة تنقسم إلى شاملة، وغير شاملة.
واعلم أنّ (الجنس) و (الفصل) عندهم ذاتيان بلا خلاف، و (الخاصة) و (العرض العام) عرضيان عندهم بلا خلاف، و (النوع) فيه ثلاثة مذاهب:
أحدها: أنه ذاتي؛ بناء على أن كل ما ليس بخارج عن الذات فهو ذاتي.
الثاني: أنه عرضي؛ بناء على أن كل ما لم يدخل في الذات فهو عرضي.
الثالث: وهو أقربها إلى الواقع، أنه ليس بذاتي ولا عرضي؛ لأنه تمام الماهية، فليس جزءً منها حتى يكون داخلًا، ومعلوم أن تمام
الماهية لا يمكن خروجه عنها حتى يكون عرضيًا.
واعلم أن (الفصل) إنما سمي فصلًا لأنه يفصل بين الأنواع المشتركة في الصفات، فالإنسان والفرس مثلًا يشتركان في الجوهرية والجسمية والنمائية والحساسية. فالناطق يفصل الإنسان عن الفرس المشارك له فيما ذُكر، والصاهل يفصل الفرس عن الإنسان كذلك.
تنبيه: لا يخفى أنا ذكرنا في الأمثلة الماضية أن الناطق (فصل)، وأنه مميز ذاتي، وأنه جزءُ الماهية الداخلُ فيها الصادقُ عليها صدقًا ذاتيًّا، وأنا ذكرنا أن الضاحك والكاتب مثلًا خاصتان، وأنهما عرضيان خارجان عن الماهية، وليس واحدٌ منهما جزءً منها، ولا داخلًا فيها، فقد يقول السامع: ما حقيقة الفرق بين الناطق والضاحك حتى صار أحدُهما جزءً من الماهية عندهم والثاني خارجًا عنها؟
والجواب أن لهم أجوبة متعددةً كثيرٌ منها ليس فيه مَقنع، وأقربها عند الذهن ثلاثة:
الأول: أن الذاتيَّ هو المعروف عند المتكلمين بالصفة النفسية، وضابطه أنه "لا يمكن إدراك حقيقة الماهية بدونه"، والعرضي يمكن إدراكها بدونه.
الثاني: أن الذاتيَّ لا يُعلل، والعرضيُّ يعلل.
الثالث: أن الذاتي هو الذي لا تبقى الذات مع توهم رفعه، والعرضي بخلافه.
وإيضاح الفوارق الثلاثة بالأمثلة كما سيأتي:
أما كون الذات لا تعقل بدون الناطق، ولكن تعقل بدون الضاحك والكاتب فقد قالوا: لو فرضنا أن عاقلًا من العقلاء لم ير الإنسان ولم يتصورْه بحال، فسأل عنه من يعرفُه، فإن عرّفه له بأنه "جسم"، دخل في التعريف الحجر مثلًا، فإن زاد في التعريف أنه "نامٍ" دخل النبات والشجر، فإن زاد أنه "حساس" دخل الفرس مثلًا، فإن زاد أنه "ناطق" مثلًا انفصل عن غيره، وتميز عن كل ما سواه.
والنطق في الاصطلاح عند المنطقيين: "القوة العاقلة المفكرة التي يُقتدر بها على إدراك العلوم والآراء"، وليس المراد به عندهم الكلام.
وإن قال: هو "منتصب القامة يمشي على اثنتين"، دخل الطير، فإن زاد "لا ريش له" دخل منتوفُ الريش من الطيور وساقطُه، فإن زاد "ناطق" حصل التمييز والإدراك.
فإن قيل: كذلك يحصل التمييز والإدراك فيما لو قال: إنه ضاحك"، أو "كاتب"؛ لأنه لا يشاركه غيره في الضحك والكتابة؟
فالجواب أنهم يقولون: الضحك "حالة تعرض عند التعجب من أمر بعد أن تتفكر فيه القوة الناطقة"، والكتابة "نقوش على هيئات ومقاديرَ معلومةٍ لا تحصل إلا بتفكير القوة الناطقة"، فظهر أن الضحك والكتابة فرعان عن النطق، لا يوجدان إلا تبعًا له، ولا يُعقلان إلا تبعًا له، فلم تُعقل حقيقة الإنسان دون النطق، بخلاف الضحك، والكتابة، فإن الحقيقة تُعقل بدونهما، كذا قالوا!
وأما الفرق الثاني -الذي هو كون الذاتي لا يعلل، والعرضي
يعلل- فواضح؛ فإنك لا تقول: لم كان الإنسان ذا قوة مفكرة يَقتدر بها على إدراك العلوم والآراء؟ تعني النطق، ولكن إذا رأيته يضحك أو يكتب شيئًا فإنك قد تقول له: ما هو السبب الذي أضحكك؟ وما هو السبب الذي حملك على كتابة هذا الذي كتبت؟ .
وأما الفرق الثّالث -الذي هو أن الذاتيَّ لا تبقى الذات مع توهم رفعه أي عدمه- فواضح؛ لأنك لو فرضتَ خُلُوّ حيوان من القوة العاقلة المفكرة التي يُقتدر بها على إدراك العلوم والآراء لا يمكن أن يكون ذلك الحيوان إنسانًا، ولا يردُ على ذلك المعتوه الذي لا عقل له، والمجنون الفاقد العقل بالكلية؛ لأن المراد بكونه ناطقًا أنّ ذلك هو طبيعته وجِبِلَّتُه التي جُبل عليها، ولو زالت عن بعض الأفراد لسبب خاص.
فبهذه الفوارق الثلاثة تعرف الفرق بين الذاتي والعرضي.
وإذا عرفت حد (الجنس) و (النوع) و (الفصل) و (الخاصة) و (العرض العام).
فاعلم أن (الجنس) ينقسم إلى: جنس قريب، وجنس متوسط، وجنس بعيد.
وضابط الجنس القريب أنه هو "تمام القدر المشترك بين الأنواع"، كالحيوان بالنسبة إلى الإنسان والفرس؛ فإن [الإنسان]
(1)
والفرس
(1)
في المطبوع: (الحيوان)، وما أثبته هو المناسب للسياق.
يشتركان في الجوهرية والجسمية والنمائية والحساسية، وكل هذه الصفات داخلةٌ في الحيوان، فهو تمام القدر المشترك بينهما، وقد يتميز كل منهما عن الآخر بفصله أو خاصته، كتمييز الإنسان بأنه الناطق إن كان المُميز ذاتيًّا، أو بأنه الضاحك أو الكاتب إن كان المُميز عرضيًا، وكتمييز الفرس بالصاهل مثلًا.
وضابط الجنس المتوسط: أنه هو "ما ليس تمامَ القدر المشترك، مع اندراجه في جنس فوقه"، وهو مرتبتان:
الأولى: كالنامي بالنسبة إلى الإنسان والفرس مثلًا؛ فإنه جنس متوسط بالنسبة إليهما؛ لأنهما يشتركان في (النامي)، وليس تمامَ القدر المشترك بينهما؛ لاشتراكهما في (الحساسية) أو (التحرك بالإرادة)، وهما
(1)
خارجان عن (النامي) وهو الذي يكبر تدريجًا، مع أن النامي داخل في جنس فوقه وهو الجسم مثلًا.
المرتبة الثانية: من مرتبتي الجنس المتوسط (كالجسم) بالنسبة إلى الإنسان والفرس؛ فإنهما يشتركان في الجسمية، وليست تمام القدر المشترك بينهما؛ لاشتراكهما في النمائية والحساسية مثلًا، وكلتاهما خارجة عن الجسم، لا يتحقق شموله لها؛ إذ ليس كل جسم ناميًا، ولا كل جسم حساسًا؛ فإن الحجر ليس بنام ولا حساس، مع أنه جسم، والجسم داخل في جنسٍ فوقه وهو الجوهر.
وأما ضابط الجنس البعيد فهو "ما ليس تمام القدر المشترك بين
(1)
أي الحساسية والتحرك بالإرادة.
الأفراد مع أنه ليس فوقه جنس"، كالجوهر، وهو "ما يستحيل قبوله الانقسام لقلته".
فالجوهر مثلًا هو الجنس الأبعد العالي، وجنس الأجناس.
ومناقشات المتكلمين في إمكان وجوده وعدم إمكانه معروفة، وليس هذا محلَّ بسطها.
وأما الجواب عن السؤال (بما) بالحد فهو في السؤال عن كلي واحد. فقولك: ما هو الإنسان؛ جوابه بحده الذي هو "الحيوان الناطق"، وهكذا.
وهذا هو حاصل ما لا بد منه من مبادئ التصورات، فتحصل أن الحيوان مثلًا جنس قريب للإنسان والفرس مثلًا، وأن النامي والجسم كلاهما جنس متوسط بالنسبة لهما، وأن الجوهر جنس أبعد.