الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في التناقض
وهو في اللغة: "كون شيئين ينقض كل واحد منهما الآخر".
وفي الاصطلاح: هو "اختلاف قضيتين في الكيف -أعني السلب والإيجاب- على وجه يلزم منه أن تكون إحداهما صادقة والأخرى كاذبة"، فإن كذبتا معًا أو صدقتا معا فلا تناقض.
وقد علمتَ مما مرّ أن القضايا أربع: شخصية، ومهملة، وكلية، وجزئية، وأن المهملة في قوة الجزئية، فهي في الحقيقة ثلاث.
أما تناقض الشخصية فلا يحتاج إلا إلى تبديل الكيف فقط، فنقيض الشخصية الموجبة شخصية سالبة، كعكسه، فقولك:(زيد قائم) نقيض (زيد ليس بقائم). و (زيد ليس بقائم) نقيضه (زيد قائم).
وإن كانت مسورة فإنها يلزم تبديل أكَمّها،
(1)
مع تبديل كيفها، فنقيض الكلية الموجبة نحوَ (كل إنسان حيوان) جزئيةٌ سالبة، وهي (بعض الإنسان ليس بحيوان) كعكسه، ونقيض الكلية السالبة نحو (لا شيء من الإنسان بحجر)، جزئية موجبة، وهي (بعض الإنسان حجر)، كعكسه.
والمهملة في قوة الجزئية، فإن كانت مهملة موجبة فنقيضها سالبة كلية، وإن كانت مهملة سالبة فنقيضها كلية موجبة كما هو واضح.
فظهر أن الاختلاف في الكيف بين القضيتين لا بد منه في التناقض.
(1)
في المطبوع: (كمهما)، والصواب ما أثبته.
وأن تبديل السور الكلي بالجزئي كعكسه أيضًا لا بد منه في المسورات؛ لأن السور الكلي إذا لم يبدل بالجزئي ولم يبدل الجزئي بالكلي جاز صدقهما معًا وكذبهما معًا فيما إذا كان المحمول أخص من الموضوع.
فلو قلت: (كل حيوان إنسان) و (لا شيء من الحيوان بإنسان) فهما كليتان كاذبتان؛ لعدم تبديل الكم.
وكذلك لو قلت: (بعض الحيوان إنسان) و (بعض الحيوان ليس بإنسان) فهما جزئيتان صادقتان؛ لعدم تبديل الكم، وقد عرفت أن لا تناقض بين كاذبتين، ولا بين صادقتين.
واعلم أن المنطقيين يقولون: إنه يشترط لتحقيق التناقض بين القضيتين الاتحاد في تسعة أمور:
الأول: اتحاد المحمول، فلو اختلف جاز كذبهما وصدقهما، كقولك:(زيد ضاحك)(زيد ليس بكاتب).
الثاني: اتحاد الموضوع، فلو اختلف جاز صدقهما وكذبهما، كقولك:(زيد عالم) و (عمرو ليس بعالم).
الثالث: اتحاد الزمان، فإن اختلف الزمان جاز صدقهما وكذبهما، كقولك:(النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس)(النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل إلى بيت المقدس)، فإن قصدت بالأول ما قبل النسخ وبالثاني ما بعده صدقتا، وإن عكسْت كذبتا.
الرابع: اتحاد المكان، فإن اختلف جاز صدقهما وكذبهما، كقولك:(زيد صلى) تعني في المسجد، (زيد لم يصل) تعني في
الدار.
الخامس: الفعل والقوة، فإن قُصد بإحدى القضيتين الفعل وبالأخرى القوة جاز صدقهما وكذبهما، كقولك:(الخمر في الدن مسكرة)، تعني بالقوة، و (الخمر في الدن ليست بمسكرة) تعني بالفعل، فهما صادقتان، ولو عكست في القصد لكانتا كاذبتين.
السادس: الكل والبعض، فإن اختلفا في الكل والبعض جاز صدقهما وكذبهما، كقولك:(الزنجي أبيض) تعني بعضه، وهو أسنانُه وبياض عينيه، (الزنجي ليس بأبيض) تعني سائر بدنه.
السابع: الإضافة، فإن اختلفا في الإضافة جاز كذبهما وصدقهما، كقولك (زيد أب) و (زيد ليس بأب)، تعني بالأول أنه أبٌ لعمرو، وبالثاني أنه ليس أبًا لبكر.
الثامن: الشرط، فإن اختلفا في الشرط جاز كذبهما وصدقهما، كقولك:(زيد يدخل الجنة) و (زيد لا يدخل الجنة)، تعني بالأول بشرط موته على الإيمان، وبالثاني بشرط موته على الكفر.
التاسع: اتحادهما في التحصيل والعدول
(1)
، فإن كانت إحداهما
(1)
التحصيل هو سلامة طرفي القضية -الموضوع والمحمول- من تسلط السلب عليه، ولو مع نفي النسبة، فقولك:(زيد كاتب) محصَّلة موجبة، وقولك:(زيد ليس بكاتب) محصلة سالبة، أما العدول فيكون بتسلط السلب على الموضوع أو المحمول أو كليهما، فقولك:(زيد هو غير كاتب) معدولة المحمول موجبة، وقولك:(زيد ليس هو غير كاتب) معدولة المحمول =
محصَّلة والأخرى معدولة لم [تتناقضا]
(1)
، لصدق السالبة المحصلة مع صدق الموجبة المعدولة، كما هو معروف في محله، وكذلك تصدق المحصلة الموجبة مع صدق السالبة المعدولة، هكذا يقولون.
والتحقيق أن التناقض بين القضيتين يتحقق بالوحدة في شيء واحد، وهو النسبة الحكمية، بأن تكون النسبة المثبتة هي بعينها النسبة المنفية.
تنبيهان مهمان:
الأول: اعلم أن ماذكرنا هنا من أنه يشترط في التناقض بين النقيضين اتحاد الزمان أمر حق صحيح لا شك فيه، وبه يظهر غلط جماهير علماء الأصول في قولهم: إن المتواترات لا تُنسخ بأخَبار الآحاد الثابتِ تأخرُها عنها، مع أن خبر الواحد المتأخر عن المتواتر لا يناقضه، لاختلاف زمنهما، وكلاهما حق في وقته.
فقوله -تعالى-: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ} الآية [الأنعام / 145]، إذا أُنزل بعده بأكثرَ من سبع سنينَ تحريمُ الحمر الأهلية بخيبر مثلًا، فلا يكون تحريم الحمر الطارئُ بعد الآية بسنينَ مناقضا لها، لأنها وقتَ نزولها لم يكن محرما إلا ما ذُكر فيها من المحرمات الأربعة، وتحريم الحمر طارئ بعد ذلك، فالآية صادقة في وقتها،
= سالبة، وقولك:(غير زيد كاتب) معدولة الموضوع، وقولك: (غير زيد هو غير كاتب معدولة الطرفين. انظر البصائر النصيرية ص 97، وانظر كلام المؤلف في ذلك في القسم الثاني من هذا الكتاب ص 282.
(1)
في المطبوع: (يتناقضا).
وأحاديث تحريم الحمر الأهلية صادقة في وقتها.
فتبين أن التحقيق الذي لا شك فيه هو جواز نسخ المتواتر بأخبار الآحاد الثابتِ تأخرُها عنه؛ لعدم المنافاة مع اختلاف الزمن. وقد أوضحنا هذا في كتابنا "أضواء البيان" في سورة الأنعام، في الكلام على قوله:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145].
وقد غلط في هذه المسألة جماهير علماء الأصول، مع كثرتهم وجلالتهم في العلم والفهم، والعلمُ عند الله -تعالى-.
التنبيه الثاني: قد علمتَ مما ذكرنا في التناقض أن الكلية الموجبة يتحقق نقضها بالجزئية السالبة، وهذا في فن المنطق أمر معروف مطّرد لا نزاع فيه، ولكنْ مثلُه لا يتحقق به التناقض في فن الأصول؛ لأنه كمْ مِن نصٍ من كتاب أو سنة هو كلية موجبة، مع وجود نص آخرَ من كتاب أو سنة يتضمن جزئية سالبة، ووجه عدم التناقض بينهما أن الجزئية السالبة تكون مخصِّصة للكلية الموجبة، والتخصيص في الاصطلاح هو "قصر العام على بعض أفراده بدليل".
فقوله -تعالى-: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] الألف واللام في (المطلقات) سواء قلنا: إنها موصولةٌ وصلتُها اسم المفعول المقترنُ بها، أو قلنا: إنها تعريفية؛ نظرًا إلى تناسي الوصفية، أو على رأي من يرى أنها تعريفية، فهو في قوة كلية موجبة هي (كل مطلقة تتربص ثلاثة قروء).
وقوله في المطلقات الحوامل: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] في قوة جزئية سالبة هي قولك: (بعض المطلقات لا يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء)، بل ينتظرن وضع حملِهنّ، فهذه الجزئية السالبة لم تناقض تلك الكلية الموجبة، بل هي مخصصة لعمومها.
وكذلك قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} الآية [الأحزاب: 49]. فهو أيضًا في قوة جزئية سالبة هي قولك: (بعض المطلقات لا يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء)؛ لأنهن لا عدة عليهن أصلًا، وهن المطلقات قبل الدخول.
وكل المخصِّصات المنفصلة المعروفة في فن الأصول أمثلة لما ذكرنا، كقوله -تعالى-:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] فإنه كلية موجبة؛ لأن لفظة (ما) في الآية صيغة عموم. فهو في قوة: وأحل لكم كل امرأة سوى ما ذكر من المحرمات في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} إلى قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} الآية [النساء / 23 - 24].
وتحريم النبي صلى الله عليه وسلم لنكاح المرأة على عمتها أو خالتها في قوة جزئية سالبة هي قولك: (بعض ما وراء ذلك ليس بحلال لكم) كجمع المرأة وعمتَها وخالتَها، فهو تخصيص لا تناقض، وهكذا فافهمه فإنه مهم.
واعلم أن التناقض باعتبار الجهة لم نذكره لأنا لم نتعرض للجهة
ولا للقضايا الموجهة
(1)
أصلا، كغيرها من أحكام القضايا اختصارا، كما أشرنا إليه سابقًا
(2)
.
ونقيض الشرطية يعرف من نقيض الحملية، ويشترط لتناقضهما اتحاد المقدَّم والتالي، والزمان والمكان، واختلاف الكيف مع اختلاف الكم في المسؤرات.
فقولك مثلًا: (كلما كان هذا إنسانًا كان حيوانًا) نقيض (قد لا يكون إذا كان هذا إنسانًا كان حيوانًا).
وقولك: (ليس البتة إذا كان هذا إنسانًا كان حجرًا نقيضه (قد يكون إذا كان هذا إنسانًا كان حجرا)، وبالعكس فيهما، وقس على ذلك باقيَها.
ومن فوائد معرفة التناقض أنك إذا أقمت الدليل على صحة نقيض قول الخصم فكأنك أقمته على بطلان دليله؛ لأن صحة النقيض يلزمها بطلان نقيضه.
وإذا أقمت الدليل على بطلان نقيض قولك فكأنك أقمته على صحته؛ لأن بطلان النقيض يلزمه صحة نقيضه، وهكذا.
(1)
التوجيه في القضايا هو بيان كيفية نسبة المحمول إلى الموضوع من حيث الضرورة وعدمها، ومن حيث الدوام وعدمه، انظر تحرير القواعد المنطقية للقطب الرازي، ط 2، 1367 هـ، مصر. وسيشير المؤلف إلى تعريف القضية الموجهة في القسم الثاني من هذا الكتاب ص 225.
(2)
ص 79.