الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في التصديق وبيان المناظرة فيه
وقد قدمنا تعريفَ التصديق بإيضاح، وذكرنا انقسامه إلى ضروري ونظري، وبينا أمثلة ذلك في الاصطلاح المنطقي
(1)
، وهو عند أهل الفن ينقسم إلى تصديق بديهي وتصديق نظري، والتصديق البديهي عندهم هو ما لا يحتاج إلى نظر واستدلال، سواء كان محتاجًا إلى تنبيه أو كان غير محتاج إليه، والتصديق البديهي عندهم ينقسم بالتقسيم الأول إلى قسمين: الأول البديهي الجلي، والثاني البديهي الخفي.
والبديهي الجلي ينقسم عندهم إلى أربعة أقسام:
الأول: البديهي الأولى، وضابطه أنه كل قضية يحكم العقل بثبوت محمولها لموضوعها بمجرد تصورهما -أعني الموضوع والمحمول- من غير احتياج إلى واسطة أصلًا، كقولك: الواحد نصف الاثنين، والكل أكبر من الجزء، والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، ونحو ذلك؛ فإن مجرد تعقلك للواحد والنصف والاثنين، وتعقلك للكل والعظم والجزء، وتعقلك للنقيضين وللارتفاع والاجتماع، يجعلك تحكم بثبوت المحمول للموضوع في الأمثلة الثلاثة المذكورة كما هو واضح من غير احتياج إلى شيء زائد.
القسم الثاني من أقسام البديهي الجلي: هو ما يسمونه البديهي الجلي الفطري، وضابطه أنه كل قضية يحكم العقل فيها بثبوت المحمول للموضوع بعد تصورهما بواسطة قياس اقتراني طبيعي،
(1)
راجع ص 12، 15.
بمعنى أنه مركوز في طبيعة الإنسان، لا يمكن أن يغيب عن ذهنه؛ للزوم إدراكه لإدراك طرفي القضية، كالحكم على الأربعة بأنها زوج؛ لأنك إذا تصورت معنى الأربعة والزوجية لزم عقلًا أن تدرك أنها عدد منقسم إلى متساويين، وتدرك أن كل عدد منقسم إلى متساويين فهو زوج.
وصورة القياس الطبيعي المذكور أن تقول: الأربعة عدد منقسم إلى متساويين، وكل عدد كان كذلك فهو زوج، ينتج من الشكل الأول: الأربعة زوج. وهذا القياس لا يغيب عن ذهنك، وهذه النتيجة هي ما يسمى بالبديهي الجلي الفطري، وقد قدمنا ما يزيد هذا إيضاحًا في الكلام على أنواع الدلالة في مبحث اللازم في الذهن والخارج معًا
(1)
.
النوع الثالث من أنواع البديهي الجلي: التجريبي، وضابطه أنه كل قضية يحكم العقل فيها بثبوت المحمول للموضوع بواسطة تجريب ومشاهدات متكررة مفيدة للعلم بأن هذا الوقوع المتكرر على نمط واحد من غير تخلف لا بد له من سبب، وإن لم يكن عالمًا بحقيقة هذا السبب.
وهذا القسم واضح، ومن أمثلته قولك: الماء يُروي، والخبز يشبع، والنار محرقة، والسقمونيا مسهل للصفراء، والسكنجبيل مسكن لها، وهكذا؛ لأنها قضايا علمت بالتجريب، وتكرُّرُ المشاهدة لترتب المسبَّب فيها على السبب، فحصل الجزم بها بواسطة ذلك
(1)
راجع ص 21.
التكرر المذكور.
الرابع من أنواع البديهي الجلي: المشترك بين عامة الناس، وهو نوعان:
الأول: الحسي، وهو كل قضية يحكم العقل بثبوت محمولها لموضوعها استنادًا إلى إدراك الحواس الظاهرة، كقولك:(الشمس مضيئة)؛ لأنك تدرك إضاءتها بحاسة عينك، وقولك:(هذا الحرير لين)؛ لأنك تدرك لينه بحاسة لمسك، و (هذا الكلام واضح)؛ لأنك تدرك وضوحه بحاسة سمعك. وهذه الأمثلة الإدراك فيها بالحواس الظاهرة.
والثاني من نوعيه: الوجداني، وهو الذي يسميه بعضهم بالمشاهدات، وهو كل قضية يحكم العقل فيها بثبوت المحمول للموضوع استنادًا إلى إدراك الحواس الباطنة، كقولك: اللذة عارض يعرض للإنسان، والألم كذلك، والفرح والخوف ونحو ذلك كذلك؛ فإن الإنسان يدرك حصول اللذة والألم والفرح والخوف ونحو ذلك بحواسه الباطنة.
وأما البديهي الخفي فأشهر أنواعه اثنان:
الأول: البديهي الخفي الحدسي، وأصل الحدس الظن والتخمين، وضابط البديهي الحدسي هو كل قضية يحكم فيها العقل بثبوت المحمول للموضوع استنادًا إلى حدس قوي من النفس يزول معه الشك ويحصل به اليقين.
كقولك: ارتفاع الماء في الأنهار سبب ارتفاع ماء الآبار التي ليست بعيدة من الأنهار.
وجرت عادة أهل هذا الفن وأهل فن المنطق بأنهم يمثلون للحدسيات بأن نور القمر مكتسب من نور الشمس؛ قالوا: لأن القرائن تقوي هذا الحدس حتى يصير يقينيا؛ لأن نور القمر يشاهد كماله ونقصانه بحسب بعده من الشمس وقربه منها، ويجزمون بناء على هذا بأن نوره مكتسب من نورها.
ونحن دائمًا نتوقى هذا المثال ونحوه تأدبًا مع ظاهر القرآن في قوله -تعالى-: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} [يونس: 5] وقوله: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} [نوح: 16]
(1)
.
وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الحدسيات من الظنيات لا من اليقينيات.
وقال العلامة محمد بن الحسن البناني
(2)
في شرحه لسلم الأخضري: والتحقيق أن الحدس عبارة عن الظفر عند الالتفات إلى المطالب بالحدود الوسطى دفعة، فلا حركة فيه، وإلا كان فكرًا؛
(1)
وجه تأدب المؤلف رحمه الله مع ظاهر القرآن بتوقي المثال الذي يذكره الجدليون والمناطقة أنه قد يُفهم من عبارتهم نسبة التأثير إلى الشمس استقلالًا، وهذا قادح في توحيد الربوبية، وانظر ما يأتي ص 258.
(2)
محمد بن الحسن بن مسعود البناني، أبو عبد الله، فقيه مالكي من أهل فاس، توفي سنة 1194 هـ. انظر الأعلام للزركلي (6/ 91).
فالانتقال في الحدس دفعي لا تدريجي، عكس الفكر. انتهى محل الغرض منه.
ومعنى كلامه أن الحدسيات لا يُحتاج فيها إلى العلم بدليلها ثم الانتقالِ من علم الدليل إلى علم المدلول الذي هو الحدسيات؛ لأنها من البديهيات لا من النظريات، بل يكفي في إدراكها التأمل في الطرف المتكرر الذي هو الحد الأوسط كما تقدم إيضاحه.
فالحد الأوسط في المثال المتقدم كون ارتفاع ماء الأنهار سببًا في ارتفاع ماء الآبار، لأنك تقول: ارتفاع ماء الأنهار سبب في ارتفاع ماء الآبار، وكل سبب في شيء يوجد معه مسبَّبه، ينتج من الشكل الأول: ارتفاع ماء الأنهار يوجد معه مسبَّبه، أي وهو ارتفاع ماء الآبار، وهو المطلوب، فإذا التفت إلى هذا المطلوب بالحد الوسط الذي هو كون هذا سببًا في هذا حصل لك المطلوب دفعة من غير تدريج، وهو معنى [كون]
(1)
الانتقال فيه دفعيًا لا تدريجيًا، والله -تعالى- أعلم.
وقال بعضهم: هو كل قضية يحكم العقل بثبوت محمولها لموضوعها بناءً على محسوسات أخرى لا يحتاج العقل في ترتب هذه عليها إلى نظر واستدلال. وهو راجع لما ذكرنا.
النوع الثاني: من نوعي البديهي الخفي هو البديهي المتواتر، وضابطه أنه كل قضية يحكم العقل فيها بثبوت المحمول للموضوع
(1)
في المطبوع: (كان)، وما أثبتُّه هو المناسب للسياق.
استنادًا إلى إخبار جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب عادة، كقولك: مدينة بغداد موجودة، ودمشق موجودة. وحقيقة التواتر وشروطه كل ذلك مبين في علوم الحديث وعلم الأصول.
فهذه الأقسام الستة هي أقسام التصديق البديهي، الأربعة الأول منها من البديهي الجلي، والأخيران من البديهي الخفي، كما رأيت إيضاحه، وهذه البديهيات الست تعرف باليقينيات.
ومذهب الأخضري
(1)
وابن الحاجب
(2)
ومن وافقهما أنها ست، ولكن حذفوا منها النوع الفطري، وجعلوا الحسي نوعين: ما يدرك منه بالحواس الظاهرة جعلوه قسمًا مستقلًا وسموه المحسوسات، وما يدرك بالحواس الباطنة جعلوه قسمًا آخر مستقلًا وسموه بالمشاهدات والوجدانيات، وعلى ذلك درج الأخضري في سلّمه في قوله:
أجلُّها البرهانُ ما أُلف مِنّ
…
مقدماتٍ باليقين تَقترنْ
من أولياتٍ مشاهداتِ
…
مجرباتٍ متواتراتِ
وحدَسياتٍ ومحسوساتِ
…
فتلك جملة اليقينياتِ
ونبه بعض شروحه على أن الصواب هو التقسيم الذي ذكرنا.
وإذا عرفتَ أقسام التصديق البديهي، وأن أربعة منها من النوع
(1)
سبقت ترجمته ص 5.
(2)
هو أبو عمرو، عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس، الكردي، المالكي، من كبار الأصوليين، توفي سنة 646 هـ. انظر سير أعلام النبلاء للذهبي (23/ 264 - 266).
الجلي، واثنين من النوع الخفي، فاعلم أن النوع الآخر من نوعي التصديق هو التصديق النظري، وقد قدمنا أن النظري هو ما يُحتاج في إدراكه إلى تأمل.
وضابط التصديق النظري عند أهل هذا الفن هو: كل قضية لا يحكم العقل بثبوت محمولها لموضوعها إلا بعد النظر فيها والاستدلال عليها، كقولك: العالم حادث، وخالقه أزلي، بمعنى أنه لا أول لوجوده.
وقد عرفت مما مر أن التصديق ثلاثة أقسام: الأول تصديق بديهي جلي، والثاني تصديق بديهي خفي، والثالث تصديق نظري.
أما التصديق البديهي الجلي فليس محلًا للمناظرة، ولا يجوز لأحد اعتراضه بحال، والمناقشة فيه تسمى مكابرة، وهي غير مقبولة، وصاحبها لا يريد الحق، وإنما يريد الباطل، كأن يرفع من شأن نفسه، ويضع من شأن خصمه، فإذا قال لك أحد: الكل أكبر من الجزء، والواحد نصف الاثنين، أو الأربعة زوج، أو الشمس مضيئة، أو الماء يُروي، ونحو ذلك، فليس لك المناقشة في شيء من ذلك، بل يجب عليك تسليمه؛ لأنه بديهي جلي.
وأما البديهي الخفي فلا يحتاج إلى دليل؛ لأنه بديهي، وإنما يحتاج إلى تنبيه.
والتنبيه في الاصطلاح عندهم: مركب يُقصد به إزالة الخفاء لا الاستدلالُ، ومثاله في الحدس القياس الاقتراني الذي ذكرناه في أن
ارتفاع ماء الأنهار سبب في ارتفاع ماء الآبار، وبينا أن البناني قال: إن تأمل الحد الوسط فيه يكفي في إدراك المطلوب.
ومثال التنبيه في المتواتر أن تقول: وجود بغداد أخبر به عدد يستحيل تواطؤهم على الكذب عادة، وكل شيء أخبر به عدد كذلك فهو حق، ينتج من الشكل الأول: وجود بغداد حق. وهذا القياس للتنبيه لا الاستدلال؛ لأن من المعلوم أن ما أخبر به العدد المذكور فهو حق؛ ولأن المتواترات من البديهيات.
ومثال الاستدلال على التصديق النظري قولك: أنا مخلوق بعد أن كنتُ معدومًا، وكل مخلوق بعد أن كان معدومًا فلا بد له من خالق، ينتج من الشكل الأول: أنا لا بد لي من خالق.
وقد علمت مما مر أن المناظرة في التصديق لا تكون إلا في نوعين لا ثالث لهما:
الأول التصديق النظري، وهو المحتاج إلى الدليل.
والثاني التصديق البديهي الخفي، وهو المحتاج إلى التنبيه.
وهذه تفاصيل طرق المناظرة فيهما:
اعلم أولًا أنك إذا ألقى إليك صاحب التصديق تصديقًا نظريًا أو تصديقًا بديهيًا خفيًّا فلكل واحد منهما حالتان:
أما حالتا التصديق النظري فالأولى منهما أن يكون ألقاه إليك مجردًا عن الدليل؛ لأجل إيهام أنه من البديهيات التي لا تحتاج لدليل،
أو لغرض آخر، والثانية أن يكون ألقاه إليك مقرونًا بالدليل.
وهاتان هما حالتا البديهي الخفي؛ لأنه تارة يلقيه إليك مجردًا عن التنبيه لأجل إيهام أنه من الجليات أو لغرض آخر، وتارة يلقيه إليك مقرونًا بالتنبيه، فالأقسام أربعة:
الأول: [تصديق]
(1)
نظري مجرد عن الدليل.
الثاني: [تصديق]
(2)
نظري مقرون بالدليل.
الثالث: بديهي خفي مجرد عن التنبيه.
الرابع: بديهي خفي مقرون بالتنبيه.
فإن كان ألقى إليك [تصديقًا]
(3)
نظريًا مجردًا عن الدليل، أو بديهيًا خفيًّا مجردًا عن التنبيه فليس لك في الاعتراض عليه إلا شيء واحد: وهو المنع، كأن تقول: أمنع هذه الدعوى، أو: لا أسلم لك هذه الدعوى، أو: هذه الدعوى ممنوعة، أو غير مسلمة، ونحو ذلك.
ويكفيك الاقتصار على واحدة من تلك العبارات، فيكون منعك هذا منعًا مجردًا عن السند، وهو الأظهر عندي.
وقد قال غير واحد من أهل هذا الفن: إنه لا مانع من أن تذكر مع المنع المذكور السند الذي استندت إليه في المنع، فيكون منعك
(1)
في المطبوع: (تصور)، ولعله سبق قلم كما هو واضح من السياق.
(2)
في المطبوع: (تصور)، ولعله سبق قلم كما هو واضح من السياق.
(3)
في المطبوع: (تصورًا)، وهو خطأ كما سبقت الإشارة.
المذكورُ مقرونًا بالسند.
والذي يظهر أن إتيانه بالسند في منع دعوى لم يُقم صاحبها عليها دليلًا أنه من أنواع الغصب، والغصب وظيفة غير مقبولة عند أهل هذا الفن، وسيأتي في الكلام على الغصب أن السائل إذا عمد إلى دعوى غير مستدل عليها أو إلى مقدمة دليل لم يُقم المعلل عليها دليلًا فأقام دليلًا على بطلان إحداهما أنه يكون غاصبًا، والغصب وظيفة غير مقبولة في هذا الفن، ووجه كونه غاصبًا ظاهر؛ لأن الاستدلال لصاحب التصديق المحتاج إلى دليل أو تنبيه، فإذا منعه السائل واستدل على منعه فقد غصب وظيفة المعلل التي هي الاستدلال، واقتران المنع بسندٍ استدلال بذلك السند على بطلان دعوى المعلل قبل أن يستدل عليها فكونه من قبيل الغصب ظاهر.
والظاهر أن من أجاز اقتران المنع المذكور بالسند من أَهل هذا الفن يرى هذا النوع من الغصب جائزًا كما لا يخفى.
ومثاله في التصديق النظري أن تقول: العالم كله حادث، فيقول خصمك القائلُ بقدمه من الفلاسفة الضالين: أمنع دعواك هذه.
ومثاله في البديهي الخفي أن تقول: ارتفاع ماء الأنهار سبب في ارتفاع ماء الآبار، فيقول خصمك: أمنعُ هذه الدعوى، أو: لا أسلمها، ونحو ذلك من العبارات المتقدمة.
وسيأتي إن شاء الله
(1)
أوجه الجواب عن المنع المذكور، مع أمثلة
(1)
ص 223.
استدلال السائل على المنع الذي ذكرنا أنه من الغصب.
وإذا عرفت أن التصديق الذي لم يكن مقرونًا بدليل إن كان نظريًا، أو بتنبيه إن كان بديهيًا خفيًّا، لا يصح الاعتراض على واحد منهما إلا بالمنع مجردًا عن السند، أو مع السند عند من يجيز ذلك، فاعلم أن صاحب التصديق إذا ألقى إليك تصديقًا نظريًا مصحوبًا بالدليل على صحته، أو تصديقًا بديهيًا خفيًّا مصحوبًا بتنبيه يزيل عنه الخفاء، فلك في الاعتراض على صاحب التصديق حينئذ ثلاث طرق
(1)
، كل واحدة منها يجوز للسائل المناظرة بها، والاعتراض على صاحب التصديق بها:
الطريق الأولى: هي أن تمنع مقدمة معينة من مقدمات الدليل، كأن تمنع صغراه فقط، أو كبراه فقط، وإن منعت الصغرى ومنعت الكبرى أيضًا فهما منعان.
وهذا النوع الذي هو منع مقدمة معينة من الدليل هو أسلم وظائف السائل، وأبعدها عن شائبة الغصب، وهو المعروف بالمناقضة، وإنما سمي مناقضةً لاستلزامه الإبطال في بعض الموارد، ويسمى أيضًا بالنقض التفصيلي؛ لتفصيل السائل في المنع بتبيين المقدمة الممنوعة، ويسمى أيضًا بالمنع الحقيقي، والممانعة، فهذه كلها أسماء له عند أهل هذا الفن.
(1)
يأتي ذكرها ص 232، 233.
وقد قدمنا في المقدمة المنطقية أن المقدمة الصغرى في القياس الاقتراني هي المشتملة على الحد الأصغر، وهو موضوع النتيجة دائمًا، وأن المقدمة الكبرى فيه هي المشتملة على الحد الأكبر، وهو محمول النتيجة دائمًا، وأن المقدمة الكبرى في الاستثنائي هي الشرطية، متصلة كانت أو منفصلة، وأن الصغرى فيه هي الاستثنائية، كما نقله ابن عرفة عن الفارابي، وقد أوضحنا كل ذلك فيما تقدم
(1)
.
وكثير من أهل هذا الفن يعبرون عن المنع بالمطالبة بالدليل، والمطالبة به في الحقيقة كأنها منع ضمني، وعلى كل حال فهي عندهم منع، وبعضهم يعترض على المنع المذكور بالمطالبة بالدليل؛ لأنه لا يشمل البديهي الخفي؛ لأن صاحبه لا يطالب بدليل، وإنما يطالب بتنبيه يزيل الخفاء كما عرفت مما تقدم.
ومثال منع المقدمة الصغرى في هذه الطريق من طرق المناظرة في الاقتراني ما لو قال: التفاح ربوي، ثم أقام الدليل على هذا التصديق فقال: كل تفاح مكيل، وكل مكيل ربوي، ينتج من الشكل الأول: التفاح ربوي.
فيقول خصمه: أمنع صُغرى دليلك هذا، وهي قولك: كل تفاح مكيل.
ومثال منع الكبرى أن يقول: الخيل السائمة تجب فيها الزكاة، ثم
(1)
ص 106، 107، 132.
يقيم الدليل على ذلك فيقول: الخيل السائمة مال، وكل مال تجب فيه الزكاة، ينتج من الشكل الأول: الخيل السائمة تجب فيها الزكاة.
فيقول خصمه: أمنعُ كُبرى دليلك هذا، وهي قولك: وكل مال تجب فيه الزكاة.
ومثاله في الاستثنائي أن يريد إثبات أن هذا إنسان فيقول: لو كان هذا حيوانًا لكان إنسانًا، لكنه حيوان، ينتج فهو إنسان.
فيقول خصمه: أمنعُ المقدمة الكبرى من دليلك هذا، وهي الشرطية، أعني قولك: لو كان هذا حيوانًا لكان إنسانًا.
ومثال منع الصغرى في القياس الاستثنائي أن يريد إثبات أن الذُرَة ليست بربوية، فيقول: لو كانت الذُرةُ ربوية لكانت مكيلة، لكنها غيرُ مكيلة، ينتج: فهي غير ربوية.
فيقول خصمه: أمنعُ صُغرى دليلك هذا، وهي قولك: لكنها غيرُ مكيلة.
ومثاله في التنبيه أن يقول صاحب التصديق: حرمة الحمر الأهلية قطعية. ثم يقيم الدليل على ذلك فيقول: حرمتها أخبر بها عن النبي صلى الله عليه وسلم عددٌ يستحيل تواطؤهم على الكذب، وكل حرمة أخبرَ بها عن النبي صلى الله عليه وسلم عددٌ يستحيل تواطؤهم على الكذب فهي قطعية، ينتج من الشكل الأول: حرمة الحمر الأهلية قطعية.
فيقول خصمه: أمنعُ صغرى دليلك هذا، وهي قولك: إن حرمتها أخبر بها عدد يستحيل تواطؤهم على الكذب.
واعلم أنا لا نطيل الكلام على التنبيه لقلة الفائدة فيه؛ لأن البديهي لا يحتاج في أصل ثبوته إلى دليل، وإنما يحتاج لتنبيه يزيل عنه الخفاء، ولا يتوجه إليه منع حقيقي صادق في نفس الأمر إلا إذا كان صاحبه جاء به على غير وجهه، كالمثال الذي ذكرنا، وإنما ذكرناه على غير وجهه لنوضح مثال ورود المنع عليه، والمثال لا يُعترض كما تقدم، وسنأتي إن شاء الله فيما يأتي بأمثلة للتنبيه والاستدلال صحيحة، يكون المنع الوارد عليها باطلًا، لنوضح وجه بطلانه.
وقد قال الجرجاني
(1)
في رسالته في البحث والمناظرة ما نصه: وأما التنبيه فيتوجه عليه ذلك، ولا يكثر نفعه [إذْ]
(2)
لم يُقصد به إثبات الدعوى، فلا يُقدح في ثبوته المستغني عن الإثبات، بخلاف الاستدلال. انتهى منها. وهو واضح.
وبناء على ذلك سنقلل الكلام في التنبيه ونبسطه في الاستدلال.
وهذه الأمثلة التي ذكرنا كلُّها أمثلة لمنع مقدمة معينة من دليل المعلل على تصديقه، مع كون المنع المذكور مجردًا عن السند. ومن المعلوم أن المنع المذكور للمقدمة المعينة تارة يكون مجردًا عن السند، وتارة يكون مقرونًا بالسند، ولا ينبغي أن يكون المنع المذكور مقرونًا بالسند إلا بعد إقامة المعلل عليه الدليل؛ فإن منعه السائل
(1)
علي بن محمد بن علي، الشريف الجرجاني، (740 - 816 هـ)، له "الكبرى والصغرى في المنطق"، ترجمته في الضوه اللامع (5/ 328) والأعلام (5/ 7).
(2)
في المطبوع: (إذا)، وما أثبتّه هو المناسب للسياق.
بالسند قبل استدلال المعلل فهو غصب، وقد قدمنا أن الغصب وظيفة غير مقبولة عند أهل هذا الفن، خلافًا لمن أجازه من أهل هذا الفن، كركن الدين أبي حامد محمد بن محمد العميدي السمرقندي الحنفي
(1)
، وهو أول من ميز هذا الفن عن غيره من العلوم، وجعله فنًا مستقلًا على الكيفية التي يتناقلها أهله
(2)
، وهو يجيز الغصب المذكور، هو ومن تبعه، وأكثر أهل هذا الفن على أنه وظيفة غير مقبولة، وهو الصواب؛ لأن ارتكاب الغصب يصيّر السائل في منزلة المعلل، كعكسه، وهذا لا ينبغي في المناظرة.
وقد يقول صاحب السنَد إنه ليس من الغصب؛ لأنه ليس بدليل مركب تام. ويجاب بأنه دليل على المنع، وإن حُذف بعض مقدماته، فلو قلتَ مثلًا: لا يجوز أن يكون كذا، فكأنك قلت: العقل يجوّز خلاف الدعوى، وكل دعوى يجوّز العقل خلافها فليست بصحيحة إلا احتمالًا، واحتمال الصحة لا يستلزم الصحة، فمنعها بطلب الدليل عليها واضح.
أما إن أقام المعلل الدليل على إحدى مقدمتي دليله، أو عليهما، فمنَعهما منعًا مقرونًا بالسند الذي هو دليل المنع، فهو مقبول جائز.
وإذا عرفت أن منع مقدمة معينة من مقدمات الدليل قد يكون مجردًا عن السند كما مثلنا، وقد يكون مقرونًا بالسند جوازًا اتفاقًا مع
(1)
كان إمامًا في الخلاف والجدل، توفي سنة 615 هـ، انظر الأعلام (7/ 27).
(2)
انظر وفيات الأعيان لابن خلكان (4/ 257).
إقامة صاحبها الدليل عليها، وقد يكون بدون إقامته الدليل عند من يجيز ذلك، فاعلم أن السند في اصطلاح أهل هذا الفن هو ما يذكره السامع معتقدًا أنه يستلزم نقيض الدعوى التي يوجِّه إليها المنع.
وإيضاح ذلك أنه هو المستند الذي يستند إليه المانع في إبطال الدعوى الممنوعة، ويسمى "المستنَد"، وربما قيل له:"الشاهد".
واعلم أن السند المذكور قد تختلف تقسيماته باختلاف الاعتبارات، فينقسم بالنظر إلى صورته التي يورد عليها إلى ثلاثة أقسام:
الأول: السند اللمي، ويسمى "الجوازي".
والثاني: السند القطعي.
والثالث: السند الحَلِّي، بالحاء المهملة المفتوحة ثم تشديد اللام بعدها ياء النسب.
أما اللمي فهو منسوب إلى لفظ "لِمَ"، المركبةِ من لام الجر، و"ما" الاستفهامية المحذوف ألفها، على القاعدة المشار إليها بقول ابن مالك في الخلاصة:
و(ما) في الاستفهام إن جُرّتْ حُذفْ
…
أَلفُها وأَوْلِها الها إن تقفْ
(1)
وإنما نسب هذا النوع من السند إلى "لِمَ" لأنها تذكر فيه، وضابط
(1)
ألفية ابن مالك: ص 72، باب الوقف.
هذا النوع من السند أن المانع يمنع مقدمة من دليل المعلل مثلًا، ويستند في ذاك المنع إلى أن العقل يجيز أن يكون الأمر على خلاف ما ذكره المعلل، وإذا كان العقل يجيز خلافه فلا يتعيّن هو مع تجويز خلافه؛ لأن تطرق ذلك الاحتمال سند في عدم نهوض ذلك الاستدلال، ولهذا كان اللمي يسمى الجوازي لما ذكرنا.
ومن أمثلته أن يقول المعلل صاحب التصديق: ذلك الشبح إنسان، ثم يقيم الدليل على هذا التصديق فيقول: لأنه ناطق، وكل ناطق إنسان، ينتج من الشكل الأول: هو -أي الشبح المذكور- إنسان، وهذا هو عين التصديق المدعى الذي أقيم عليه الدليل.
فيمنع السائل صغرى هذا القياس الاقتراني التي هي: هو -أي الشبح المذكور- ناطق، ويقرن هذا المنع بالسند اللمي المقتضي جوازَ كون ذلك الشبح غيرَ ناطق فيقول: لا نسلم أن ذلك الشبح ناطق، وهذا هو معنى منعه صغرى الدليل، ثم يأتي بالسند اللمي فيقول مثلًا: لم لا يكون حجرًا، أو يقول: لم لا يجوز أن يكون غير ضاحك، أو: لم لا يجوز أن يكون غير ناطق، وتجويز كونه حجرًا سند لكونه غير ناطق، وكذلك تجويز كونه غير ضاحك سند لكونه غير ناطق، وكونه غيرَ ناطق واضح أنه سند لمنع كونه ناطقًا كما ترى.
ومن أمثلته أن يقول المعلِّل صاحبُ التصديق: هذا الإنسان وارث لهذا الإنسان قطعًا، ثم يقيم الدليل على ذلك فيقول: لأنه ابنُه، وكل ابن وارث لأبيه، ينتج من الشكل الأول: هذا الابن [وارث]
(1)
(1)
في المطبوع: (وراث).
لأبيه، وهو عين التصديق المدعَى الذي أقيم عليه الدليل، وهو كون هذا الإنسان الذي هو الابن وارثًا لهذا الإنسان الذي هو الأب.
فيقول السائل أمنع كبرى دليلك هذا، وهي قولك: وكل ابن وارثٌ لأبيه، وهذا هو المنع، ويقرن هذا المنعَ بالسند اللمي المقتضي جواز كون ذلك الابن لا يرث ذلك الأب، فيقول مثلًا: لم لا يجوز أن يكون الابن كافرًا، أو: لم لا يجوز أن يكون عبدًا، أو: لما لا يجوز أن يكون الأب كافرًا، أو: لم لا يجوز أن يكون الأب عبدًا، وهكذا.
وأما النوع الثاني وهو السند القطعي فضابطه أن يكون السند المقرونُ بالمنع فيه التصريحُ القاطع من صاحب المنع المقترنِ بالسند، بما ينافي دعوى المعلل التي أقام عليها الدليل، من غير تعرض منه إلى بيان منشأ الغلط في الدعوى الممنوعة، قائلًا: إن السند المذكور قد قطع العقل بصحته.
ومثاله أن يقول المعلل صاحب التصديق: ذلك الشبح ليس بإنسان، ثم يقيم الدليل على ذلك فيقول: لأنه حجر، ولا شيء من الحجر بإنسان، ينتج من الشكل الأول: ذلك الشبح ليس بإنسان، وهو عين التصديق الذي أقيم عليه الدليل.
فيقول السائل: أمنع صغرى دليلك هذا، وهي قولك: لأنه أي الشبح المذكور حجر، ويقرن هذا المنع بالسند القطعي فيقول: كيف يكون الشبح المذكور حجرًا وهو ناطق، فقطعه بأنه ناطق ينافي دعوى المعلل التي أقام عليها الدليل، وهي كون الشبح المذكور ليس بإنسان، وذلك يمنعه صغرى الدليل منعًا مقرونًا بالسند القطعي.
ومن أمثلته أن يقول المعلل الحنفي صاحب التصديق: صوم رمضان يصح بنية قبل الزوال، ثم يقيم الدليل على هذا التصديق فيقول: لأنه تكفي فيه النية قبل الزوال، وكل صوم تكفي فيه النية قبل الزوال فهو صحيح.
فيقول السائل الشافعي أو المالكي أو الحنبلي: أمنع صغرى دليلك هذا، وهي قولك؛ لأنه تكفي فيه النية قبل الزوال، ثم يقرن منع هذه الصغرى بالسند القطعي فيقول: كيف تكفي فيه النية قبل الزوال وقد وقع الشروع فيه أولًا فاسدًا؛ لتجرده عن النية، و"الأعمال بالنيات"
(1)
، "ولا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل"
(2)
.
واعلم أن قصدنا دائمًا بالأمثلة التي اختلف فيها الأئمة مطلقُ المثال لفهم القاعدة، وليس قصدُنا مناقشةَ أدلة أقوالهم، وترجيحَ الراجح منها بالدليل.
والشأن لا يُعترض المثالُ
…
إذ قد كفى الفرض والاحتمال
وأما النوع الثالث من أنواع السند الذي هو السند الحَلّي، وربما سموه الحل، فضابطه أن يكون مرادُ السائل المانع تبيينَ منشأ غلط المعللِ صاحب التصديق، وتعيينَ موضع غلطه، وإنَّما يورد هذا النوع
(1)
جزء من حديث مشهور في أول صحيح البخاري.
(2)
أخرجه أصحاب السنن بعدة ألفاظ، الترمذي (730)، أبو داود (2454)، النسائي (2336)، ابن ماجه (1700)، وصححه الألباني كما في إرواء الغليل (4/ 25).
الذي هو السند الحَلي على مقدمة مبنية على الغلط، بسبب اشتباه شيء بآخر.
ومثاله أن يقول المعلل صاحب التصديق: لا زكاة فيما لم يوجب الشارع الزكاة في عينه، وكل ما لم يوجب الشارع الزكاة في عينه فلا زكاة فيه كالعروض.
فيقول السائل: أمنعُ كبرى دليلك هذا، وهي قولك: وكلما لم يوجب الشارع الزكاة في عينه فلا زكاة فيه كالعُروض، ثم يقرنه بالسند الحَلي فيقول: إنما يصح ما ذكرت فيما لو كانت العُروض لغير التجارة، أما عُروض التجارة فتجب فيها الزكاة، وهي في الحقيقة واجبة في قيمتها من النقد، فالمعلل قد اشتبهت عليه عُروض التجارة بعُروض القُنية، فنفَى الزكاةَ عن الجميع، والسائل بين بهذا السند الحَلّي منشأ غلطه، وأنه اشتباه هذا بهذا، وعيّن موضع الغلط، وأنه غلط في عُروض التجارة لاشتباهها عليه بعُروض القُنية، وظنِّه أنهما سواء، كما هو مذهب داود الظاهري
(1)
ومن تبعه.
ومن أمثلته أن يقول المعلل: ذلك الشبح ليس بإنسان، ثم يقيم الدليل على ذلك فيقول: لأنه -أي الشبح المذكور- فرس، ولا شيء من الفرس بإنسان، ينتج من الشكل الأول: ذلك الشبح ليس بإنسان.
فيقول السائل: أمنعُ صغرى دليلك هذا، وهي قولك: لأنه فرس؛
(1)
داود بن علي بن خلف، الأصبهاني، رأس الظاهرية، (200 - 270 هـ).
انظر ترجمته في أعلام النبلاء للذهبي (13/ 97 - 108).
لأن محل ذلك فيما لو كان غيرَ ناطق، والحال أنه ناطق. فقد اشتبه على المعلل شبح الإنسان بشبح الفرس، فظن أن الإنسان فرس، فأقام الدليل المذكور على ذلك، [فبين]
(1)
السائل منشأ غلطه، [وأنه]
(2)
اشتباه شبح الفرس عليه بشبح الإنسان، وعيّن موضع غلطه وهو زعمه أن الإنسان فرس.
وهذا النوع الذي هو السند الحَلي أكثر ما يقع بعد النقض الإجمالي، الآتي تعريفُه إن شاء الله -تعالى -
(3)
، وليس بلازم أن يُذكر قبلَه النقضُ الإجمالي على كل حال.
ومثال المنع المقترن بسند في التنبيه أن يقول صاحب التنبيه: ارتفاع ماء الأنهار سبب في ارتفاع ماء الآبار، وكل سبب مستلزم مسبَّبه، ينتج من الشكل الأول: ارتفاع ماء الأنهار مستلزم مسبَّبه، أي وهو ارتفاع ماء الآبار.
فيقول السائل أمنعُ صغرى دليلك هذا، وهي قولك: ارتفاع ماء الأنهار سبب في ارتفاع ماء الآبار، ثم يقرن منعه بالسند المي مثلًا، فيقول: لم لا يجوز أن يكون ارتفاع ماء الآبار لسبب آخرَ غيرِ ارتفاع ماء الأنهار.
وقد ذكرنا أنا نقلل الكلام على التنبيه لقلة الفائدة فيه، ونبسطه
(1)
في المطبوع: (فيبين).
(2)
في المطبوع: (وأن).
(3)
ص 234.
على الاستدلال.
ومثال المنع بالسند اللمي في الاستثنائي أن يقول المعلل صاحبُ التصديق: ذلك الشبح إنسان، ثم يقيم على دعواه دليلًا استثنائيا فيقول: لو كان ذلك الشبح حيوانًا لكان إنسانًا، لكنه حيوان، ينتج فهو إنسان.
فيقول السائل: أمنعُ كبرى دليلك هذا، وهي الشرطية، أعني قولك: لو كان هذا حيوانًا لكان إنسانًا، ويقرن منعه إياها بالسند اللمي فيقول: لم لا يجوز أن يكون حيوانًا فرسًا، ولم لا يجوز أن يكون حيوانًا بغلًا، وهكذا.
ومثال المنع بالسند القطعي في الاستثنائي أن يقول المعلل صاحب التصديق: ذلك الشبح ليس بإنسان، ثم يقيم على دعواه دليلًا استثنائيًا فيقول لو كان ذلك الشبح إنسانًا لكان حيوانًا، لكنه غيرُ حيوان، ينتج فهو غير إنسان.
فيقول السائل: أمنعُ صُغرى دليلك هذا، وهي الاستثنائية، أعني قولك: لكنه غيرُ حيوان، كيف يكون غير حيوان والحال أنه ناطق.
ومثال ذلك في السند الحلي أن يقول صاحب التصديق: العروض لا تجب فيها الزكاة، ثم يقيم على ذلك دليلًا استثنائيًا فيقول: لو كانت عروضًا ما وجبت فيها الزكاة، لكنها عروض، ينتج: لم تجب فيها الزكاة.
فيجيب السائل: محل ذلك لو كانت لغير التجارة، إلى آخره.
تنبيهان:
الأول: اعلم أن المراد باللمي في مبحث السند ليس هو المراد باللمي في مبحث البرهان، وإن كان كل واحد منهما منسوبًا إلى لفظة "لم"، كما أوضحناه في السند اللمي، وليس قسيم واحد منهما كقسيم الآخر، أما قسيم اللمي في السند فقد علمت أنه القطعي والحلي.
وأما البرهان فمن تقسيماته عندهم أنه ينقسم باعتبار كون الحد الوسط علةً للنتيجة أو غير علة لها إلى قسمين: الأول البرهان اللمي، والثاني البرهان الإني، وإنما قيل للبرهان لمي لأنك إن سألت فيه عن النتيجة بلفظة "لم" كان الجواب بالحد الوسط، ولذا سمي لِمّيًا، وإذا كان الحد الوسط لا يمكن أن يكن جوابًا للنتيجة المسؤول عنها بلم فهو البرهان الإني، وإنما قيل له إنّي بالنسبة إلى "إنْ" بالهمزة المكسورة والنون الساكنة؛ لأنه يقال فيه: إن كان كذا فهو كذا.
وإيضاحه بالمثال أنهم يقولون: إن تعفن الأخلاط سبب في حصول الحمى، فلو قلت: هذا متعفن الأخلاط، وكل متعفن الأخلاط فهو محموم، فهو ينتج من الشكل الأول: هذا محموم، فإذا سألت عن هذه النتيجة بلم فقلت: لم كان محمومًا؛ فالجواب بالحد الأوسط، وهو أن يقال: لأنه متعفن الأخلاط، والحد الوسط هنا الذي هو تعفن الأخلاط علة للنتيجة، التي هي إصابة الحمى.
وأما إذا كان الحد الوسط لا يمكن أن يجاب به عن النتيجة المسؤول عنها بلم لأنه ليس علتها فهو البرهان الإني، كما لو قلت:
هذا محموم، وكل محموم متعفن الأخلاط، فإنه ينتج من الشكل الأول: هذا متعفن الأخلاط، ولو سألت عن هذه النتيجة بلم لم يصح الجواب بالحد الوسط، فلو قلت لم كان متعفن الاخلاط؟ فلا يصح أن تقول: لأنه محموم؛ لأن الحمى ليست علة لتعفن الأخلاط، بل العكس، وإنما قيل لنحو هذا برهان إني لأنك تقول وأنت صادق: إن كان محمومًا فهو متعفن الاخلاط، هكذا يقولون والعلم عند الله تعالى.
التنبيه الثاني: اعلم أنه يجري على ألسنة أهل هذا الفن كثيرًا نحو هذه العبارات: كقولهم (هذا الشبح ليس بضاحك) ويقيمون الدليل على هذا التصديق السلبي بقولهم (لأنه ليس بإنسان، وكل ما ليس بإنسان ليس بضاحك، فالشبح ليس بضاحك)، وهذا الدليل وإن أنتج المقصود، الذي هو كون ذلك الشبح ليس بضاحك، فإنما أنتج ذلك لخصوص المادة، والدليل في حد ذاته باطل؛ لأنه قياس اقتراني من الشكل الأول، ومعلوم أنه يُشترط لإنتاجه أن تكون صغراه موجبة، وهذا الدليل المذكور صغراه سالبة، وهي قولهم: لأنه ليس بإنسان، ولا يجوز الاستدلال بالشكل الأول في حال كون صغراه سالبة لاختلال شرط الإنتاج كما تقدم إيضاحه، صمان أنتج المقصود في بعض الحالات لخصوص المادة، فتنبه لذلك، والخطب سهل؛ لأن المثال يغتفر فيه ما لا يغتفر في غيره كما تقدم.
واعلم أن السند قد يقسم تقسيمًا آخر باعتبار آخر، فهو ينقسم باعتبار نسبته إلى نقيض الدعوى الممنوعة في نفس الأمر لا بالنظر إلى اعتقاد المانع إلى ستة أقسام، وسيأتي تفصيلها بأمثلتها.
واعلم أولا أن ثلاثة من هذه الأقسام الستة هي محل المناظرة المقصود؛ لأن السائل ينفعه الإتيان بها في إبطال دعوى المعلل، والمعلل ينفعه الاشتغال بالرد عليها؛ لأن إبطالها سبب لاستقامة دليله، وواحد منها لا ينفع السائل إتيانه، ولكن ينفع المعلل إبطاله، واثنان منها لا فائدة فيهما للمعلل ولا للسائل، فلا حاجة للإتيان بهما أصلًا، ولكنه قد يأتي بهما يظن فيهما فائدة والأمر بخلاف ما يظن.
وإذا علمت ذلك فالأول من الأقسام الستة المذكورة هو ما يكون فيه السند نفس نقيض الدعوى الممنوعة.
ومثاله أن يقول المعلل: هذا إنسان، ثم يستدل على هذا التصديق فيقول: لأنه ناطق، وكل ناطق إنسان، ينتج: هذا إنسان.
فيقول السائل: أمنع صُغرى دليلك هذا، وهي قولك: لأنه ناطق، ويجعل هذا المنع مقرونًا بالسند اللمي فيقول: لم لا يجوز أن يكون غير ناطق، فالصغرى الممنوعة: هو ناطق، والسند: جواز كونه غير ناطق، وغير الناطقِ هو عين نقيض الناطق.
وهذا القسم من الأقسام الثلاثة التي ينفع السائلَ الإتيانُ بها، وينفع المعللَ إبطالُها؛ لما قدمنا من أن إثبات النقيض يلزمه نفي نقيضه، كعكسه، كما أوضحنا في القياس الشرطي المنفصل، المركب من [حقيقيةٍ]
(1)
مانعةِ جمع وخلو
(2)
.
(1)
في المطبوع: (حقيقة) والصواب ما أثبته.
(2)
يعني مع الاستثنائية، راجع ص 133.
القسم الثاني منها: هو ما يكون فيه السند مساويًا لنقيض الدعوى الممنوعة.
ومثاله أن يقول المعلل: هذه الدنانير زوج، ثم يقيم الدليل على ذلك فيقول: لأنها منقسمة إلى قسمين متساويين، وكل منقسم إلى متساويين فهو زوج، ينتج من الشكل الأول: هي زوج.
فيقول السائل: أمنع صغرى دليلك هذا، وهي قولك: إنها منقسمة إلى متساويين، والحال أنها فرد، فالصغرى الممنوعة هي كونها منقسمةً إلى متساويين، والسند الذي هو (هي فرد) مساوٍ لنقيض كونها منقسمةً إلى متساويين؛ لأن نقيضه (هي ليست منقسمة إلى متساويين) والفرد مساوٍ لهذا النقيض؛ لأن كل ما لم ينقسم إلى متساويين فهو فرد، كعكسه.
وهذا القسم أيضًا ينفع السائلَ الإتيان به، وينفع المعلل إبطاله؛ لما أوضحناه في القياس الشرطي المنفصل المركب من الحقيقية المانعة للجمع والخلو معًا والاستثنائية؛ لأنا قدمنا أنها لا تتركب إلا من النقيضين، أو من قضية ومساوي نقيضها، ومساوي النقيض حكمه كحكم النقيض، فثبوت مساوي النقيض يدل على نفي نقيضه، كعكسه، كما تقدم إيضاحه في القياس الشرطي المنفصل
(1)
.
فإذا أثبت المانع مساوي نقيضِ الدعوى الممنوعةِ فقد أثبت بطلانها قطعًا؛ لأن إثبات مساوي النقيض يدل على انتفاء نقيضه
(1)
راجع ص 133.
الآخر، وإبطالُ المعلل له ينفعه في عدم بطلان دليله كما هو واضح.
القسم الثالث منها: هو ما يكون السند فيه أخص مطلقًا من نقيض الدعوى الممنوعة.
ومثاله أن يقول: ذلك الشبح ضاحك، ثم يقيم الدليل على ذلك فيقول: لأنه إنسان، وكل إنسان ضاحك، ينتج من الشكل الأول: هو -أي الشبح المذكور- ضاحك.
فيقول السائل: أمنعُ صُغرى دليلك هذا، وهي قولك: إن ذلك الشبح إنسان، ثم يجعل هذا المنع مقرونًا بالسند اللمي فيقول:[لم]
(1)
لا يجوز أن يكون فرسًا، فالمقدمة الممنوعة كون ذلك الشبح إنسانًا، ونقيضها (ليس هو بإنسان)، والسند هنا هو جواز كونه فرسًا، وكونه فرسًا أخص من نقيض كونه إنسانًا؛ لأن نقيضه غير إنسان، وغير الإنسان صادق بالفرس وغيره، فنقيض الدعوى الممنوعة أعم مطلقًا، والسند أخص منه مطلقًا كما ترى.
وهذا القسم الثالث أيضًا ينفع السائلَ الإتيانُ به؛ لأن إثبات ما هو أخص من نقيض الدعوى يستلزم إثبات نقيض الدعوى ضرورة؛ لأن ثبوت الأخص يستلزم ثبوت الأعم، فإذا أثبت السائل ما هو أخص من نقيض الدعوى لزم ثبوت نقيض الدعوى، وإذا لزم ثبوت نقيضها تحقق انتفاؤها؛ لاستحالة اجتماع النقيضين.
(1)
ساقطة من المطبوع، والسياق يقتضيها.
وقد أوضحنا أن ثبوت ما هو أخص من النقيض يستلزم ثبوت النقيض، وثبوت النقيض يستلزم انتفاء نقيضه الآخر، في الكلام على القياس المركب من مانعة الجمع المجوّزة للخلو؛ لأنها لا تتركب إلا من قضية وأخصَّ من نقيضها، وثبوت كل واحد من طرفيها يقتضي نفي الآخر؛ لما أوضحنا من أن ثبوت الأخص من النقيض يستلزم ثبوت النقيض، إلى آخره
(1)
.
القسم الرابع منها: هو ما يكون السند فيه أعم من نقيض الدعوى الممنوعة.
ومثاله أن يقول المعلل: هذا الشبح حجر، ثم يقيم الدليل على ذلك فيقول: لأنه غير ناطق، وكل غيرِ ناطق فهو حجر، ينتج من الشكل الأول: هو -أي ذلك الشبح- حجر.
فيقول السائل: أمنع صغرى دليلك هذا، وهي قولك: لأنه غير ناطق، ثم يجعل هذا المنع مقرونًا بالسند القطعي فيقول: كيف يكون غير ناطق والحال أنه حيوان؟ فالمقدمة الممنوعة هي (غير ناطق) ونقيضها (هو ناطق) والسند (هو حيوان)، والحيوان الذي هو السند أعم مطلقًا من الناطق الذي هو نقيض الدعوى الممنوعة.
وهذا القسم الرابع لا ينتفع به السائل؛ لأن إثبات الأعم لا يستلزم إثبات الأخص، ولكن المعلل إذا نفى ذلك السندَ الذي هو أعم من نقيض الدعوى لزم انتفاءُ نقيض الدعوى؛ لأن نفي الأعم يستلزم نفي
(1)
راجع ص 77، 133، 134 من المقدمة المنطقية.
الأخص، وانتفاءُ نقيض الدعوى يلزمه صحتها؛ لأن النقيضين لا يرتفعان ولا يجتمعان، وقد أوضحنا هذا غاية الإيضاح في مبحث الضربين المنتجين من القياس الشرطي المتصل
(1)
.
القسم الخامس منها: هو ما يكون فيه السند أَعمَّ من نقيض الدعوى من وجه وأخصَّ منه من وجه.
ومثاله أن يقول المعلل: هذا الشبح متنفس، ثم يقيم الدليل على ذلك فيقول: لأنه إنسان، وكل إنسان متنفس، ينتج: هو -أي ذلك الشبح- متنفس.
فيقول السائل: أمنعُ صغرى دليلك هذا، وهي قولك: لأنه إنسان، ثم يجعل هذا المنع مقرونًا بالسند اللمي فيقول: لم لا يجوز أن يكن أبيض؟ فالمقدمة الممنوعة هي كونه إنسانًا، ونقيضها (ليس بإنسان) والسند: جواز كونه أبيض، و (الأبيض) و (غير الإنسان) بينهما عموم وخصوص من وجه، يجتمعان في الثلج والعاج، فكلاهما أبيض وكلاهما غير إنسان، وينفرد (غير الإنسان) عن الأبيض في الغراب والفحم، فكلاهما غير إنسان، وليس واحد منهما بأبيض، وينفرد الأبيض عن (غير الإنسان) في الإنسان الأبيض، فهو إنسان أبيض، وليس (غير إنسان).
وهذا القسم لا فائدة في إثباته ولا نفيه للمعلل ولا للمستدل؛ لأن الأعمّين من وجه لا يقتضي وجودُ أحدهما نفيَ الآخر ولا عدمَه ولا
(1)
راجع ص 130.
وجوده، فلا فائدة في الإتيان به في المناظرة أصلًا.
القسم السادس منها: هو ما يكون فيه السند مباينًا لنقيض الدعوى الممنوعة.
ومثاله أن يقول المعلل: هذا الشبح غير مفكر، ثم يقيم الدليل على ذلك فيقول: لأنه غير إنسان، وكل غير إنسان فهو غير مفكر، ينتج من الشكل الأول: هو -أي ذلك الشبح- غير مفكر.
فيقول السائل: أمنعُ صغرى دليلك هذا، وهي قولك: لأنه غير إنسان، ثم يجعل هذا المنع مقرونًا بالسند فيقول: محل كونه غير إنسان إذا كان حجرًا، فالمقدمة الممنوعة هي (غير إنسان)، ونقيضها (هو إنسان)، والسند هو (إذا كان حجرًا)، وكونه إنسانًا وكونه حجرًا [متباينان]؛
(1)
لأن النسبة بين الإنسان والحجر التباين، كما تقدم إيضاحه.
وهذا القسم السادس لا فائدة البتةَ في الإتيان به للمعلل ولا للمستدل كما لا يخفى.
تنبيه: اعلم أن كل واحد من هذه الأقسام الستة التي ذكرنا يجوز أن يؤتى به على الأوجه الثلاثة المتقدمة، التي هي اللمي والقطعي والحَلي، وقد أوردنا من الأمثلة ما فيه كفاية.
(1)
في المطبوع: (متباينًا)، والصواب ما أثبتّه.