الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في مباديء التصديقات
اعلم أن مبادئ التصديقات هي القضايا وأحكامها.
والقضية في الاصطلاح هي "التصديق"، وقد تقدم إيضاحه
(1)
، وتسمى:"القضية" و"الخبر"، و"التصديق"، وقد قدمنا أنه هو ما يعبَّر عنه في المعاني بالإسناد الخبري، وفي النحو بالجملة الاسمية أو الفعلية.
واعلم أن القضايا بالتقسيم الأول تنقسم إلى قسمين لا ثالث لهما، وهما: القضية الحملية، والقضية الشرطية.
وضابط القضية الحملية أمران:
الأول: أنها ينحلُّ طرفاها إلى مفردين، أو ما في قوة المفردين.
الثاني: أن الحكم فيها ليس معلّقًا على شيء.
ومثالها: (زيد قائم) و (عمرو جالس) و (الإنسان حيوان) ونحو ذلك؛ فإن كل واحد من هذه الأمثلة ينحلّ طرفاه إلي مفردين، وليس الحكم فيها معلقًا.
وما في قوة المفرد ثلاثة أقسام:
الأول: أن يكون الموضوع مفردًا [و]
(2)
المحمولُ جملةً في قوة
(1)
ص 12.
(2)
في المطبوع: (أو)، والمثبت هو الصواب.
المفرد، كقولك:(زيد قائم أبوه)؛ لأن (قائم أبوه) في قوة (قائم الأب)، وقولك:(خير الذكر لا إله إلا الله)؛ فإنه في قوة (خير الذكر كلمة لا إله إلا الله).
الثاني: عكسه، وهو أن يكون الموضوع جملة في قوة المفرد والمحمول مفردًا، كقولك:(لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة).
الثالث: أن يكون كل من الموضوع والمحمول جملة في قوة المفرد، كقولك:(زيد عالم نقيض زيد ليس بعالم)؛ لأنه في قوة (قضية زيد عالم نقيضُ قضية زيد ليس بعالم).
فتحَصّل أن الأقسام أربعة:
مفردان، كزيد قائم، وأقسام ما في قوة المفرد الثلاثة المذكورة بأمثلتها آنفًا.
وسميت حملية للحكم بمحمولها على أفراد موضوعها.
وأما القضية الشرطية فضابطها أمران:
الأول: أن ينحلّ طرفاها إلى جملتين، أعني أنه إن أزيلت أداةُ الربط في المتصلة، أو أداةُ العناد في المنفصلة بين طرفيها يصير كل من طرفيها -أعني مقدَّمَها وتاليَها- جملة مستقلة.
والثاني: أنّ الحكم فيها معلّق.
فقولك مثلًا: (لو كانت الشمس طالعة لكان النهار موجودًا)،
قضية شرطية متصلة؛ لأنك لو أزلت أداة الربط بين مقدَّمها وهو الطرف المقترن بـ (لو)، وبين تاليها، وهو الطرف المقترن باللام في المثال المذكور -ونعني بأداة الربط لفظ (لو) واللام- صار المقدَّم (كانت الشمس طالعة) وهي قضية حملية؛ لأنها مبتدأ وخبر، دخل عليها فعل ناسخ، وكان التالي (النهار موجود) وهو قضية حملية؛ لأنه مبتدأ وخبر، مع أن الحكم بوجود النهار معلق على طلوع الشمس، وكل قضية كان الحكم فيها معلقًا [و]
(1)
كانت ينحل طرفاها إلى جملتين فهي القضية الشرطية.
وكذلك لو قلت: (العدد إما زوج وإما فرد) فهذه شرطية منفصلة، فلو زالت أداة العناد بين طرفيها وهي لفظة (إما) صار الطرف الأول (العدد زوج) والطرف الثاني (العدد فرد)، وكلاهما قضية حملية.
ووجه تعليق الحكم في المنفصلة أن كون العدد -مثلًا- زوجًا [معلقٌ]
(2)
على نفي الفردية عنه، كعكسه.
واعلم أن القضية الشرطية تنقسم بالتقسيم الأول إلى قسمين:
أحدهما: الشرطية المتصلة، والثاني: الشرطية المنفصلة.
وإيضاح كل واحدة منهما أن الشرطية المتصلة هي التي يجتمع طرفاها في الوجود، ويجتمعان في العدم، بمعنى أنهما يجوز عدمُهما معًا، ويجوز وجودُهما معًا، واجتماعهما في الوجود واجتماعهما في
(1)
ليست في المطبوع، والسياق يقتضيها.
(2)
في المطبوع: (معلقًا).
العدم
(1)
هو معنى الاتصال، فسميت متصلة لاتصال طرفيها في كونهما موجودين، واتصالهما في كونهما معدومين.
فقولك: (لو كانت الشمس طالعة لكان النهار موجودًا) يجتمع طرفاها في الوجود: فتكون الشمسُ طالعةً والنهارُ موجودًا، ويجتمعان في العدم: فتكون الشمسُ ليست بطالية والنهارُ ليس بموجود، كما يقع في زمن الليل، واجتماعهما في الوجود والعدم هو
(2)
معنى الاتصال الذي سميت بسببه متصلة.
واعلم أن الشرطية المتصلة تنقسم إلى قسمين وهما: الشرطية المتصلة اللزومية، والشرطية المتصلة الاتفاقية، وتحقيق الفرق بينهما لا يستغني عنه طالب علم.
وقد ارتبك خلق كثير من أهل العلم في تحقيق معنى الشرط والجزاء في نحو (لو لم يخف الله لم يعصه)
(3)
ونحوها من القضايا؛ بسبب عدم الفرق بين اللزومية والاتفاقيه، ولو فرقوا بينهما لم [يرتبكوا]
(4)
.
وإيضاح الفرق بينهما هو أن اللزومية لا بد أن يكون اتصال مقدَّمها
(1)
بعدها في المطبوع: زيادة (هو العدم)، ولا معنى لها.
(2)
(هو) مكررة في المطبوع.
(3)
هذه الجملة قطعة من حديث لا أصل له اشتهر على ألسنة الأصوليين وغيرهم ونصه (نعم العبد صهيب؛ لو لم يخف الله لم يعصه)، ورُوي أيضًا في حق سالم مولى أبي حذيفة، انظر كشف الخفاء (2/ 323).
(4)
في المطبوع: (يرتكبوا).
بتاليها في الوجود والعدم لموجب يقتضي ذلك، ككون أحدِهما سببًا للآخر والآخرِ مُسَبَّبًا له، أو كوَن أحدِهما ملزومًا للآخر والآخِر لازمًا له، وبذلك الموجِب المقتضي للارتباط بينهما في الوجود والعدم سميت لزومية.
وسواء كان ذلك الارتباط بينهما المذكور عقليًّا أو شرعيًّا أو عاديًا.
ومثال العقلي عندهم (كلما كان هذا إنسانًا كان حيوانًا)؛ لأن الحيوان عندهم جزء الإنسان الذي هو أعم منه. والعقل يمنع انفكاك الكل عن جزئه، فكونه إنسانًا ملزوم لكونه حيوانًا وكونه حيوانًا لازم لكونه إنسانًا، وذلك اللزوم عقلي.
ومثال الشرعي قولك: (كلما زالت الشمس وجبت صلاة الظهر)، و (كلما وُجد شهر رمضان وجب الصوم)؛ لأن كلًّا من زوال الشمس ووجودِ رمضانَ سبب شرعي للعبادة المذكورة من صلاة أو صيام.
ومثال العادي قولك: (كلما لم يكن ماء لم يكن نبات)؛ لأن الله أجرى العادة بأن وجود الماء سببٌ لوجود النبات، وعدمَه سبب لعدمه.
وأما الشرطية المتصلة الاتفاقية فضابطها أنها لا ربط بين مقدَّمها وتاليها، أي لا علاقة بينهما أصلًا، لا عقلًا ولا شرعًا ولا عادة، ولكن اتفق في الخارج أنّ صِدْق كل منهما مع صدْق الأخرى، أي اجتمعا في الوجود، مع أنه لا أَثر لنفي أحدهما -لو فرض- في نفي الآخر ولا
عدمه؛ إذ لا علاقة بينهما أصلًا، كقولك:(كلما كانت الشمس طالعة كان الإنسان ناطقًا)، فلا علاقة أصلًا بين طلوع الشمس وبين نطق الإنسان.
ومن أمثلتها في القرآن قوله -تعالى-: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران: 154]؛ لأن كينونتهم في بيوتهم وبروزَهم إلى مضاجعهم لا علاقة بينهما، ولا يستلزم أحدُهما الآخرَ ولا عدمَه.
وكقوله -تعالى-: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف: 109]؛ لأن كون البحر مدادًا لها لا علاقة له بنفادها ولا عدمِه.
وكقوله -تعالى-: {وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف: 57]، لأن دعاءه إياهم إلى الهدى لا علاقة بينه وبين عدم اهتدائهم.
ومن هذا القبيل قولهم: (لو لم يخف الله لم يعصه)؛ لأن عدم خوفه من الله لا أثر له في عدم عصيانه. بل قد يكون سببًا لعصيانه فيما يظهر للناظر.
وقد نبهنا في كتابنا (أضواء البيان)
(1)
على غلط الزمخشري
(2)
(1)
(4/ 161 - 163).
(2)
أبو القاسم، محمود بن عمر بن محمد الخُوارَزمي، صاحب "الكشاف" في التفسير، و"المفصّل" في النحو، كان رأسا في العربية والبلاغة والاعتزال، =
وأبي حيان
(1)
في آية {وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)} فقد ظنا هذه الشرطية في هذه الآية لزومية؛ حيث زعما أنه جُعل فيها سبب عدم اهتدائهم هو دعوته لهم إلى الهدى. والمعنى أن الكفار عندهما جعلوا ما يكون سببًا للاهتداء سببًا لانتفائه، وكل ذلك غلط؛ لأن الشرطية المذكورة في الآية اتفاقية، لا ربط أصلًا بين مقدَّمها وتاليها.
واعلم أن الشرط الحقيقي في الاتفاقية ليس هو المذكورَ مع الجزاء، بل سبب الجزاء شيء آخرُ غيرُ مذكور معه في الشرطية المذكورة.
كقولهم (لو لم يخف الله لم يعصه) فعدم العصيان الذي هو الجزاء في مثل هذا المثل سببه غير مذكور معه، فليس سببُه عدمَ الخوف الذي هو الشرط في المثال المذكور، ولكنه شيء آخرُ لم يذكر، وهو تعظيمه لله ومحبته له المانعةُ من معصيته له، ولو لم يكن خائفًا.
وكذلك قوله -تعالى-: {فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)} سببه الحقيقي غير مذكور معه، فليس هو قولَه:{وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى} كما ظنه الزمخشري وأبو حيان وغيرهما، بل سببه هو إرادة الله -تعالى- عدمَ اهتدائهم، على وفق ما سبق في علمه أزلا.
= توفي سنة 538 هـ. انظر سير أعلام النبلاء للذهبي (20/ 151 - 155).
(1)
هو رأس العربية في زمانه، محمد بن يوسف بن علي، النفزي، الأندلسي، صاحب "البحر المحيط" في التفسير، توفي سنة 745 هـ. انظر "معرفة القراء الكبار" للذهبي (2/ 723).
وكذلك قوله -تعالى-: {لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} ، لأن سبب بروزهم إلى مضاجعهم شيء آخرُ غيرُ مذكور في الآية، وهكذا.
ومن الأسباب المستوجبة لكون الشرطية اتفاقيةً هو رفع ما يحصل في الوهم من المنافاة بين قضيتين، فيبين بالمتصلة الاتفاقية أنهما لا منافاة بينهما، فالكفار مثلًا كانوا يتوهمون أن كينونتهم في بيوتهم تنافي بروزهم إلى مضاجعهم، ويظنون أنها تنجيهم من القتل، كما ذكر -تعالى- عنهم بقوله:{يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران: 154]. وقوله -تعالى-: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران: 168]
(1)
، فبين -تعالى- عدم المنافاة بين بقائهم في بيوتهم وبين بروزهم إلى مضاجعهم التي كتب عليهم أن يقتلوا فيها، وهكذا.
تنبيهات:
الأول: اعلم أن التحقيق أن الصدق والكذب في الشرطية المتصلة إنما يكون بحسب صحة الربط بين المقدم والتالي وعدم صحته، فإن كان الربط صحيحًا كانت صادقة، وإن كان الربط غير صحيح كانت كاذبة، ومن أجل أن الصدق والكذب إنما يتواردان على الربط بين المقدَّم والتالي يصح أن تكون صادقة مع كذب طرفيها لو أزيلت أداة الربط.
(1)
وقوله -تعالى-: {وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} [آل عمران: 156].
فقوله -تعالى-: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، شرطية متصلة لزومية في غاية الصدق، مع أنك لو أزلت أداة الربط بين طرفيها كان كل من الطرفين قضيةً كاذبة، فيصير الطرف الأول عند إزالة الربط:{كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلا اللَّهُ} وهذه قضية كاذبة، سبحانه وتعالى عن أن يكون معه إله علوًا كبيرًا، ويصير الطرف الثاني في المثال المذكور (فسدتا) أي السموات والأرض، وهي أيضًا قضية كاذبة.
وكقولك: (لو كان زيد حجرًا لكان جمادًا)، فهذه لزومية صادقة مع كذب الطرفين، لأن زيدًا لم يكن حجرًا ولم يكن جمادًا.
وقال بعض أهل العلم: إن مورد الصدق والكذب في الشرطية المتصلة هو التالي فقط الذي هو الجزاء، فهو المحتمل للصدق والكذب عندهم. والشرط الذي هو المقدم قيد فيه، وزعموا أن هذا قول أهل العربية.
والصواب فيما يظهر أن أهل اللغة موافقون للمنطقيين في أن الصدق والكذب في الشرطية المذكورة إنما يتواردان على الربط بين طرفيها؛ لصدقها مع كذب الطرفين كما مثّلنا، ولصدقها أيضًا مع كذب أحدهما وصدق الآخر لو أزيل الربط، [كقولك]
(1)
: (لو كان زيد في السماء ما نجا من الموت)، فهذه شرطية صادقة، وتاليها الذي هو (ما نجا من الموت) صادق، ومقدّمها الذي هو كونه في السماء كاذب.
التنبية الثاني: اعلم أن الطرف الأول من طرفي الشرطية يسمى
(1)
في المطبوع: (كقوله)، وهو خلاف ما جرى عليه المؤلف في سائر الأمثلة.
مقدَّمًا، والثاني يسمى تاليًا. وهذا في المتصلة لا خلاف فيه.
وقيل في المنفصلة أيضًا كذلك، وقيل لا يسمى جزآها مقدَّمًا وتاليًا؛ لأنها لم يكن أحد طرفيها مرتبًا على الآخر، فالتقديم والتأخير فيها موكول إلى اختيار المتكلم.
فلو قلت: (العدد إما زوج وإما فرد) فلا فرق بين ذلك وبين قولك: (العدد إما فرد وإما زوج)، فلك أن تقدم من الطرفين ما شئت وتؤخره.
بخلاف المتصلة؛ فإنه لو أُخِّر المقدمُ لم تصدق لزومًا، ولو صدقت في بعض الصور لخصوص المادة
(1)
.
فقولك: (لو كان هذا إنسانًا لكان حيوانًا) صحيح، ولو عكست فقلت:(لو كان هذا حيوانًا لكان إنسانا) كان كاذبًا. فتبين أن كونه إنسانًا مقدم، وكونه حيوانًا تالٍ على الحقيقة. بخلاف المنفصلة كما مثلنا.
التنبيه الثالث: اعلم أنه تأتي في اللغة العربية قضايا على هيئة الشرطية المتصلة وهي مقبولة في اللغة العربية، بل معدودة من بديعها المعنوي عند أهلها، مع أن الربط بين طرفيها كاذب؛ وذلك لسر آخر من أسرار العربية، لا يجري مثله في فن المنطق.
(1)
كقولك: (لو كان هذا إنسانًا لكان ناطقًا)(لو كان هذا ناطقًا لكان إنسانًا)؛ لأن النسبة بين الإنسان والناطق هي التساوي.
فقول نابغة ذبيان
(1)
:
ولو أنها عرضَتْ لأشمطَ راهبٍ
…
عَبَدَ الإلهَ صرورةٍ مُتعبّدِ
لرنا لبهجتها وحُسْنِ حديثها
…
ولخالهُ رشَدًا وإن لم يرشُدِ
فيُستبعد صدق الشرطية فيه؛ فكون عروض المرأة للأشمط الراهب العابد يستوجب رُنُوَّه إليها وغيبوبته عن رشده وعبادته مستبعد الوقوع، وإن كان غير مستحيل عقلًا ولا عادة.
وقول قيس بن الملوّح
(2)
:
ولو تلتقي أصداؤنا بعد موتنا
…
ومن دون رَمْسَينا من الأرض [سبسبُ
(3)
]
لظل صدى صوتي وإن كنت رِمّة
…
لصوت صدى ليلى يَهَشُّ ويطربُ
يستحيل عادة صدق الشرطية فيه، وإن أمكن عقلًا.
وإنما ساغ نحو هذا في اللغة لأنه نوع من أنواع البديع المعنوي يسمى المبالغة.
وهي في اصطلاح البلاغيين (أن يُدَّعى لوصفٍ بلوغُه في الشدة أو الضعف حدًّا مستبعدًا أو مستحيلًا؛ لئلا يُظن أنه غير مُتَناهٍ فيه)، وهي ثلاثة أنواع:
(1)
ديوانه ص 95، 96، دار المعارف.
(2)
ديوانه ص 12، دار الفكر العربي.
(3)
في المطبوع: سبب.
الأول: نوع مستبعد الوقوع، ولكنه لا يمنعه العقل ولا العادة، كالشرطية في بيتي نابغة ذبيان المذكورَين.
وهذا النوع من أنواع المبالغة هو المعروف عندهم بالتبليغ، وإنما ساغ مع عدم صدقه للغرض المذكور في قولهم:(لئلا يُظن أنه غير متناه فيه).
النوع الثاني: هو المستحيل عادة وإن كان يجوز عقلًا. ومن أمثلته الشرطية في بيتي قيس بن الملوّح المذكورَين، لأن طرب صدى صوته بعد الموت لصدى صوت ليلى تُحيله العادة وإن أمكن عقلًا، وإنما جاز مع عدم صدقه للغرض المذكور، وهذا النوع من أنواع المبالغة هو المعروف عندهم بالإغراق.
النوع الثالث: ما استحال عقلًا وعادة، وهو المعروف بالغلو، وأمثلته والتفصيلُ بين المقبول منه وغير المقبول معروفةٌ في البديع من فن البلاغة، ولسنا نريد تفاصيل ذلك هنا، وقد فصلناها في رسالتنا في منع المجاز في القرآن
(1)
.
وأما الشرطية المنفصلة فضابطها أنها لا بد أن يكون بين طرفيها عناد في الجملة.
واعلم أن المراد بالعناد هنا والتنافرِ شيء واحد، وهو تنافي الطرفين، واستحالةُ اجتماعهما، والعناد المذكور بين الطرفين هو
(1)
عنوانها: (منع جواز المجاز في المنزل للتعبّد والإعجاز)، وانظر عن المبالغة العمدة لابن رشيق القيرواني (2/ 658 - 681)، الخانجي 1420 هـ.
معنى كونها منفصلة.
والتقسيم العقلي الصحيح يحصر العناد المذكور في ثلاثة أقسام لا رابع لها:
الأول: أن يكون في الوجود والعدم معًا.
الثاني: أن يكون في الوجود فقط.
الثالث: أن يكون في العدم فقط.
فإن كان العناد بين طرفيها في الوجود والعدم معًا، بمعنى أن طرفيها لا يمكن اجتماعهما في الوجود ولا في العدم، فلا يوجدان معًا ولا يُعدمان معًا، بل لا بد من وجود أحدهما وعدم الآخر، فهي المعروفة بالشرطية المنفصلة الحقيقية، وتسمى مانعةَ الجمع والخُلُوِّ معًا، ولا تتركب إلا من النقيضين، أو من الشيء ومساوي نقيضه، ومثالها في النقيضين قولك:(العدد إما زوج أو ليس بزوج)، ومثالها في الشيء ومساوي نقيضه:(العدد إما زوج وإما فرد)؛ لأن لفظة (فرد) مساوية لـ (ليس بزوج)، وهي نقيض (العدد زوج).
وإن كان العناد بين طرفيها في الوجود فقط فهي مانعة الجمع [المجوِّزة]
(1)
للخلو، ولا تتركب إلا من قضية وأخصَّ من نقيضها، كقولك:(الجسم إما أبيض وإما أسود)، فهذه شرطية منفصلة مانعة جمع؛ لأنه يستحيل اجتماع طرفيها في الوجود، بأن يكون الجسم
(1)
في المطبوع: (المحجوزة).
الواحد أبيض أسود في وقت واحد من جهة واحدة، ولكنها تُجوِّز الخُلُوَّ من الطرفين؛ لأنها لا عناد بين طرفيها في العدم، فيجوز أن يكون الجسم غير أبيض وغير أسود؛ لكونه أحمر وأصفر مثلًا. وجواز عدم طرفيها معًا هو معنى [كونها]
(1)
لا عناد بين طرفيها في العدم، بل هما مصطحبان فيه، لانعدام كليهما.
وإن كان العناد بين طرفيها في العدم فقط فهي مانعة الخلو [المجوِّزةُ]
(2)
للجمع، عكسَ التي قبلها، ولا تتركب إلا من قضية وأعمَّ من نقيضها، كقولك:(الجسم إما غير أبيض وإما غير أسود)، فهذه شرطية منفصلة مانعةُ خلُوّ مجوِّزةُ جمع، فلا يمكن اجتماع طرفيها في العدم البتة، ولكن يمكن اجتماعهما في الوجود؛ إذ لا عناد بينهما في الوجود، وإنما العناد بينهما في العدم.
فطرفا هذه المنفصلة اللذان هما (غير أبيض) و (غير أسود) يجوز اجتماعهما في الوجود فنقول: (هذا الجسم غير أبيض وغير أسود)، وأنت صادق؛ لكونه أحمرًا أو أصفرًا مثلًا.
ولكن لا يمكن اجتماعهما في العدم بحال، بل إذا عُدم أحدُهما لزم وجود الآخر ضرورة؛ لأنك لو حكمتَ بنفي (غير الأبيض) فقد جزمت بأنه أبيض؛ لأن نفي النفي إثبات، وإذا جزمت بأنه أبيضُ لزم ضرورةً حصولُ الطرف الثاني الذي هو (غير أسود)؛ لأن الأبيض غير
(1)
في المطبوع: (كونهما)، والصواب ما أثبته.
(2)
في المطبوع: (المحجوزة)، والصواب ما اثبته.
أسود قطعًا كما هو ضرورة.
وإذا علمت مما ذكرنا أن القضية تنقسم إلى حملية وشرطية بالتقسيم الأول، وأنّ الشرطية تنقسم إلى متصلة ومنفصلة، وأن المتصلة تنقسم إلى لزومية واتفاقية، وأن المنفصلة تنقسم إلى [حقيقية]
(1)
مانعة جمع وخلو معًا، ومانعةِ جمع مجوّزة خلو، ومانعة خلو مجوّزة جمع، وعرفت أنّا بيّنا كل قسم بأمثلته، فاعلم أنا أردنا هنا أن نقتصر على ما لا بد منه في علم المناظرة، فلم نذكر الرابطة؛ لعدم الاحتياج لها في اللغة العربية، للاكتفاء عنها بالاشتقاق والإضافة مثلًا. ولم نتعرض للجهة، ولا للقضايا [الموجّهة]
(2)
، ولا لمنحرفات السور، ولا للحقيقيات والخارجيات
(3)
، ولا للمحصَّلات والمعدولات
(4)
، إلى غير ذلك من أحكام القضايا، ولكنّا أردنا هنا أن نبين ما لا بد للمناظرة منه، وهو ثلاثة أشياء، وبها ينتهي بحثنا في مبادئ التصديقات:
الأول: تقسيم القضايا باعتبار الكم والكيف خاصة.
الثاني: العكس.
الثالث: التناقض.
(1)
في المطبوع: (حقيقة)، والصواب ما أثبته.
(2)
في المطبوع: (الموجبة)، والصواب ما أثبته، والقضايا الموجهة يأتي التعريف بها ص 95.
(3)
يأتي التعريف بها في القسم الثاني ص 173 - 176.
(4)
يأتي التعريف بها ص 96.
ثم نذكر مقاصد التصديقات، ثم نشرع في المقصود من آداب البحث والمناظرة.