الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في العبارة
اعلم أن العبارة في اصطلاح أهل هذا الفن هي مطلق اللفظ الصادر من المتكلم، سواء كان تعريفًا أو تقسيمًا أو تصديقًا أو دليلًا أو غير ذلك.
واعلم أن المناظرة تجري في العبارة، فيتوجه على العبارة الإبطال؛ بسبب أنها تخالف قاعدة من قواعد اللغة العربية، كأن يقول السائل في قول ذي الرمة:
أمن دِمنةٍ جرّت بها ذيلَها الصَّبا
…
لصيداء -مهلًا- ماءُ عينيكَ سافحُ
(1)
إنه خطأ؛ لمخالفته القاعدةَ العربية: وهي أن مفسِّر الضمير يكون مذكورًا قبل الضمير، وهنا جاء بالضمير الذي هو ضمير الغائبة الواحدة في لفظة (ذيلها) قبل مفسِّره، وهو لفظة (الصَّبأ)؛ لأن الأصل: جرَّت الصَّبا ذيلَها بها.
فيقول المجيب: هذا ليس مخالفًا للقاعدة العربية؛ لأن الفاعل وإن تأخر لفظًا فهو متقدم رتبة، فكأنه مذكور قبل الضمير؛ لتقدمه في الرتبة، كما قال ابن مالك في الخلاصة
(2)
:
(1)
ديوانه (2/ 859)، وذو الرمة هو غيلان بن عقبة العدوي، من كبار شعراء العصر الأموي، إلا أنه مات شابا سنة 117 هـ.
(2)
ص 25، آخر باب الفاعل.
وشاع نحوُ خاف ربَّه عمر
…
وشذ نحوُ زان نورُه الشجر
وكأن يقول السائل في قول أبي الطيب المتنبي:
هذي برزتِ لنا فهِجتِ رسيسًا
…
ثم انثنيتِ وما شفيتِ نسيسا
(1)
إنه خطأ؛ لأن فيه نداءَ اسم الإشارة في قوله (هذي برزتِ) بحرف محذوف، ونداء أسماء الإشارة وأسماء الأجناس بأدوات محذوفة مخالف للقاعدة العربية.
فيقول المجيب: نداء أسماء الإشارة وأسماء الأجناس بحرف محذوف هو مذهب الكوفيين، والمتنبي كوفي، كما قال ابن مالك في الخلاصة
(2)
:
وذاك في اسم الجنس والمشار له
…
قلَّ ومن يمنعْه فانصر عاذِلَه
وكأن ينصبَ المبتدأ بلكنْ المخففة، فيبطله السائل بأنها إن خُفّفت أُهملت، والنصبُ بها مخففةً مخالفٌ للقاعدة العربية.
فيقول المجيب: هو جار على مذهب يونس
(3)
، وهو من أئمة العربية، كما قال الشيخ المختار بن بونة في ألفيته الحمراء
(4)
:
(1)
ديوانه (2/ 193)، مع الشرح المنسوب للعكبري.
(2)
ص 49، باب النداء.
(3)
يونس بن حبيب البصري، من أكابر النحويين، توفي سنة 183 هـ. انظر نزهة الألباء لابن الأنباري: ص 47.
(4)
سميت الحمراء لأنها كتبت باللون الأحمر تمييزا لها عن ألفية ابن مالك؛ إذ كانت مجموعة معها، وانظر ما سبق ص 5.
(لكنّ) إن خفّفتها فأهملا
…
ويونسٌ مجوزٌ أن تَعملا
وعن يونسَ أنه حكى ذلك عن العرب، وبه قال الأخفش
(1)
.
وكأن يصوغ فِعْلي التعجب أو صيغةَ التفضيل من أفعل الرباعية، فيقول السائل: هذه العبارة غلط؛ لمخالفتها القاعدة العربية، وهي أن فِعْلي التعجب وصيغةَ التفضيل لا يُصاغ شيء منهما إلا من الثلاثي.
فيقول المجيب: ظاهر كلام سيبويه جوازُ صوغ كل ذلك من أفعل -وهو مذهب أبي إسحاق
(2)
، وقال به ابن عصفور
(3)
- إن كانت همزة (أفعل) لغير النقل من اللزوم إلى التعدي مثلًا.
وكأن يقول: هذا يضرُب هذا -بضم الراء في (يضرُب) -، وهذا يكتِب -بكسر التاء في (يكتِب) -. فيقول السائل: العبارة خطأ؛ لأن المشهور المستفيضَ عن العرب كسرُ راء (يضرِب)، وضم تاء (يكتُب).
(1)
إن كان الكبير فهو أبو الخطاب، عبد الحميد بن عبد المجيد، توفي سنة 177 هـ، وإن كان الأوسط فهو أبو الحسن، سعيد بن مسعدة البصري، توفي سنة 215 هـ، وإن كان الصغير فهو علي بن سليمان، توفي سنة 315 هـ.
انظر نزهة الألباء لابن الأنباري: ص 44، 107، 185.
(2)
(أبو إسحاق) كنية عدةٍ من النحويين، منهم اليزيدي، والزيادي، والزجاج، والأقرب أن المراد هنا إبراهيم بن سفيان الزيادي؛ فغن له نكتًا على كتاب سيبويه ذكرها السيرافي في شرحه، توفي سنة 249 هـ، انظر نزهة الألباء: ص 157.
(3)
هو علي بن مؤمن بن محمد، النحوي، الحضرمي، الإشبيلي. حياته ما بين (597 - 663)، انظر بغية الوعاة للسيوطي (2/ 210).
فيقول المجيب: ضم راء (يضرُب)، وكسر تاء (يكتِب) جوازه جارٍ على مذهب الإمام أبي الحسن بن عصفور، وهو من أئمة اللغة العربية، وأمثال هذا كثيرة جدا.
والظاهر أن مطلق السماع الذي يُحفظ ولا يقاس عليه لا يصح للمجيب الجوابُ به على معترض العبارة، كما لو جَزم المضارعَ بلن أو بلو، أو نصبه بلم، أو أثبت نون الرفع مع الجازم أو الناصب ونحو ذلك، كان يقول: هذه العبارة خطأ؛ لأنك نصبت المضارع بلم.
فيقول المجيب: ذلك مسموع عن العرب، كقول الشاعر:
في أي يومي من الموت أفرّ
…
أيومَ لم يُقْدَرَ أم يومَ قُدِره
(1)
وقول الآخر:
في كل ما همّ أمضى عزمه قدمًا
…
ولم يشاورَ في الأمر الذي فعلا
وعليه القراءة الشاذة (ألم نشرحَ)
(2)
بالنصب، وهو قول ابن الشجري
(3)
.
أو: هذه العبارة خطأ؛ لأنك جزمت فيها المضارع بأن أو بلن أو بلو.
(1)
ينسب لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، انظر ديوانه ص 79، والبيت فيه:
أي يومي من الموت أفرّ
…
يومَ يقدرُ أم يوم قُدِر
(2)
انظر: "إعراب القراءات الشواذ" للعكبري (2/ 723).
(3)
هبة الله بن علي، الحسني، توفي سنة 542 هـ، انظر نزهة الألباء: ص 299.
فيقول المجيب: كل ذلك مسموع عن العرب، أما جزم المضارع بأن -بفتح الهمزة وتخفيف النون- فكقوله:
إذا ما غدونا قال وِلْدانُ أهلِنا
…
تعالوا إلى أن يأتِنا الصيدُ نحطِبِ
(1)
وقد أجازه بعض الكوفيين. ونقله اللحياني عن بعض بني صباح من ضبه.
وجزمه بلن كقول كثيّر
(2)
:
أيادي سبا يا عَزَّ ما كنتُ بعدكم
…
فلن تحل للعينين بعدك منظر
وقول الآخر:
لن يخِبِ الآن من رجائكْ
…
من حرك دون بابك الحلقهْ
وجزمه بلو كقول الآخر:
تامت فؤادك لو يحزنك ما فعلت
…
إحدى نساء بني ذهل بن شيبانا
(3)
وقول الآخر:
لو يشأ طارَ بِهِ ذو ميعةِ
…
لاحقُ الآطالِ نهدٌ ذو خُصَل
(4)
والظاهر أن المحل الذي يكون للمعلل فيه الجواب عن اعتراض
(1)
ديوان امرئ القيس: ص 68، وفيه:(ركبنا، يأتيَ) موضع: عذونا، يأتنا.
(2)
ديوانه: ص 133، وفيه: لم يحلُ.
(3)
البيت للقيط بن زرارة، انظر العقد الفريد (7/ 78)، دار الفكر.
(4)
البيت لعلقمة الفحل، انظر خزانة الأدب للبغدادي، الشاهد 928.
العبارة لا بد أن يكون مستندًا فيه لقول إمام، كما ذكرنا عن يونس وابن عصفور، أو طائفةٍ كما ذكرنا عن الكوفيين، أو كونه مطّردًا، أو لغةً لبعض القبائل، أو موافقًا لقراءة سبعية مثلًا.
ومثال ما هو موافق للغة بعض العرب إهمالُ (أن) ورفعُ المضارع بعدها حملًا على (ما) المصدرية، كقوله:
أن تقرآن على أسماءَ ويحكما
…
منى السلام [وألا]
(1)
تشعرا أحدا
(2)
وإهمال (لم) ورفع المضارع بعدها حملًا على ما النافية كقوله:
لولا فوارس من نعم وأسرتهم
…
يوم الصليقاء لم يوفون بالجار
(3)
ومثال الموافق لقراءة سبعية العطف على ضمير خفض من غير إعادة الخافض، كقراءة حمزة {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1] بخفض (الأرحامِ) معطوفًا على الضمير المخفوض
(4)
.
وكالفصل بين المضاف والمضاف إليه بمفعول المضاف، كقراءة ابن عامر
(5)
{وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام: 137] ببناء (زُين) للمفعول، ونصب (أولادَهم)،
(1)
في المطبوع: (ولا)، والتصويب من المصادر.
(2)
البيت في "الأضداد" لأبي بكر ابن الأنباري ص 123، وقبله بيتان، والمفصل للزمخشري ص 375، دار إحياء العلوم، 1410 هـ، وغيرهما بدون تسمية قائله.
(3)
البيت في خزانة الأدب برقم (676).
(4)
انظر السبعة لابن مجاهد: ص 226.
(5)
السبعة ص: 270.
وخفضِ (شركائهم)؛ على أن لفظة (قتل) مضاف و (شركائهم) مضاف إليه، و (أولادَهم) منصوب هو مفعول المضاف، وقد حال بين المضاف والمضاف إليه.
فمثل هذه الأشياء يصح بها للمعلل الجوابُ عن فساد العبارة بمخالفتها للقواعد العربية، والظاهر أن مطلق السماع لا يصح أن يكون جوابًا، وأمثلة النوعين كثيرة جدًّا في كلام العرب، ولكن لا نطيل الكلام بذلك زيادة على ما ذكرنا.