الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مباحث الألفاظ
المباحث جمع مبحث، وهو اسم مكان بمعنى مكان البحث، وهو الفحص والتفتيش عن الألفاظ من حيث التركيبُ والإفرادُ ونحوُ ذلك كالكلية والجزئية.
اعلم أولًا أن اللفظ المستعمل في اللغة لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون مركبًا، وإما أن يكون مفردًا، وهذا على قول الجمهور بأن القسمة ثنائية.
وضابط المركب عندهم: هو "ما يدل جزؤه على جزء معناه دلالةً مقصودةً خالصة".
فخرج بقولهم: "ما دل جزؤه" ما لا جزء له أصلًا، كباء الجر ولامه، وما له جزء لا دلالةَ له على شيء، كبعض حروف (زيد).
وخرج بقولهم: "على جزء معناه"، ما له جزء وله دلالة لكن لا على جزء معناه كـ (كأبكم)، فإن نصفه الأولَ وهو (أبي) يدل على ذاتٍ متصفة بالأبّوة، ونصفَه الأخيرَ وهو (كم) يدل على سؤال عن عدد، أو إخبارٍ بعددٍ كثير، ولكن ليس واحدٌ منهما يدل على جزء المعنى المقصود بالأبكم.
وخرج بقولهم: "مقصودةً" العلَمُ الإضافي كـ (عبد الله)؛ فإن جزءه الأول يدل على العبد، والثاني يدل على الخالق -جل وعلا-، ولكن هذه الدلالة ليست مقصودة؛ لأن المقصود جعلُ اللفظين علَمًا للشخص مُعيِّنًا له عن غيره من الأشخاص.
وخرج بقولهم "خالصةً" ما لو قُصد في تسمية الإنسان بـ (عبد الله) مثلًا أنه متصف بالعبودية لله؛ فإن دلالة جزء اللفظ على جزء المعنى حينئذ مقصودة، لكنها غيرُ خالصة من شائبة العلَمية.
وبهذا تعلم أن المفرد هو ما لا جزء له أصلًا، كباء الجر ولامه، أوْ له جزء لا دلالة له على شيء، أو له جزء وله دلالة لكن لا على جزء معناه، أو له جزء وله دلالة على جزء معناه ولكنها دلالة غير مقصودة.
أو له جزء وله دلالة على جزء مسماه دلالةً مقصودةً لكنها غيرُ خالصة من شائبة العلَمية.
وقد تركنا بعض المناقشات هنا لعدم اتجاهه عندنا.
وقد عرفتَ من هذا التعريف الذي ذكروا أن المركب هنا صادقٌ بالمركب الإسنادي، نحو:(زيد قائم)، والمركب الإضافي كـ (غلام زيد)، والمركب التقييدي كـ (الحيوان الناطق)، وأن المفرد هو الاسم أو الفعل أو الحرف، ويدخل في الاسم العلَم الإضافي كـ (عبد الله) و (عبد شمس).
وما تقدم في حدهم للتصور والتصديق، يدل على أن المركب الإضافي والمركب التقييدي من أنواع المفرد؛ لأن إدراكهما تصور لا تصديق، والتصور إدراك معنى المفرد، خلافًا لما يذكرون هنا.
والظاهر أن بعض الاصطلاحات تختلف في المفرد، فهو في التصور والتصديق:"كل ما ليس بإسناد خبري تام"، وفي مبحث المركب والمفرد: يكون له اصطلاح آخر، فيدخل فيه المركب
الإضافي والتقييدي مثلًا.
وإذا علمت هذا فاعلم أن المفرد بالاصطلاح المذكور هنا ينقسم إلى قسمين لا ثالث لهما؛ لأنه إما أن يكون كليًّا وإما أن يكون جزئيًّا.
وضابط الكلي في الاصطلاح أنه "هو ما لا يمنع تعقل مدلوله من وقوع الشركة فيه"، كالإنسان والحيوان والرجل والمرأة والأسد ونحو ذلك؛ فإنك إذ تعقلت معنى الإنسان لم يمنعك تعقله من وقوع الشركة فيه، فهو قدر مشترك يشترك فيه عمرو وزيد وخالد، وهكذا في باقي الأمثلة.
وإن شئت قلت في حد الكلي: هو "المفرد الذي لا يمنع تعقل مدلوله من حمله حمل مواطأة على أفراد كثيرة".
والمراد بحمل المواطأة هو حمله عليها بنفسه، من غير احتياج إلى اشتقاق أو إضافة، فالإنسان مثلًا إذا تعقلت مدلوله لم يمنعك ذلك من حمله حمل مواطأة على كثيرين، كأن تقول: زيد إنسان، وعمرو إنسان، وخالد إنسان، وهكذا، وكذلك الحيوان لا يمنعُك تعقل مدلوله من حمله حمل مواطأة على كثيرين، كقولك: الإنسان حيوان، والفرس حيوان، والجمل حيوان، وهكذا.
أما إن كان لا يمكن حملُه عليها حملَ مواطأة، بل حمل اشتقاق أو إضافة، فليس كليًّا لها، فليس العلم مثلًا كليًّا بالنسبة إلى الأشخاص العلماء؛ لأنك لا تقول: مالك عِلْم، والشافعي عِلْم، وإنما يصح في ذلك الحمل بالاشتقاق، كقولك: مالك عالم، والشافعي عالم، أو
الإضافة، كقولك: مالك ذو علم، والشافعي ذو علم، فالعلم كلّيٌ بالنسبة إلى الفنون؛ لأنك تقول: النحو علم، والفقه علم، والتوحيد علم. وهكذا؛ لأنه يُحمل عليها حملَ مواطأة، وليس العلمُ كليًّا بالنسبة إلى الأشخاص المتصفين به كما بينّا.
وتقريب الكلي للذهن: أنه هو "كل ما وضع لأكثر من شيء واحد"، كالقدر المشترك بين اثنين فصاعدًا.
[والجزئي]
(1)
هو "ما يمنع تعقل مدلوله من وقوع الشركة فيه".
وهنا واسطة وطرفان: طرف هو جزئي إجماعًا، يمنع تعقل مدلوله من وقوع الشركة فيه، وهو العَلَم بنوعيه، أعني علَم الشخص وعَلَم الجنس؛ لأنك إذا تعقلت معنى (زيد) عَلَمًا لرجل معيّن منعك تعقله من وقوع الشركة فيه؛ لأنه وُضمع له خاصة ليعيّنه ويميّزه عن غيره من الأشخاص.
واعلم أن الفرق بين علَم الجنس واسم الجنس يعسر فهمه على كثيرين من طلحة العلم؛ فقولك: (أسامة) علمًا لجنس الأسد معرفة؛ لأنه علم فيجوز الابتداء به بدون احتياج إلى مسوِّغ، ويجوز مجيء الحال منه متأخرة، نحو (هذا أسامة مقبلًا)، ولا يجوز دخول الألف واللام عليه؛ لأنه علَم، بخلاف لفظة (أسد) اسمًا لجنس الأسد؛ فإنها نكرة لا يجوز الابتداء بها إلا بمسوِّغ، ولا تجيء الحال منها متأخرة إلا بمسوِّغ، ويجوز دخول الألف واللام عليها؛ لأنها نكرة، فيعسر الفرق
(1)
في المطبوع: (والجزء).
بين (أسامة)، علمًا لجنس الأسد، و (أسد) اسمًا لجنسه.
وأوضح الفوارق التي فرقوا بها بينهما -بل لا يكاد يعقل غيره- هو أن علَم الجنس روعي فيه القدر المشترك بقطع النظر عن الأفراد، واسم الجنس روعي فيه القدر المشترك لا بقطع النظر عن وجوده في بعض الأفراد.
وإيضاحه أن معنى (الأسد) مثلًا شيء واحد، وهو مجموع الحيوانية والافتراسية مثلًا، فالمعنى الذهني الذي هو القدر المشترك بين أفراده شيء واحد لا تعدد فيه، وإنما التعدد في الأفراد الخارجية المشتركة فيه، فوضعوا علَم الجنس لذلك المعنى الذهني، وهو شيء واحد، فشخّصوه بالعَلَمِ في الذهن لا في الخارج، كتشخيص الشخص بعَلَمه في الخارج، فعَلم الجنس يشخّص مسماه في الذهن لا في الخارج، وعلَم الشخص يشخّص مسماه في الخارج.
وأما لفظة (أسد) فإنهم أرادوا بها المعنى الذهنيَّ المشتركَ بين الأفراد، بدون قطع النظر عن وجود بعض أفراده الخارجية فيه، التي هي محل التعدد.
وعلى قول من قال: إن اسم الجنس والنكرةَ شيء واحد فإن اسم الجنس يراعَى فيه وجودُ بعض الأفراد الخارجية في المعنى الذهني، الذي هو القدر المشترك، وهو الفرد الشائع في جنسه.
فقطْعُ النظر مطلقًا عن الأفراد الخارجية التي هي محل التعدد، وقصْدُ تشخيص المعنى الذهني الذي هو القدر المشترك بين الأفراد
-وهو واحد لا تعدد فيه- هو الذي يكون به الاسم المشخِّص لذلك المعنى الواحدِ في الذهن علَم الجنس، وما لم يُقطع النظر فيه عن الأفراد الخارجية هو اسم الجنس؛ لتعدد الأفراد واتحاد المعنى الذهني المشترك بينها.
والحاصل أن علَم الشخص وعلَم الجنس كلاهما جزئي بالإجماع، واسم الجنس كـ (أسد) و (إنسان) و (رجل) و (فرس) ونحو ذلك كلّيٌّ إجماعًا. وهذان هما الطرفان: طرف جزئي إجماعًا، وطرف كلي إجماعًا.
وأما الواسطة فقد اختُلف فيها، وهي أسماء الإشارة، والضمائر، والموصولات، فبعضهم يقول: هي كلية؛ لصلاحيتها لكل شيء، وبعضهم يقول: هي جزئية؛ لأنها لا تُستعمل بالفعل إلا في شيء معين خاص.
وبعضهم يقول: هي كلية وضعًا، جزئية استعمالًا، وأكثر من تكلموا في علم الوضع يختارون أنها جزئية، والله -جل وعلا- أعلم.
فإذا عرفت معنى الكلي والجزئي اللذَين هما قسما المفرد، فاعلم أنا نريد هنا أن نبين بعض تقسيمات الجزئي والكلي، ونبيّنَ معنى الكل والجزء، والكلية والجزئية، قبل الشروع في مبادئ التصورات.
اعلم أولًا أن الجزئي ينقسم إلى جزئي حقيقي، وجزئى إضافي:
أما الجزئي الحقيقي فهو العلَم بنوعيه، ويَلحق به ما جرى مجراه عند من يقول به، وهو الإشارة والضمير والموصول، على قول من
يقول إنها جزئية.
وأما الجزئي الإضافي فهو "كل كلّي مندرجٍ في كلي أعمَّ منه"، فالإنسان مثلًا كلي بالنسبة إلى (زيد)، و (عمرو)، وجزئي إضافي بالنسبة إلى الحيوان؛ لأن الحيوان ينقسم إلى إنسان، وغير إنسان كالفرس مثلًا. فالإنسان فرد من أفراد الحيوان، فهو جزئي بإضافته إليه، وهكذا الحيوان؛ فإنه كلي بالنسبة إلى الإنسان والفرس مثلًا، وجزئي إضافي بالنسبة إلى النامي؛ لأن النامي منه ما هو حيوان، ومنه ما ليس بحيوان كالنبات.
والنامي هو الذي يكبر تدريجيًّا. وقس على ذلك.
واعلم أن الكلي ينقسم تقسيمات مختلفةً باعتباراتٍ مختلفةٍ، وستذكر هنا بعض المهم منها.
اعلم أن الكلي ينقسم باعتبار استواء معناه في أفراده وتفاوته فيها إلى متواطئ ومشكك:
فالمتواطئ هو "الكلي الذي استوت أفراده في معناه"، كالإنسان، والرجل، والمرأة؛ فإن حقيقة الإنسانية والذكورة والأنوثة مستويةٌ في جميع الأفراد، وإنما التفاضلُ بينها بأمورٍ أُخَرَ زائدةٍ على مطلق الماهية.
والمشكك هو "الكلي الذي تتفاوت أفراده في معناه بالقوة والضعف" كالنور والبياض مثلًا، فالنور في الشمس أقوى منه في السراج، والبياض في الثلج أقوى منه في العاج، وهكذا.
وينقسم الكلي أيضًا باعتبار تعدّد مسمَّاه وعدمِ تعدّده إلى مشترَك ومنفرد.
فإن كان له مسمّيان فصاعدًا يسمى بكل منهما بوضع خاص فهو المشترَك. كالعين: للباصرة والجارية، والقُرء: للطُهر والحيض، وهكذا.
وإن كان مسماه واحدًا فهو المنفرد، كالإنسان، والحيوان؛ فإن الحقيقة الذهنية التي هي مسمى اللفظ واحدة، وإنما التعدد في الأفراد الخارجية كما تقدم.
وينقسم الكلي باعتبار وجود أفراده في الخارج وعدم وجودها فيه إلى ستة أقسام؛ لأنه إما ألا يوجدَ منه في الخارج فرد أصلًا، أو يوجدَ منه فرد واحد، أو توجدَ منه أفراد كثيرة، وكل واحد من هذه الثلاثة ينقسم إلى قسمين، فالمجموع ستة:
الأول: كلي لم يوجد من أفراده فردٌ واحد في الخارج، مع أن وجود فرد منها مستحيل عقلًا، كجمع الضدين.
الثاني: كلي لم يوجد من أفراده فرد في الخارج مع جواز وجوده عقلًا، كبحر من زئبق، وجبل من ياقوت، والزئبق " [معدن]
(1)
سيّال لا يجمد إلا تحت الصفر في درجة أربعين".
الثالث: كلي وُجد منه فرد واحد مع استحالة وجود غيره من
(1)
في المطبوع: (معدني).
الأفراد عقلًا، كـ (إله)، فإنه كلي، ولذا لم يمنع العربَ تعقّلُ مدلوله من قبول الشركة، كما ذكر الله عنهم في قوله:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيءٌ عُجَابٌ} [ص: 5].
ومن فوائد كون (الإله) كليًّا بحسب الوضع أنه تدخل عليه (لا) النافيةُ للجنس في كلمة (لا إله إلا الله)، وهي لا تدخل إلا على كلي من أسماء الأجناس، إلا أن هذا الكلي الذي هو الإله دل العقل الصحيح والكتاب والسنة والإجماع على أنه لم يوجد منه إلا فرد واحد، وهو خالق السموات والأرض -جل وعلا-؛ إذ لا معبود بالحق موجودًا يستحق العبادة إلا هو وحده -جل وعلا-؛ فكل معبود سواه عبادتُه كفر ووبال على صاحبها، يخلد بسببها في النار، فهو ليس بمعبود بحق، ولا بشريك حقًّا، كما قال -تعالى-:{وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إلا يَخْرُصُونَ} [يونس: 66].
فإن قيل المعبودات من دون الله من أنواع الطواغيت قد وجدت بكثرة! ؟ .
فالجواب أن المعدومَ شرعًا كالمعدوم حسًا، فهي ليست بمعبودات، ولكن الكفار افتروا ذلك على الله، واختلقوه كذبًا من تلقاء أنفسهم، {بِغَيرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)} [لقمان: 20] أنهم شركاء له، سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا.
الرابع: كلي وجد منه فرد واحد مع جواز وجود غيره من الأفراد عقلًا، كـ (شمس)؛ فإن الشمس التي هي الكوكب النهاري لا يمنع
تعقّلُ مدلولها من وقوع الشركة، إلا أن هذا الكلي لم يوجد منه إلا فرد واحد، وهو هذه الشمسُ المعروفة، مع إمكان أن يكثّر الله من أفراد الشموس كما أكثر من أفراد النجوم، حتى تتشعشع الدنيا نورًا، ويحترقَ العالم من شدة حر تلك الشموس الكثيرة.
الخامس: كلي وجدت منه أفراد كثيرة لكنها متناهية، كـ (الإنسان) و (الحيوان).
السادس: كلي وجدت منه أفراد كثيرة غير متناهية، كـ (نعيم الجنة) وكـ (العدد).
وإذا عرفت معنى الكلي والجزئي وبعض تقسيماتهما فاعلم أنّا أردنا هنا أن نبيّن معنى الكل والجزء، والكلية والجزئية:
اعلم أن الكل في الاصطلاح هو "ما تركب من جزأين فصاعدًا".
وضابطه أن الحكم عليه بالمحمول
(1)
إنما يقع على مجموعه لا على جميعه.
وإيضاحه أن الحكم يقع عليه في حال كونه مجتمعًا، فإذا فرضت تفرقة أجزائه لم يتبع الحكمُ كلَّ واحد منها بانفراده، وإنما يقع عليها مجموعة.
ومثاله قوله -تعالى-: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 17]؛ لأن الحكم على الثمانية بحمل العرش إنما هو على مجموعها لا
(1)
سبق التعريف بالمحمول والموضوع ص 14.
على جميعها؛ إذ لو كان على جميعها لكان كل واحد من الثمانية مستقلًا بحمل العرش وحدَه، والواقع أن الحامل للعرش هو مجموع الثمانية، فلو فرضتَ تفرقةَ الثمانية لم يتْبعِ الحكمُ بحمل العرش كلَّ واحد منهم.
وأما الكلية فهي "الحكم على كل فرد من أفراد الموضوع الداخلة تحت العنوان"، كقولك: كل إنسان حيوان؛ فإن كل فرد من أفراد الإنسان مستقل بالحكم عليه بأنه حيوان، فكل [منها]
(1)
يتبعُه الحكم بانفراده.
وقد قرر علماء المعاني هنا قاعدة وهي: أن لفظة (كل) إذا اقترنت بحرف سلب -أعني حرف نفي- فإن كان حرف النفي قبل لفظة (كل) فهو من الكل المجموعي، فلا يقع الحكم على الموضوع إلا مجموعًا، ولا يتبع كل فرد من أفراده، كقوله:
ما كلُّ ما يتمنى المرءُ يدركُهُ
…
تجري الرياح بما لا تشتهي السفنُ
(2)
فإن المرء قد يتمنى شيئًا ويدركُه، وكم من مُنْية أدركها صاحبها كما لا يخفى.
وكقولهم: (ما كل بيضاءَ شحمة)، و (ما كل مدوّر كعكًا) فقد تكون البيضاء شحمة، وقد يكون المدور كعكًا، في بعض الأحوال دون كلها.
(1)
في المطبوع: (منهما)، والمثبت هو المناسب للسياق.
(2)
البيت للمتنبي، انظر ديوانه ص 472، دار بيروت.
وإن كان حرف النفي بعد لفظة (كل) فهو من الكلية، فالحكم بالمحمول على الموضوع شامل لكل فرد، كقول أبي النجم:
قد أصبحَتْ أمُّ الخيارِ تدّعي
…
عليَّ ذنبا كلُّه لم أصنعِ
(1)
برفع لفظة (كل)؛ لأن مراده أنه لم يصنع شيئًا واحدًا مما ادعت عليه.
ومن هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم لذي اليدين لما قال: أقُصرت الصلاة أم نسيت؟ : "كل ذلك لم يكن"
(2)
، أي لم يكن شيء منه: لم أنْسَ ولم تُقصر، يعني في ظني، كما هو مقرر في الأصول، في مبحث دلالة الاقتضاء.
وهذه القاعدة أغلبية؛ [لورود]
(3)
آيات متعددة فيها حرف النفي قبل لفظة (كل)، مع أنها كلية، لا كلٌّ مجموعي، كقوله -تعالى-:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)} [الحج: 38] وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء: 36] ونحو ذلك من الآيات؛ لأن الحكم بنفي المحبة عام لكل فرد من أفراد الخوّانين الكفورين، والمختالين الفخورين، كما ترى.
فقد عرفتَ أن الفرق بين (الكل) و (الكلية)، أن (الكل) لا يتبع الحكمُ فيه كلَّ فرد من أفراده، وأن (الكلية) يتبع الحكمُ فيها كلَّ فرد من أفرادها، ومثالها موجبةً:(كل إنسان حيوان)، وسالبةً: (لا شيء من
(1)
ديوانه ص 132، النادي الأدبي، الرياض.
(2)
أخرجه البخاري (682) ومسلم (573)، وهذا لفظ مسلم.
(3)
في المطبوع: (نورد)، والمثبت هو اللائق بالسياق.
الحجر بحيوان)؛ لأن إثبات الحيوانية للإنسان شامل لكل فرد من أفراده، ونفيَ [الحيوانية]
(1)
عن الحجر شامل لكل فرد من أفراده.
وأما الفرق بين (الكل) و (الكلي) فمن جهتين:
الجهة الأولى:
أنا قدمنا أن (الكلي) لا يمنع تعقلُ مدلوله من حمله على كثيرين حملَ مواطاة، فيجوز حمل الكلي على كل فرد من أفراده حمل مواطأة، كقولك:(عمرو إنسان)، و (زيد إنسان)، و (خالد إنسان) إلخ، فالإنسان كلي، وقد صح حمله على كل فرد من أفراده حمل مواطأة كما تقدم إيضاحه
(2)
.
أما (الكل) فلا يجوز حملُه على جزء من أجزائه حمل مواطأة، بل حملَ إضافة أو اشتقاق.
فالكرسي مثلًا: كلٌّ مركبٌّ من خشب ومسامير، فلا يجوز أن تقول: الكرسي مسمار، ولا أن تقول: الكرسي خشب، ولكن يصح حملُه على أجزائه بالأضافة والاشتقاق، فالإضافة كان تقول: الكرسي ذو مسامير، والاشتقاق كقولك: الكرسي مسمّر.
وكالشجرة؛ فإنها كلٌّ مركب من جذوع وأغصان، فلا يقال: الشجرة جذوع، ولا: الشجرة أغصان، وإنما يقال: الشجرة ذات جذوع، وذات أغصانٍ مثلًا.
(1)
في المطبوع: (الحيوان)، والمثبت هو الملائم للسياق.
(2)
ص 26.
الجهة الثانية:
أن (الكلّي) يجوز تقسيمه بأداة التقسيم إلى جزئياته، كأن يقول: الحيوان إما إنسان أو فرس، وإما بغل وإما حمار إلخ. بخلاف (الكل)، فلا يجوز تقسيمُه إلى أجزائه بأداة التقسيم، فلا يصح أن يقال: الكرسي إما خشب وإما مسامير، ولا أن يقال: الشجرة إما جذوع وإما أغصان، وإنما يجوز حمل (الكلّ) على أجزائه حمل مواطأة مع العطف خاصة، أعني عطف بعض أجزائه على بعضها، كقولك: الكرسي مسامير وخشب، والشجرة جذوع وأغصان.
وأما الجزء فهو "ما تركب منه ومن غيره كُلٌّ"، كالمسامير بالنسبة إلى الكرسي، وكالخشب بالنسبة إليه، وكالجذع بالنسبة إلى الشجرة، والأغصان بالنسبة إليها.
والجزئية في الاصطلاح هي "القضية التي حُكم بمحمولها على بعض أفراد موضوعها لا كلِّها سلبًا أو إيجابًا"، فمثالها موجبةً:(بعض الحيوان إنسان)، ومثالها سالبةً:(بعض الحيوان ليس بإنسان)، وسيأتي
(1)
إن شاء الله في مبحث القضايا زيادة إيضاح للكلية والجزئية.
(1)
ص 81.