الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في الأجوبة عن المنع
اعلم أن للمعلل وظائفَ في جوابه عن المنع الذي منع به السائل إحدى مقدمات دليله أو دعواه المجردةِ عن الدليل:
الأول من ذلك أن يقيم دليلًا ينتج نفس الدعوى التي منعها السائل، أو ينتج دعوى أخرى تساويها، أو ينتج دعوى أخرى أخصَّ منها مطلقًا، لأن إثبات مساوي الشيء إثباتٌ له، وإثباتُ الأخص يستلزم إثباتَ الأعم، كما تقدم إيضاحه.
وهذا الجواب يصلح للرد على المنع المجرد والمصحوب بالسند جميعًا.
ومثال إقامته الدليلَ على الدعوى المجردةِ التي منعها السائل أن يقول: العالم حادث، فيقول خصمه القائل بقدم العالم من الفلاسفة: أمنعُ دعواك هذه التي [هي]
(1)
العالم حادث.
فيقيم المعلل الدليل عليها جوابًا لمنع السائل فيقول: العالم متغير بالانعدام ونحوه، وكل متغير كذلك فهو حادث، ينتج من الشكل الأول: العالم حادث، وهو عين الدعوى الممنوعة.
ومثال إنتاج الدليل ما يساوي الدعوى الممنوعة أن يقول: كل ذرة من العالم فُرض أنها لم تُسبق بعدم فهي أزلية، ولا شيء من الأزلي الوجودي بمنعدم، ينتج من الشكل الأول: لا شيء من ذرات العالم
(1)
في المطبوع: (نص)، ولا معنى لها هنا.
المفروض أنها لم تسبق بعدم بمنعدمة، وهذه النتيجة كاذبة؛ لأن جميع ذرات العالم تنعدم شيئًا فشيئًا كما هو مشاهد، وإنما كذبت النتيجة لكون الصغرى مستحيلة، و [هي]
(1)
قوله: (كل ذرة من العالم فُرض أنها لم تُسبق بعدم فهي أزلية)؛ لاستحالة وجود ذرة منه لم تُسبق بعدم حتى تكون أزلية، ومن المعلوم أن الأزلي الوجودي لا يُعقل انعدامه؛ إذ لو كان انعدامه جائزا لكان محتاجًا في وجوده الأول إلى مخصص يخصص وجوده، ويرجحه على عدمه المساويه عقلًا أزلًا، فيكون حادثًا لترجيح المخصص المذكور وجودَه على عدمه، والفرض أنه أزلي، واستحالة الصغرى التي هي (كل ذرة من العالم فُرض أنها لم تُسبق بعدم فهي أزلية) يلزمها صحة نقيضها، وهي (كل ذرة من ذرات العالم مسبوقة بعدم)؛ لتساوي ذراته لذاتها
(2)
، فهذه النتيجة مثال لإنتاج الدليل مساوي الدعوى الممنوعة؛ لأنها مساوية لقولك: العالم حادث.
ومثال إنتاج الدليل ما هو أخصُّ من الدعوى الممنوعة أن تكون مناقشة المتناظرَين في موجَّهة بالإمكان، فيمنع السائل جهتها التي هي الإمكان، فيقيم المعلل الدليل على صحة توجيهها بالإطلاق؛ لأن
(1)
في المطبوع: (لكن) ولا معنى لها هنا.
(2)
قوله (لتساوي ذراته لذاتها) برر به جعله نقيض الكلية كلية على خلاف المقرر في قواعد المنطق من كون نقيض الكلية جزئية (راجع ص 89)، وهو يحتمل موافقة المتكلمين في قولهم بتماثل الأجسام، مع أن إثبات حدوث ذرات العالم غير موقوف على إثبات تماثلها، وانظر في ذلك درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية: 1/ 115 - 117، 4/ 176 وما بعدها.
الإطلاق أخصُّ من الإمكان، فثبوت الإطلاق يلزمه ضرورةً ثبوتُ الإمكان، كما قال العلامة الشيخ المختار بن بونا الشنقيطي
(1)
:
ونسبةٌ ممْكِنةٌ محقِّقَة
…
ثبوتَ صدقٍ عند صدق المطلقة
وإيضاح هذا الكلام لمن لا يعرف مبحث الجهات في فن المنطق
(2)
: أن الموجهة بالإمكان هي ما لا يستحيل عقلًا ثبوت موضوعها لمحمولها وإن كان غير ثابت له بالفعل، ولا نطيل هنا الكلام بالفرق بين الإمكان العام والإمكان الخاص، والموجهة بالإطلاق في الاصطلاح هي القضية التي اتصف موضوعها بمحمولها بالفعل إيجابًا أو سلبًا، فقولك:(أبو لهب مؤمن) بالإمكان الخاص صادق؛ لأن اتصافه بالإيمان ليس بمستحيل عقلًا، ولو كان مستحيلًا عقلًا لما كُلّف به، بخلاف ما لو قلت:(أبو لهب مؤمن) بالإطلاق، أي بالفعل، فهو كذب بل كفر؛ لتكذيبه نص القرآن العظيم. وإذا علمت ذلك علمت أن ثبوت الإطلاق يستلزم ثبوت الإمكان بلا عكس.
وإذا علمت ذلك فاعلم أن المناظرة بين أهل السنة والجماعة القائلين برؤية الله -جل وعلا- بالأبصار يوم القيامة وبين المعتزلة المانعين لذلك إنما هي في جهة الإمكان، فالمعتزلة يقولون إنها مستحيلة ولا تدخل في الإمكان أصلًا، وأهل السنة يقولون هي ممكنة؛ وطلب موسى لها في قوله {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيكَ} دليل على
(1)
سبقت ترجمته في المقدمة المنطقية ص 5.
(2)
راجع تعريف القضايا الموجهة في المقدمة المنطقية ص 95 الحاشية.
إمكانها؛ لأن نبي الله موسى -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- لا يجهل المستحيل في حق الله -تعالى-، ولا يلتبس عليه بالممكن حتى يسأله.
وإذا علمتَ أن المناظرة في الإمكان علمتَ أن المعلل إذا أقام دليلًا ينتج الإطلاق، الذي هو الوقوع الفعلي، الذي هو أخص قطعًا من الإمكان، فكأنه أقام الدليل على الإمكان؛ لأن وجود الأخص يستلزم وجود الأعم.
وإذا علمت ذلك فاعلم أن صورة استدلاله على ذلك أن يقول: الله أثبت في كتابه وقوع الرؤية بالفعل، في قوله:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22، 23] فصح بنظرها إلى ربها بالفعل يوم القيامة، وكل ما أثبته الله في كتابه فهو حق صحيح، ينتج من الشكل الأول: الرؤية حق صحيح، وهذه النتيجة أخص من الدعوى الممنوعة، التي هي الإمكان، فافهمه؛ لأنه لا يقع بالفعل إلا ما هو ممكن الوقوع، ومن المعلوم بالضرورة أن المستحيل وقوعُه عقلًا لا يقع بالفعل، كما لا يخفى.
ومناقشة استدلال المعتزلة ببعض الآيات كقوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] وقوله: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، ونحو ذلك قد بينا بطلانها في غير هذا الموضع، ومقصودنا هنا مطلق المثال.
الوجه الثاني من وظائف المعلل في جوابه عن منع السائل إحدى مقدمات دليله أو دعواه المجردة هو أن يبطل السند الذي استند إليه
السائل في المنع المذكور، وهذا الجواب خاص بالمنع المقترن بالسند؛ لأن إبطاله السند يستلزم بطلان المنع؛ لأن المنع ماسوٍ السندَ في نظر المانع دائمًا، وإن كان في نفس الأمر قد يكون بخلاف ذلك، كما بيناه في الأقسام الستة المذكورة آنفًا، وإبطال أحد المتساويين إبطال لمساويه الآخر كما هو معلوم، وإذا ثبت بإبطال السند إبطال المنع فقد تحقق ثبوت نقيضه وهو الدعوى الممنوعة كما لا يخفى؛ لأن النقيضين لا يرتفعان.
ومن أمثلة ذلك أن يقول المعلل صاحب التصديق: هذا الشبح إنسان، ثم يقيم دليله على ذلك فيقول: لأنه ناطق، وكل ناطق إنسان. فيمنع السائل صُغرى دليله بسند لِمّيٍ فيقول: لا أسلّم أنّ هذا الشبحَ ناطق، لمَ لا يجوز أن يكون حجرًا؟ ، أو لا يجوز أن يكون غير ضاحك؟ ، أو: لم لا يجوز أن يكون غير ناطق؟ ونحو ذلك.
فيقول المعلل: السائل هذه التجويزات العقلية التي استندتَ إليها في منع صُغرى دليلي كلها باطلة، ولا يجوز شيء منها عقلًا؛ لأن ذلك الشبح كاتب قطعًا، وكل كاتب لا يجوز فيه شيء مما ذكرتَ عقلًا، ينتج من الشكل الأول: ذلك الشبحُ لا يجوز فيه شيء مما ذكرتَ عقلًا، وإذا بطل هذا السندُ الجوازي بطل المنع كما تقدم إيضاحه قريبًا.
والوجه الثالث: من وظائف المعلل في جوابه عن المنع المذكور هو تحرير المراد من المدعَى -باسم المفعول- الممنوع، كأن يقول المعلل: لا تجب الزكاة في العُروض، فيقول السائل: لا أسلم دعواك
هذه، فيجيب عن هذا المنع بتحرير المراد من المدعَى فيقول: مرادي بالعُروض التي لا تجب فيها الزكاة عروضُ القُنية التي هي محل وفاق، ولا أقصد عروض التجارة التي يقول جماهير أهل العلم بوجوب زكاتها. فقد أجاب عن منع دعواه بتحريره مراده مما ادعاه.
وكذلك الجواب عن المنع المذكور بتحرير المراد من المقدمة الممنوعة، [كأن]
(1)
يقول المعلل: هذا حيوان، وكل حيوان يحرك فكه الأسفلَ عند المضغ، ينتج من الشكل الأول: هذا يحرك فكه الأسفل عند المضغ.
فيقول السائل: أمنع كبرى دليلك هذا، وهي قولك (وكل حيوان يحرك فكه الأسفل عند المضغ)؛ لأن التمساح حيوان لا يحرك فكه الأسفل عند المضغ، وإنما يحرك فكه الأعلى.
فيجيب المعلل عن منع هذه المقدمة بتحرير المراد منها فيقول: مرادي بقولي (وكل حيوان يحرك فكه الأسفل عند المضغ) أفرادُ الحيوان الظاهرةُ المشهورة المتعارَفة عند العامة، ولا أقصد الفرد النادر الذي لا يكاد يخطر بالبال لقلة ملابسة أغلبية الناس له ملابسةً تؤدي إلى معرفة شيء عنه. فقد أجاب عن منع كبرى دليله بتحرير مراده منها.
الوجه الرابع من وظائف المعلل في جوابه عن المنع المذكور هو تحرير المراد من المذهب العلمي الذي يَبني عليه الممنوع.
(1)
في المطبوع: (كأنه)، والصواب ما أثبته.
ومثاله أن يقول المعلل: تغريب الزاني البكر سنةً زيادةٌ على قوله -تعالى-: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، وكل زيادة على النص فهي نسخ له، ينتج من الشكل الأول: تغريب الزاني البكر سنةً نسخ لقوله {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} الآية، ومراده أن الآية متواترة، وأحاديث التغريب أخبار آحاد، والمتواتر عنده لا يُنسخ بالآحاد، فيُمنع عنده التغريب لذلك.
فيقول السائل: أمنع كبرى دليلك هذا، وهي قولك:(وكل زيادة علي النص نسخ)؛ لأن محل ذلك فيما إذا نفت الزيادة شيئًا أثبته النص، أو أثبتت شيئًا نفاه، فإن كانت لم تنف ما أثبته النصُّ ولم تثبت ما نفاه فإنها ليست بنسخ؛ لأنها إنما رفعت البراءة الأصلية فقط، ورفعها ليس بنسخ.
فيجيب المعلل عن منع كبرى دليله هذا بتحرير مراده من المذهب العلمي الذي بَنى عليه الممنوع فيقول: إني بنيت قولي (وكل زيادة على النص فهي نسخ) على مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله، ولم أبنه على رأي من خالفه.
فقد أجاب عن منع كبرى دليله بتحرير المراد من المذهب العلمي الذي بناها عليه.
فهذه هي أجوبة المعلل عن المنع المجرد عن السند والمقرون به.
واعلم أنه لا ينفعه أن يمنع صحة ورود المنع، ولا أن يمنع السند القطعي، ولا أن يمنع صلاحية السند للاستناد إليه، ولا ينفعه الاشتغال
بالاعتراض على عبارة المنع بدعوى أنها مخالفة لقوانين العربية، فإن اشتغل بشيء من ذلك ولم يُجب بأحد الأجوبة التي بينا فقد أُفحم، ووجب انتقال الكلام إلى بحثَ آخر.