الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في الأجوبة عن الاعتراضات الموجهة إلى التقسيم
وهي راجعة إلى ما يسمونه تحرير المراد، وضابطه عندهم أن يوضح صاحب التقسيم مراده الذي قصده في تقسيمه بما يدفع عنه الاعتراض، وهو أربعة أنواع:
الأول: تحرير المراد من المقسَّم؛ بأن يوضِّح أنه قصد به معنًى لا يتوجه إليه الاعتراض، وأنه غير المعنى الذي ظنه السائل.
ومن أمثلته أن يقول صاحب التقسيم: الكلمة إما اسم أو فعل.
فيعترض المستدل هذا التقسيم فيقول: هو تقسيم استقرائي غير حاصر للأقسام الموجودة في الخارج؛ لأنه لم يشمل الحرف، وهو قسم من أقسام الكلمة، وكل تقسيم غيرُ جامع -أي حاصر لجميع الأقسام- فهو فاسد.
فيجيب صاحب التقسيم -فيقول: أمنعُ كونه غيرَ حاصر- بتحرير مراده، ويوضح أن مراده بالمقسَّم الذي هو الكلمة في المثال المذكور معنى خاص، وهو ما دل عليه معنى في نفسه، والحرف لا يدل على معنى في نفسه بل في غيره، وحصر أقسام المقسَّم حاصل على المعنى الذي قصده، وبين أنه هو مراده، فيندفع عنه الاعتراض بتحرير مراده في المقسم.
النوع الثاني: تحرير المراد من الأقسام.
ومثاله أن يقول صاحب التقسيم: الإنسان إما ذكر وإما أنثى.
فيقول المستدل: هذا تقسيم استقرائي غير جامع للأقسام الموجودة في الخارج؛ لأنه لا يشمل الخنثى المشكل، وهو قسم من أقسام الإنسان موجود في الخارج.
فيجيب صاحب التقسيم فيقول: أمنع كونه غير جامع؛ لأني أردت بتقسيمي الأقسام المشهورة الغالبة في الوجود، ولم أرد ما يشمل القسم النادر وجوده الذي لا يكاد يخطر بالبال في أغلب الأوقات، وتقسيمي حاصر على ما أوضحت من مرادي بالأقسام.
النوع الثالث: تحرير المراد من التقسيم.
كأن يقول صاحب التقسيم: العنصر إما تراب أو لا، وهذا إما هواء أو لا، وهذا إما ماء أو لا، وهو النار كما تقدم إيضاحه.
فيقول المستدل: هذا تقسيم ظاهره أنه عقلي؛ للترديد فيه بين النفي والإثبات، وهو تقسيم غير جامع؛ لأن العقل يجوّز قسما خامسًا وسادسًا. . . إلخ من أقسام العنصر، وكل تقسيم كان غير جامع فهو فاسد.
فيجيب صاحب التقسيم فيقول: أمنعُ قولك إن كل تقسيم جوّز فيه العقل قسمًا آخرَ غير مذكورٍ فاسد؛ لأن محل ذلك في التقسيم العقلي خاصة، وأما التقسيم الاستقرائي فلا يَبطل بمجرد تجويز العقل قسما آخرَ غير مذكور، بل لا يبطل إلا بوجود قسم في الخارج غيرِ مذكور في التقسيم كما تقدم إيضاحه.
فاندفع عنه الاعتراض بتحرير مراده من التقسيم، وأن مراده
التقسيمُ الاستقرائي الذي لا يَبطل بمجرد تجويز العقل قسمًا آخر، لا التقسيمُ العقلي كما ظنه المستدِل.
ويدخل في هذا النوع أن يظن المستدِل التقسيم حقيقيًّا، فيُعترض عليه بأن الأقسام ليست متباينة في المفهوم والماصدق، فيجيب صاحبه بأن التقسيم اعتباري لا حقيقي، ولا يشترط فيه تباينُ الأقسام في العقل والخارج، بل يكفي فيه تخالفها، وهو تباينها في العقل فقط دون الخارج، كما تقدم إيضاحه وأمثلته.
النوع الرابع: تحرير المراد من المذهب العلمي الذي بني عليه صاحب التقسيم تقسيمه.
ومثاله أن يقول صاحب التقسيم: المعلوم إما موجود وإما معدوم.
فيقول المستدِل: هذا تقسيم عقلي غيرُ جامع؛ لأن ما يسميه المتكلمون الحال سواءٌ كانت معنوية أو نفسية قسمٌ من أقسام المعلومِ لم يذكر في التقسيمِ، وهي واسطة ثبوتية بين الوجود والعدم، فلا هي من قسم الموجود ولا هي من قسم المعدوم، وكل تقسيم غيرُ جامع فهو فاسد.
فيجيب صاحب التقسيم فيقول: أمنعُ كون تقسيمي غيرَ جامع؛ لأني بنيت تقسيمي على مذهب من يقول إن الحال المذكورة لا أصل لها، وإنما هي خيال وهمي محض، وأن العقل الصحيح يحصر المعلوم في الشيء ونقيضه حصرًا لا شك فيه.
فقد أبطل الاعتراض الوارد على تقسيمه بتحرير المراد الذي قصده من المذهب العلمي الذي بني عليه تقسيمه، وقد أوضحنا في غير هذا الموضع أن الحال المذكورة خيال وهمي لا حقيقة له البتة، وأن كل ما ليس بموجود فهو معدوم قطعًا، وكلَّ ما ليس بمعدوم فهو موجود قطعًا كما لا يخفى
(1)
.
واعلم أن ما ذكرنا من الاعتراضات على التقسيم والأجوبة عنها ينبغي أن ينظر قبله هل صاحب التقسيم ناقل له عن غيره أو لا؛ فإن كان ناقلًا عن غيره ولم يلتزم صحته لم يتوجه إليه إلا المطالبة بتصحيح النقل عن المصدر الذي نقل عنه، من كتابٍ أو راوٍ مثلًا.
وإن كان جاء التقسيم من تلقاء نفسه أو نقله عن غيره والتزم صحته: فإن كان في كلامه شيء غير واضح فللسائل الاستفسار عنه، وعليه البيان والإيضاح، وإن كانت الكلمات لا إجمال فيها ولا لبس ولا اشتراك فللسائل الاعتراض على التقسيم بالأوجه التي ذكرنا، ولخصمه الجواب عنها بالأجوبة التي بينّا، وإن عجز عن الجواب عن أحد الاعتراضات المذكورة فعليه الانتقال إلى تقسيم آخر، وإن وجد تقسيمه صحيحًا لا خلل فيه وجب عليه تسليمه والاعتراف بصحته، وهذا هو ترتيب المناظرة في التقسيم.
(1)
راجع ص 151.
فصل
اعلم أن التقسيم قد يكون دليلًا مستقلًا في التصورات، وجزءَ دليل في التصديقات.
أما كونه دليلًا مستقلًا في التصورات فقد أشرنا إليه في المقدمة المنطقية
(1)
في الكلام على المُعرِّفات، وبينّا أن (القسمة) من المُعرِّفات التي تتميز بها الحقيقة المعرِّفة عن غيرها، ومرادنا بالقسمة التقسيم المذكور، ومثّلنا لذلك بتعريف (العلْم) بالتقسيم بأن نقول: الاعتقاد إما جازم أو غير جازم، والجازم إما مطابق أو غير مطابق، والمطابق إما ثابت لا يقبل التشكيك بحال وإما لا، فظهر من التقسيم: اعتقاد جازم مطابق ثابت لا يقبل التشكيك بحال، وهو (العلم)، كما قدمنا إيضاحه وما يحترز عنه بكل لفظ من ألفاظ التقسيم المذكورة، فهذا التقسيم صار دليلًا مستقلًا لتصور (العلم)؛ لأنه يحصل به تصور (العلم) بأنه اعتقاد جازم مطابق ثابت لا يقبل التشكيل بحال، كالعلم بأن الواحد نصف الاثنين، وأن الكل أكبر من الجزء.
وأما كون التقسيم جزءَ دليل في التصديقات فلأن الدليل المعروفَ عند أهل الأصول بالسبر والتقسيم، وعند الجدليين بالتقسيم والترديد، متركب من أصلين: أحدهما التقسيم، وهو حصر جميع أقسام المقسَّم، والثاني هو سبر تلك الأقسام كلها، أي اختبارها وتمييز ما يصلح منها وما لا يصلح، وبه تعلم أن التقسيم صار أحدَ ركني هذا الدليل التصديقي، وقسمه الثاني هو سبر الأقسام -أي اختبارها-، فإذا
(1)
ص 57، 58.
صح التقسيم واستوفى شروطه المذكورةَ وصح سبرها وهو اختبار صحيحها من فاسدها، وصالحِها من غيره، كان الأمران المذكوران دليلًا تصديقيًّا، والتقسيم جزء منه.
وهذا الدليل الذي هو السبر والتقسيم يستعمله المنطقيون في مقاصد آخر، وهو ما قدمنا أنهم يسمونه الشرطي المنفصل
(1)
.
واعلم أنا قد بسطنا الكلام في هذا الدليل في كتابنا "أَضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن" في سورة مريم، في الكلام على قوله -تعالى-:{أَطَّلَعَ الْغَيبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} ، وبينّا المراد به عند الأصوليين والجدليين والمنطقيين، وأوضحنا الفرق بين ما تريد به كل طائفة منهم وبين ما تريد به الأخرى، وذكرنا له أربعة أمثلة قرآنية، وبينّا بعض آثاره التاريخية العقائدية والأدبية، ولذلك سنختصر الكلام عليه هنا، فنذكر له مثالًا في القرآن، ومثالًا في الأصول، ومثالًا في الجدل.
فمن أمثلته في القرآن قوله -تعالى-: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيرِ شَيءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)} [الطور: 35].
وقد قدمنا أن التقسيم في هذه الآية عقلي، وإنما كانت الأقسام ثلاثة لأنهما تقسيمان عقليان قطعيان، لأنا نقول: إما أن يكونوا خُلقوا بلا خالق أصلًا، أو خلقهم خالق، وهذا تقسيم عقلي قطعي؛ لحصره في الشيء ونقيضه، ثم نقسم القسم الثاني الذي هو قولنا: أو خلقهم خالق، فنقول: لا يخلو ذلك الخالق من أن يكون أنفسَهم أو ليس بأنفسهم، وهذا أيضًا تقسيم عقلي قطعي؛ لحصره في الشيء ونقيضه،
(1)
راجع ص 132.
فصارت الأقسام في التقسيمين ثلاثة: الأول كونهم خلقوا بلا خالق أصلًا، الثاني أنهم خَلقوا أنفسهم، الثالث أنهم خلقهم خالق غيرُ أنفسهم. فهذا التقسيم العقلي الصحيح جزء الدليل التصديقي، وجزءه الآخرُ هو سبر هذه الأقسام الثلاثة واختبارها، وتمييز الصحيح منها من الباطل. وبالسبر الصحيح يتبين أن القسمين الأولين -وهو أنهم خُلقوا بدون خالق أو أنهم خَلقوا أنفسهم- باطلان غاية البطلان كما لا يخفى، وأن القسم الثالث -وهو أنهم خلقهم خالق- صحيحٌ لا شك فيه، وهذا الخالق الذي خلقهم هو خالق السموات والأرض ومن فيهما سبحانه وتعالى علوًا كبيرًا-. فالقسم الصحيح من الأقسام حُذف في الآية؛ لدلالة المقام عليه، فدل التقسيم والسبر المذكوران على أن لهم خالقًا هو الذي خلقهم، وهو الذي يستحق عليهم أن يعبدوه وحده، فكونهم خلقهم خالق تصديق، وكان التقسيم جزء الدليل عليه، ومن المعلوم أن الحصر والتقسيم إن كانا قطعيين كان السبر والتقسيم دليلًا قطعيًّا، كالآية التي مثلنا بها، فدلالتها على أنه -تعالى- هو الخالق المستحق للعبادة وحده قطعية؛ لأن الحصر والإبطال [فيها]
(1)
قطعيان.
واعلم أن الأصوليين إنما يستعملون هذا الدليل في إثبات العلة بحصر أوصاف المحل، وإبطال غير الصالح للتعليل، فيتعين الباقي الصالح للتعليل.
كقول الشافعي: علة تحريم الربا في البر إما الكيل وإما الطُعم وإما الاقتيات والادخار مثلًا، ثم يستدل على بطلان وصف الكيل ووصف الاقتيات والادخار بأن ملء الكف من البر لا يجوز فيه الربا، مع أنه غير
(1)
في المطبوع: (فيهما)، والمثبت هو الصواب لأن الضمير يعود على الآية.
مكيل وغير مقتات ولا مدخر، لكنه مطعوم، فيتعين الطُعم للعلية. وقصدنا مطلق المثال لا مناقشة أدلة الأقوال.
ومن أمثلته عندهم قصة الأعرابي الذي جاء النبيَّ صلى الله عليه وسلم وقال: هلكتُ، واقعت أهلي في نهار رمضان. فقال له صلى الله عليه وسلم أعتق رقبة
(1)
.
فنقول: علة عتق الرقبة إما أن تكون كونَه أعرابيًّا، أو كونَ الموطوءة أهلًا لا سُرِّية، أو هي الجماع في نهار رمضان.
ثم نرجع للأقسام بالسبر الصحيح فنجد كونه أعرابيًّا ليس بصالح للتعليل؛ لأن حكم جماع الحضري في نهار رمضان كحكم جماع الأعرابي. وكون الموطوءة أهلًا ليس بصالح؛ لأن وطء أَمته بالتسرّي في نهار رمضانَ كحكم وطء زوجته، فيبقى الجماع في نهار رمضان، فيتعيّن كونه هو العلة. فقولنا (علة الكفارة الجماع) تصديق، والتقسيم جزء من دليله المذكور.
ومن أمثلته الجدلية التاريخية العقائدية قول عبد الله بن محمد الأذرمي
(2)
لأحمد بن أبي دؤاد
(3)
أمام الواثق بالله
(4)
ما حاصله
(1)
صحيح البخاري (1834)، وصحيح مسلم (1111).
(2)
هو أبو عبد الرحمن، عبد الله بن محمد بن إسحاق الأذرمي، نسبة إلى أذْرمة، قرية بنصيبين، الموصلي، ثقة من العاشرة كما في التقريب: ص 320.
(3)
هو أحمد بن فرج بن حريز الإيادي البصري ثم البغدادي، تبنى القول بخلق القرآن وامتحان العلماء على ذلك، مات سنة 230 هـ. انظر سير أعلام النبلاء (11/ 169 - 171).
(4)
الخليفة العباسي، هارون بن المعتصم بن هارون الرشيد، توفي سنة 232 هـ. انظر سير أعلام النبلاء للذهبي (10/ 306 - 314) وقد أورد القصة هناك.
ومضمونه هو هذا الدليل، فخلاصة ما قاله له: مقالتك هذه التي تدعو الناس إليها -وهي كون القرآن مخلوقًا- إما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون عالمين بها أو لا، وهذا تقسيم عقلي صحيح؛ لحصره في الشيء ونقيضه، ثم نرجع للقسمين المذكورين بالسبر الصحيح فنجدك يا ابن أبي دؤاد على غير الصواب في جميع الاحتمالات، فعلى تقدير أن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين كانوا غير عالمين بها فلا يمكن أن تكون عالمًا بها، وإذًا فأنت تدعو الناس لما لا علم لك به، وهذا غير صواب منك. وعلى تقدير أنهم كانوا عالمين بها ولم يدعوا الناس إليها فإنك يا ابن أبي دؤاد يسعك في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ما وسعه هو وخلفاءَه الراشدين، فأنت على غير صواب في دعائك إلى شيء علمه النبي وأصحابُه وتركوا دعوة الناس له؛ لأنك يسعك ما وسعهم.
وقد بسطنا الكلام على هذه القصة، وذكرنا أنه روي عن الخطيب
(1)
أن الواثق بالله كان حاضرًا لهذا الكلام، وسقط من عينه ابن أبي دؤاد، وأَطلق سراح الشيخ الشامي، ولم يَمتحن بعد ذلك أحدًا بخلق القرآن، وأن هذا الدليل صار هو أول مصدر لكبح جماح فتنة القول بخلق القرآن.
ومن أراد بسط الكلام في هذا الدليل فلينظر كتابنا أضواء البيان، في الكلام على آية مريم التي أشرنا إليها. وقد اكتفينا بهذه الكلمات القليلة المبيِّنة أن التقسيم قد يكون جزء دليل تصديقي.
(1)
انظر تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (10/ 75 - 79).