الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في التعريفات
والاصطلاح فيها هنا قد يختلف مع الاصطلاح المنطقي المتقدم في بعض الأحوال.
واعلم أن أقسام التعريف عند أهل هذا الفن أربعة:
الأول: اللفظي، وضابطه هو ما قدمناه من كونه تعريف لفظ بلفظ آخرَ مرادفٍ له أوضحَ منه عند السامع، كتعريف الغضنفر بالأسد، وقد أوضحناه بأمثلة في المقدمة المنطقية
(1)
، ومعلوم أن هذا النوع من التعريف نسبي؛ لأن شهرة أحد الرديفين تختلف بِاختلاف الأشخاص، فترى بعضهم لا يعرف القمح إلا باسم البر، وبعضهم لا يعرفه إلا باسم الحنطة، وقس على ذلك.
القسم الثاني من أقسام التعريف: هو المعروف بالتعريف التنبيهي، وضابطه أنه إحضار معنى في ذهن المخاطب كان معلومًا عنده سابقًا، ولكنه قد غاب عنه علمه وقت التعريف حتى نُبه عليه بالتعريف، ولا يخفى أن الفرق بين اللفظي والتنبيهي اعتباري؛ لأن الاعتبار فيه بحال المخاطب، فإن كان لم يسبق له علم بمعنى الحقيقة المعرفة فالتعريف لفظي، وإن كان قد سبق له بها علم ولكنها غابت عن ذهنه وأَراد المعرِّف إحضار معناها الغائب عنه في ذهنه بالتعريف فالتعريف تنبيهي، وبذلك تعرف أن التعريفين المذكورين متفقان حقيقة وماصدقًا؛ لأن الاختلاف بينهما باعتبار أمر خارج عن حقيقتهما، وهو
(1)
ص 57.
حال المخاطب من سبق علم له بالأمر وعدمه.
تنبيه: اعلم أن اللفظ الدال على الموضوع يسمى عنوانًا، ومعناه المطابقي يسمى مفهومًا، وأَفراده الموجودة في الخارج تسمى ماصدقًا، وسميت بذلك لأنها هي ما صدق عليه المفهوم.
القسم الثالث من أقسام التعريف وهو التعريف الحقيقي، وضابطه أنه تعريف الماهية التي لأفرادها وجود في الخارج بالحد والرسم، على نحو ما قدمنا إيضاحه
(1)
، كتعريف الإنسان بأَنه الحيوان الناطق ونحو ذلك.
القسم الرابع من أقسام التعريف هو التعريف الاسمي، وهو تعريف ماهية متخيلة، ولكنها لا يُعلم وجودها في الخارج.
تنبيه: اعلم أن من المقرر في فن المنطق أن من أَنواع تقسيم القضايا تقسيمها إلى قضية خارجية وقضية حقيقية، وإيضاح الفرق بينهما أن كل قضية اعتُبر في صدق عنوانها على مفهومه الذي هو حقيقة الموضوع وجودُ الأفراد الخارجية في أحد الأزمنة الثلاثة فهي المسماة بالخارجية؛ لوجود أفراد موضوعها في الخارج، وأما إن لم يُعتبر وجودُها في الخارج بل اكتُفي فِيها بتقدير الوجود مع كونه غير واقع بالفعل فهي المسماة بالحقيقة.
ومثال الخارجية (كل إنسان حيوان)؛ لأن العنوان الذي هو لفظ (الإنسان) في هذا المثال معتبر في صدقه وجود أفراده في الخارج، كزيد وعمرو.
(1)
ص 58، 59.
ومثال الحقيقية قولك: (العنقاء طائر عجيب الشكل طويل العنق يصطاد الصبيان وصغار البقر)؛ لأن العنقاء طائر تتخيله العرب ولا وجود لفرد من أفراده فِي الخارج البتة، ولذلك كانوا يضربون المثل للمفقود الذي لا طمع في وجوده بحال بقولهم:(طارت به العنقاء).
ومن أمثلة [الحقيقية]
(1)
تعريف الصَّفَر بأنه (دابة في جوف الإنسان تعض على شراسيفه إذا جاع)، والشراسيف أصول الأضلاع؛ لأن الصفر شيء تتخيله العرب مع أنه لا وجود له في الخارج، ومنه قول أعشى باهلة
(2)
:
لا يتّأرى لما في القدر يرقبه
…
ولا يعض على شرسوفه الصفرُ
قولهم (العنقاء طائر، والصفر دابة) لم يعتبر في صدق عنوانه على موضوعه الوجود الخارجي، بل اكتُفي بتقدير الوجود؛ لأن الطائر والدابة المذكورين لو فُرض وجودهما في الخارج لصدق عليهم الاسم، وقد أشرت في أرجوزتي في فن المنطق إلى الفرق بين الخارجية والحقيقة بقولي:
كل قضية على ما ذكروا
…
في صدق عنوان لها يعتبرُ
وجود موضوع لها في الحالِ
…
أو المضي أو الاستقبالِ
فخارجية على المعهودِ
…
وحيث لا اعتبار بالوجودِ
(1)
في المطبوع: (الحقيقة) والصواب ما أثبته.
(2)
ديوان الأعشين ص 268، ملحق بديوان الأعشى الكبير (الصبح المستنير).
مطبعة آدلف هلز هوسن.
بل كان بالتقدير للوجود مع
…
كون الوجود خارجًا قد لا يقع
فهي الحقيقية والفرق أضا
…
بينهما بأنه لو فُرضا
الحصر للألوان في السوادِ
…
في خارج والغير ذو انفقادِ
فقولك البياض لون فنّدوا
…
بحسب الأول إذ لا يوجدُ
وكِذْبُه لفقده في الخارجِ
…
مع اعتبارنا الوجودَ الخارجي
وصادق بالاعتبار الثاني
…
كونَ البياضِ أحدَ الألوانِ
إذ فيه معنى كلِّ ما لو وجدا
…
كان بياضًا فبحيث لو بدا
وجوده يكون لونًا فعلمْ
…
الصدقُ مع كون البياض منعدمْ
وصدقُ حصر اللون بالسوادِ
…
بحسَب الأول أمرٌ بادِ
وكِذْبه بحسَب الثاني اتضحْ
…
فما أبيح افعل ودع ما لم يُبحْ
انتهى محل الغرض من الأرجوزة المذكورة.
ولا يخفى أنا ذكرنا في الأبيات ثلاث كلمات كلُّها يمنعه كثير من علماء العربية.
إحداها: إتباع (قد) بلا النافية في قولنا: قد لا يقع، وقد أجازه بعضهم، وقال ابن مالك في خلاصته
(1)
: "والمصروف قد لا ينصرف".
(1)
ص 57، مؤسسة الرسالة، ط 3، 1409 هـ.
الثانية: تعريف لفظة (غير) بالألف واللام، وإنما جئنا به لأن عامة المتأخرين تساهلوا فيه، وجرى على ألسنتهم بكثرة، ولا يخلو من قول بجوازه وإن كان ضعيفًا، والنظم لضيقه أصله محل الضرورات.
الثالثة: الوقف على لفظة (منعدم) بالسكون، مع أنها منصوبة؛ لأنها خبر المصدر الكوني، وذلك لغة ربيعة فلا بأس به، كما قال بعضهم:
كذا لدى ربيعةَ المنوّنُ
…
في نصبٍ أَو في غيره يسكنُ
وبحث الحقيقيات والخارجيات من المباحث التي أشرنا في المقدمة المنطقية
(1)
إلى أنا تركناها اختصارًا مع مباحثَ كثيرةٍ من فن المنطق.
وإذا عرفت الفرق بين الخارجية والحقيقية فاعلم أن ضابط التعريف الحقيقي هنا هو ما كانت الحقيقة المعرَّفة فيه موضوع القضية الخارجية.
وأن ضابط التعريف الاسمي هو ما كانت الحقيقة المعرَّفة فيه موضوع القضية الحقيقية.
وكل واحد من التعريفين المذكورين ينقسم إلى حد تام وناقص، أو رسم تام وناقص، وقد قدمنا إيضاح الجميع وأمثلته وشروطه في
(1)
ص 79.
مقاصد التصورات فأَغنى ذلك عن إعادته هنا
(1)
.
وكثير من أهل هذا الفن لا يشترطون في التعريف اللفظي الجمع ولا المنع، فيجوز عندهم تعريف الأعم بالأخص وعكسُه، وبه قال قليل من المنطقيين.
وعلى عدم الاشتراط جرى اللغويون، كقولهم:(البلوط ثمرُ شجرٍ يؤكل ويدبغ بقشره)، فهذا غير مانع لكثرة الثمار التي تؤكل ويدبغ بقشرها غيرِ البلوط.
وكقولهم: (العندليب طائر) و (الورد زهر) ونحو ذلك.
وكقولهم في تعريف الأعم بالأخص: (الطيب مسك) ونحو ذلك.
وقد قدمنا أن المنطقيين يشترطون الجمع والمنع الذين هما الطرد والعكس كما تقدم إيضاحه
(2)
، وهو قول جماهير المتأخرين منهم إلا من شذ.
وقد يكون التعريف اللفظي بمركب يقصد به تعيين الحقيقة لا تفصيلها، كقولهم في تعريف الإنسان:(شبح منتصب القامة عريض الأظفار يمشي على اثنين لا ريش له).
أما التعريف بما يساوي المعرَّف -بالفتح- فهو محل اتفاق كما
(1)
راجع المقدمة المنطقية ص 58، 59.
(2)
ص 59، 60 من المقدمة المنطقية.
تقدم إيضاحه.
واعلم أن أهل هذا الفن يشترطون شروطًا لحسن التعريف الحقيقي والاسمي، وهي عندهم شروط في الحسن لا في الصحة، والمنطقيون يجعلون بعضها شرطًا في الصحة لا الحسن، وهو أظهر.
وشروط الحسن المذكورة عند أهل هذا الفن أربعة:
الأول: السلامة من الأغلاط اللفظية، كتقديم الضمير على مفسِّره لفظًا ورتبة، وكالعطف على الضمير المرفوع المتصل من غير فصل أصلًا، وكفَكّ ما يجب فيه الإدغام وعكسه، وكل هذا معروف في محله، وكونُه شرطًا للحُسْن صحيح.
الثاني: ألا يكون في ألفاظ التعريف لفظ مجازي إلا مع قرينة تعيّن المراد.
الثالث: ألا يكون فيه لفظ مشترك بين معنيين فأكثرَ إلا مع قرينة تعيّن المراد.
وهذان قد قدمنا أَنهما شرطان في صحة التعريف عند المنطقيين لا في حسنه
(1)
، وهو الأظهر، ومحل اشتراط عدم الاشتراك المذكور عند أهل هذا الفن دون القرينة إذا لم يصح إرادة كل واحد من المعاني على سبيل البدل، فإن صح إرادةُ جميعها على ذلك الوجه صح عندهم استعماله بدون القرينة.
(1)
راجع المقدمة المنطقية ص 62، 63.
الشرط الرابع: من شروط الحُسْن ألا يكون في التعريف لفظ غريب غيرُ ظاهر الدلالة على معناه المراد به، أو موهمٌ لمعنًى غيرِ المعنى المراد لصاحب التعريف.