الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خاتمة في المقارنة بين مذهب السلف وما يسمونه مذهب الخلف
قد علمت [مما]
(1)
ذكرنا أن مذهب السلف مبني على ثلاثة أسس:
الأول: منها تنزيه الله -جل وعلا- عن مشابهة خلقه في ذواتهم أو صفاتهم أو أفعالهم.
والثاني: الإيمان بما ثبت في الوحي الصحيح من صفات الله على أساس ذلك التنزيه.
الثالث: العجز عن الإحاطة لقوله: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110].
فالسلفي إذا سمع قوله -تعالى-: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] امتلأ قلبه من الإجلال والإعظام والتقديس والتنزيه لتلك الصفة التي أثنى الله بها على نفسه، وهي أنه استوى على عرشه، فيجزم قلبه جزمًا باتًا بأن ذلك الاستواء الذي مدح الله به نفسه الكريمةَ المقدسةَ بالغٌ من غايات الكمال والجلال والتنزيه ما يقطع علائق أوهام المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين، سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا، فيكون معتقدًا لمضمون قوله:{لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ} وقولِه: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} إلى غير ذلك من الآيات.
(1)
في المطبوع: (ما).
وبهذا التنزيه الكريم يتيسر له الإيمان بما وصف الله به نفسه من صفة الاستواء؛ لأنه إذا حمل الاستواء على ذلك المعنى اللائق المنزَّه عن مشابهة استواء المخلوقين سهُل عليه الإيمان به وتصديقُ الله في ثنائه به على نفسه على نحو {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} .
فالسلفي منزهٌ أولًا، ومؤمن بالصفات ومثبتٌ لها على أساس التنزيه ثانيًا، عالمٌ بعجزه عن إدراك كيفية الاتصاف؛ لأن إحاطة العلم البشري بالله منفية نفيًا باتًا قرآنيًا كما تقدم إيضاحه
(1)
، فهو بتنزيهه طاهرُ القلب من أقذار التشبيه، وبإيمانه بالصفات على أساس التنزيه طاهر القلب من أقذار التعطيل، فمذهبه طريق سلامة محقفةٍ لا لبس فيها، ولا شك في كونها حقًّا؛ لأن كل مذهبه تمسكٌ بنصوص القرآن العظيم.
أما ما يسمونه مذهب الخلف فهو مستلزم ثلاث [بلايا]
(2)
كل واحدة منها أكبر من أختها استلازمًا لا ينفك:
والأولى من البلايا الثلاث: أنه إذا سمع قوله -تعالى-: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} قال: إن ظاهر هذا الاستواء -الذي مدح الله به نفسه في سبع آيات من كتابه- هو مشابهة استواء المخلوقين! وهذه بلية عُظمى؛ لأن صاحبها يتهجم على نصوص القرآن العظيم، ويفتري
(1)
ص 368.
(2)
في المطبوع: (بلايات).
عليها أن ظاهرها المتبادرَ منها هو مشابهة استواء الخلق، وكل كلام كان ظاهرُه المتبادرُ منه مشابهةَ الخالق للخلق فهو كلام ظاهره قذر نجس؛ لأنه ليس كلامٌ أقذرَ ولا أنجسَ ظاهرًا من كلامٍ ظاهرُه تشبيهُ الخالق بالخلق، سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا، فكأهم يقولون لله: هذا الذي مدحتَ به نفسك ظاهرُه المتبادرُ منه الذمُّ والتنقيص؛ لأنه لا ذمَّ ولا تنقيصَ أعظمُ من دعوى مشابهة صفة الخالق لصفة خلقه، والنبي صلى الله عليه وسلم الذي قيل له:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيهِمْ} [النحل: 44] لم يقل حرفًا واحدًا من ذلك، ولم يبيّن شيئًا مما زعموه، مع أنه -صلوات الله وسلامه عليه- لا يجوز في حقه تأخيرُ البيان عن وقت الحاجة، ولا سيما في صفات الله، ولا سيما فيما ظاهره المتبادر منه الكفُر بالله بتشبيهه بخلقه، سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا.
فالافتراء على الله بأنه أثنى على نفسه [بما ظاهره]
(1)
المتبادرُ منه التشبيهُ بالخلق، والافتراء على نصوص القرآن بأن ظاهرها المتبادرَ منها التشبيهُ هو البلية الأولى من بلايا مذهب الخلَف، حاشا لله جل وعلا وحاشا نصوصَ كتابه مما افتروه.
والبلية الثانية من البلايا الثلاث اللازمةِ لمذهب الخلف هي أنهم لما قرروا أن ظاهر صفة الاستواء مثلًا المتبادرَ منها مشابهةُ الخلق، قالوا: إنها يجب نفيُها بالكلية؛ لأجل الصرف عن هذا الظاهر الخبيث
(1)
في المطبوع: (بمظاهر).
في زعمهم، ومَن تنطّع بين يدي الله فنفى عنه صفته التي أثنى بها على نفسه في سبع آيات من كتابه فهو أجرأ [خاصي]
(1)
الأسد بأضعاف، ولا شك أنه واقع في بلية عظمى؛ لأن التجروء على الله ونفيَ ما مدح به نفسه بادعاء أنه غيرُ لائق [أمر]
(2)
ليس بالهين كما ترى.
فافتروا على الصفة أولًا أن ظاهرها غيرُ لائق، فصاروا مشبّهين صفةَ الخالق الواردةَ في الوحي بصفة مخلوق شرَ تشبيه، وبسبب ذلك التشبيه المفترى [نفوا صفة]
(3)
الاستواء من أصلها، من غير اعتماد على كتاب ولا سنة، ونفيُهم للاستواء الذي أثنى الله به على نفسه في سبع آيات من كتابه هو البلية الثانيةُ اللازمة للمذهب الخلَفي، ولا شك أن التجرؤ على نفي ما مدح الله به نفسه مدحًا متكررًا في القرآن العظيم أنه بلية عظمى وجناية كبرى.
والبلية الثالثة من البلايا اللازمة لمذهب الخلَف هي أنهم لما ادعوا على صفة الاستواء أن ظاهرها غيرُ لائق، ثم نفوها من أصلها بسبب ذلك، زعموا أن معنى {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} استولى عليه، فجاءوا بالاستيلاء من تلقاء أنفسهم، ونفوا الاستواء الثابتَ في القرآن، وضربوا لذلك مثلًا بقول الراجز:
(1)
في المطبوع: (خاص)، ومن أمثال العرب:(أجرأ من خاصي الأسد)، من الخِصاء، ويقال: خاسئ، من الخسة، انظر ثمار القلوب للثعالبي: ص 383.
(2)
في المطبوع: (أو).
(3)
في المطبوع: (فواصفه).
قد استوى بشرٌ على العراقِ
…
من غير سيف ودم مهراقِ
(1)
فقالوا قد (استوى بشر على العراق) معناه: قد استولى عليه، وإذًا فمعنى {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}: ثم استولى عليه.
ونحن نقول في هذا: أيها المستدلُ ببيت الرجز هذا على أن الاستواء معناه الاستيلاء، ألم تخش الله، ألم تستحي من خالق السموات والأرض -جل وعلا- استحياء يمنعك من أن تُشَبّه استيلاءه على عرشه الذي زعمت باستيلاء بشر على العراق؟ وهل يعقل في الدنيا تشبيه أشنعُ من تشبيه استيلاء الله على عرشه باستيلاء بشر بن مروان على العراق؟ ! .
فاعلم أيها الخلفي أن هذا التشبيه الذي جئتَ به في الاستيلاء الذي زعمتَ والبيتِ الذي استدللتَ به أنك به أنت أعظمُ المشبهين نصيبًا في التشبيه لصفات الخالق بصفات خلقه، وبأي دليل من كتاب أو سنة أو إجماع أو عقل سوّغتَ لنفسك أن تشبه استيلاء الله على عرشه الذي زعمت باستيلاء بشر بن مروان على العراق؟ .
ثم اعلم أيها الخلفي أن الاستيلاءَ الذي جئتَ به من تلقاء نفسك من غير اعتماد على وحي سماوي أنه أشدُّ الصفات توغلا في التشبيه؛ لأن فيه تشبيهَه -تعالى- في استيلائه على عرشه بكل مخلوق قهَر مخلوقًا فغلبه واستولى عليه، وهذا يستلزم من أنواع التشبيه بحورًا لا
(1)
يُنسب للأخطل النصراني، انظر ديوانه: ص 557، دار الفكر المعاصر 1416 هـ.
سواحل لها.
ولا شك أنك ستضطر أيها الخلفي إلى أن تقول: هذا الاستيلاء الذي فسرتُ به [استواءَه]
(1)
منزهٌ عن مشابهة استيلاء المخلوقين.
ونحن نسألك ونطلب منك الجواب بالحق الخالي من التعصبات التي تُعمي العقلاءَ وتُصِمُّهم: أيهما أحقُ بالتنزيه عن مشابهة صفات الخلق: الاستواء الذي أثنى الله به على نفسه في سبع آيات من كتابه، وأنزل به الروحَ الأمينَ على سيد الخلق صلى الله عليه وسلم قرآنًا يُتلى متعبدًا بلفظه، كلُ حرف منه عشرُ حسنات لقارئه، ويُقرأ به في الصلاة، ومن أنكر أنه من القرآن كفر بإجماع المسلمين، أم الأحق بالتنزيه عن مشابهة صفات المخلوقين هو الاستيلاء الذي جئتم به من تلقاء أنفسكم، من غير أن يدل عليه كتاب ولا سنة البتة بوجه من الوجوه؟
والظاهر أنك ستضطر إلى أن تقول: إن كلام رب العالمين أحق بالتنزيه من كلام جاء به ناس من تلقاء أنفسهم من غير استناد إلى دليل من نقل ولا عقل، إلا إذا كنت مكابرًا، والمكابر لا داعي للكلام معه.
وهذا الذي ذكرنا في الاستواء جارٍ في جميع الصفات الثابتة في الكتاب والسنة، كما قدمنا أن إيضاح مثال واحد منها كافٍ في إيضاح الجميع.
{قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيهَا وَمَا أَنَا
(1)
في المطبوع: (استواء).
عَلَيكُمْ بِحَفِيظٍ} [الأنعام: 104].
وفي الختام نوصي أنفسَنا وإخوانَنا المسلمين بتقوى الله -تعالى-، وعدمِ التهجم على الله -تعالى- وعلى كتابه بالدعاوَى الباطلة، والتمسكِ بنور الوحي الصحيح في المعتقد وغيرِه؛ لأن السلامة متحققة في اتباع الوحي، وليست متحققةً في شيء غيره:
ونهج سبيلي واضحٌ لمن اهتدى
…
ولكنها الأهواءُ عمّتْ فأَعمتِ
(1)
وبهذا الذي ذكرنا تعلم أن مذهب السلف أسلمُ وأحكم وأعلم، وقولهم (مذهب السلف أسلم) إقرارٌ منهم بذلك؛ لأن لفظ (أسلم) صيغة تفضيل من السلامة، وما كان يَفضُلُ غيرَه ويفوقُه في السلامة فهو أحكم منه وأعلم.
وبه يظهر أن قولهم (ومذهب الخلف أحكم وأعلم) ليس بصحيح، بل الأحكم الأعلم هو الأسلم كما لا يخفي.
وهنا انتهى ما أردنا تلخيصَه وجمعه، والحمد لله رب العالمين.
وكان الفراغُ منه في اليوم الرابعَ عشرَ من جُمادى الأولى من سنة 1388 هـ، بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم، ونرجوا الله -جل وعلا- أن يرزقنا الإخلاص في جميع أعمالنا، ويجيرَنا من فساد القصد في الأعمال، إنه سميع مجيب قريب، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
(1)
البيت لابن الفارض!، انظر ديوانه: ص 55، دار صادر.