الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في المعارضة
وهي الطريق الثالثة من الطرق الثلاث التي تقدم الكلام عليها
(1)
.
اعلم أولًا أن جميع طرق الاعتراض راجعة إلى شيئين: وهما المنع والمعارضة، وبعضهم ردها كلها إلى شيء واحد وهو المنع، كما قال صاحب مراقي السعود
(2)
:
وللمعارضة والمنع معا
…
أو الأخيرِ الاعتراضُ رجعَ
واعلم أن المعارضة في الاصطلاح هي إقامة الخصم الدليلَ المنتجَ نقيضَ الدعوى التي استدل عليها خصمُه وأثبتها بدليله، أو المنتجَ ما يساوي نقيضها أو ما هو أخصُّ من نقيضها؛ لأن إقامته الدليلَ المنتجَ أحدَ الأمور الثلاثة يلزمه إبطال دعوى خصمه؛ لأنه إن ثبت نقيضها أو مساوي نقيضها أو أخصُّ من نقيضها بدليل المعارض فقد تحقق بطلانها؛ لاستحالة اجتماع النقيضين، واستحالة اجتماع الشيء ومساوي نقيضه، واستحالة اجتماع الشيء والأخص من نقيضه كما تقدم إيضاحه
(3)
.
ومثال المعارضة بإثبات النقيض أن يقول المعلل المعتقد مذهبَ الفلاسفة الباطلَ في قدم العالم: العالم قديم، ثم يقيم الدليل في زعمه
(1)
وهي: النقض التفصيلي، والنقض الإجمالي، والمعارضة، راجع ص 203، 232، 233.
(2)
ص 100، رقم (807)، دار المنارة، جدة، 1416 هـ.
(3)
راجع ص 77، 134، 218 - 220.
الباطلِ على دعواه فيقول: لأنه أثر القديم، وكل ما هو أثر القديم فهو قديم، فهذا دليل على الدعوى نصبه المعلل لإثبات دعواه، ينتج في زعمه: العالم قديم.
فيقول السائل: العالم غير قديم، ثم يقيم الدليل على ذلك فيقول: لأنه متغير بالانعدام ونحوه من أنواع التغير، وكل ما هو كذلك فليس بقديم، ينتج: هو -أي العالم- ليس بقديم، وهذه النتيجة عين نقيض دعوى المستدل التي نصب عليها دليله وهي قوله:(العالم قديم)؛ لأن نقيض القديم (ليس بقديم).
ومثال إنتاجه مساوي نقيض الدعوى التي استدل عليها المعلل أن يقال في هذا المثال الأخير: العالم متغير بالانعدام ونحوه من أنواع التغير، وكل ما هو كذلك فهو حادث، ينتج: العالم حادث. والحادث مساوٍ لنقيض القديم؛ لأن نقيض القديم (ليس بقديم)، والحادث مساو لـ (ليس بقديم) كما لا يخفى.
ومثال إنتاجه ما هو أخص من نقيض الدعوى التي استدل عليها المعلل أن يقول المعلل المعتزلي المعتقد استحالةَ رؤية الله بالأبصار يوم القيامة: رؤية الله بالأبصار يلزمها كثير من أنواع مشابهة الخلق، وكل ما هو كذلك فهو مستحيل في حقه -تعالى-، فينتج له دليله هذا الباطلُ باطلًا، وهو قوله: رؤية الله -تعالى- بالأبصار مستحيلة، يعني لا تمكن عقلًا.
فيقول السائل المعارض: رؤية الله -تعالى- بالأبصار يوم القيامة أخبر الله في كتابه، ورسولُه في الأحاديث الصحيحة بأنها واقعة
بالفعل، وكل ما هو كذلك فهو حق صحيح. وهذه النتيجة التي هي وقوع الرؤية بالفعل أخصُّ من إمكانها، الذي هو نقيض دعوى الخصم التي هي استحالتها كما قدمنا إيضاحَه.
واعلم أن المعارضة عند أهل هذا الفن تختلف تقسيماتها باختلاف الاعتبارات، فتنقسم باعتبار ما تُوجه إليه إلى قسمين: الأول يسمى المعارضة في الدليل، والثاني يسمى المعارضة في العلة.
وتنقسم باعتبار مقارنة دليل المعارضِ بدليل المعلل إلى ثلاثة أقسام: الأول المعارضة على سبيل القلب، والثاني المعارضة بالمثل، والثالث المعارضة بالغير، وكل واحد من هذه الأنواع الثلاثة يكون معارضة في الدليل، ويكون معارضة في العلة، فالأقسام ستة من ضرب اثنين في ثلاثة.
واعلم أن أنواع المعارضةِ في العلة والمعارضة في الدليل سنوضحها إن شاء الله إيضاحًا تامًّا في التطبيق على القادح المسمى في الأصول بالمعارضة
(1)
، ولذلك سنختصر القول فيهما هنا، وبالمثال يتضح معنى ما ذكرناه.
اعلم أنه لو قال المعلل مثلًا: العالم حادث، فهذا التصديق دعوى؛ فإن أقام الدليل على هذه الدعوى فقال: لأنه متغير، وكل متغير حادث. ينتج: العالم حادث، فهذا دليل على هذه الدعوى، ومشتمل على مقدمتين كل واحدة منهما في ذاتها دعوى.
(1)
يأتي ص 319.
فلو أراد المعلل أن يقيم دليلًا على صغرى دليله هذا مثلًا التي هي (العالم متغير) فقال: لأنه لا يخلو عن الأكوان، وكل ما لا يخلو عن الأكوان فهو متغير، ينتج هو -أي العالم- متغير.
والأكوان في اصطلاح المتكلمين هي الحركة والسكون والافتراق والاجتماع.
فقد عرفت من هذا الكلام أنه ثلاث طبقات:
الطبقة الأولى الدعوى الأصلية التي هي (العالم حادث).
والثانية هي الدليل على هذه الدعوى الذي هو الأنه متغير، وكل متغير حادث).
والثالثة إقامة الدليل على صغرى هذا الدليل التي هي (العالم متغير)، بأن يقول: لأنه لا يخلو عن الأكوان، وكل ما لا يخلو عنها فهو متغير.
فلو أقام السائل الدليل على إبطال الدعوى الأصلية، وهي هنا (العالم حادث)، فأثبت بدليله نقيضها، أو مساويَ نقيضها، أو أخص من نقيضها، سُمي ذلك معارضة في الدليل، لأنه عارض دليل إثباتها بدليل إبطالها، ، وتسمى أيضًا معارضة في المدعَى، ومعارضة في الحكم.
وإذا أقام السائل الدليل على إبطال المقدمة الصغرى من دليل الدعوى الأصلية التي هي في المثال المذكور (العالم متغير)، وكان ذلك بعد إقامة المعلل الدليل على صحتها بقوله: لأنه لا يخلو عن
الأكوان إلخ .. ، فأثبت بدليله نقيض تلك الصغرى، أو ما يساويه، أو ما هو أخص منه، بعد الاستدلال عليها، فإن ذلك يسمى معارضة في العلة، ويقال له أيضًا: معارضة في المقدمة.
والحاصل أن المعارضة إن وُجهت إلى الدعوى الأصلية المدلل عليها فهي المعارضة في الدليل، وإن وجهت إلى إحدى مقدمات دليل الدعوى الأصلية فهي المعارضة في العله.
وقد عرفت مما مر أن المعارضة لا توجه إلى إحدى مقدمات الدليل إلا إذا كانت تلك المقدمة قد استُدل عليها؛ لأنها إن لم تكن قد استدل عليها لا يتوجه إليها إلا المنع، وتعد معارضتها حينئذٍ غصبًا كما تقدم إيضاحه
(1)
.
وقد علمت مما مر أن كل واحد من هذين القسمين ينقسم إلى ثلاثة أقسام وهي: المعارضة على سبيل القلب، والمعارضة بالمثل، والمعارضة بالغير، وسنوضح إن شاء الله -تعالى- المعارضة على سبيل القلب وغيرَها مع أمثلة متعددة فقهية، في تطبيق المعارضة على القادح المعروف في الأصول بالمعارضة
(2)
، ولذلك سنختصر الكلام عليها هنا.
أما النوع الأول الذي هو المعارضة على سبيل القلب فهو معارضة دليل المعلل بعين دليله، وإيضاحه أن يقول له: دليلك هذا ينتج نقيض دعواك، فهو حجة عليك لا لك.
(1)
ص 202، 231.
(2)
انظر ما يأتي ص 319.
وسميت معارضة بالقلب لأنه قُلب عليه دليله بعينه حجةً عليه لا له، ومعلوم أن ذلك يلزمه اتحاد الدليلين: دليل المعلل، ودليل المعارض، شكلًا وضربًا، مع اتحادهما في الحد الوسط إن كانا اقترانيين، واتحادُهما وضعا ورفعا مع اتحادهما في الجزء المكرر إن كانا استثنائيين.
ومثل له بعضهم بأن يقول المعلل المعتزلي المانع رؤية الله -تعالى-: رؤية الله غير جائزة عقلًا، ثم يقيم الدليل على ذلك في زعمه فيقول لأنها منفية بقوله -تعالى-:{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: 103]، وكل ما كان كذلك فليس بجائز عقلًا، ينتج في زعمه: هي ليست بجائزة عقلا.
فيقول السائل المعارض: رؤية الله جائزة عقلًا؛ لأنها منفية بقوله -تعالى-: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]، وكل ما كان كذلك فهو جائز عقلًا، ينتج: فهي جائزة عقلًا.
فقد عارضه بنفس دليله، وأثبت به نقيض دعواه.
ولا يخفى أن لكل من السائل والمعلل ملاحظةً في الدليل غيرَ ملاحظة الآخر، فباختلاف ملاحظة السائل لملاحظة المعلل أمكنه أن يقلب عليه دليله، ويستحيل قلبُ دليله عليه لا له مع اتحاد ملاحظتهما؛ لأن الدليل الواحد لا ينتج النقيضين من جهة واحدة كما لا يخفى، لكنه قد ينتج نتيجتين متناقضتين باعتبارين مختلفين.
وإيضاحه في المثال المذكور أن المعتزلي لاحظ أن قوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] مقتضٍ لنفي رؤية الأبصار له مطلقا، ولكن خصمه
الذي قلب عليه دليله لاحظ في الآية ملاحظة أخرى، وهي أن الآية إنما نفت الإدراك المشعرَ بالإحاطة، فهي تدل على أن مطلق الرؤية بدون الإحاطة جائز عقلًا.
ومن أمثلته الفقهية الآتية قول الشافعي: إن مسح الرأس في الوضوء يكفي فيه أقلُّ ما يطلق عليه اسم المسح، ولو كان الممسوح شعراتٍ قليلةً من الرأس. ثم يقيم الدليل على ذلك فيقول: لأنه مسح، وكل مسح يكفي فيه أقل ما يطلق عليه اسم المسح.
فيعارضه الحنفي القائل بأن أقل ما يجزيء مسحُه من الرأس في الوضوء الربع، فيقول الحنفي المعارض: مسحُ الرأس ركن من أركان الوضوء، وكل ركن من أركان الوضوء لا يكفي فيه أقلُ ما يطلق عليه الاسم، كغسل الوجه واليدين إلى المرفقين والرجلين إلى الكعبين، فلا يكفي في شيء من ذلك غسل أقل ما يطلق عليه اسم الغسل.
فيقلب الشافعي عليه دليله على سبيل المعارضة بالقلب فيقول: مسح الرأس ركن من أركان الوضوء، وكل ركن من أركان الوضوء لا يكفي فيه الربع كالوجه واليدين إلى المرفقين والرجلين إلى الكعبين؛ فإنه لا يكفي في شيء من ذلك غسل الربع.
فتراه قلب عليه دليله، وأبطل دعواه أن الربع يجزئ دون أقل ما يطلق عليه الاسم، بعين دليله.
وأما النوع الثاني: وهو المعارضة بالمثل فضابطه أن يتحد دليل المعارض مع دليل المعلل في الصورة مع الاختلاف في المادة، وذلك بأن يكون الدليلان من شكل واحد، ككونهما معًا من الشكل الأول مع
اختلافهما في الحد الوسط وغيره، كالمقدمتين الصغرى والكبرى، وكأن يكون الدليلان معًا من الشرطي المتصل المستثنى فيه نقيض التالي فيهما معًا مثلًا.
وأما النوع الثالث: وهو المعارضة بالغير فضابطه أن تختلف صورة دليل المعارض وصورة دليل المعلل، كأن يكون دليل أحدهما من الشكل الأول ودليل الآخر من الشكل الثاني والثالث مثلًا، وكأن يكون دليل أحدهما اقترانيًا ودليل الآخر استثنائيًا.
ومثالهما معًا بتقديم المعارضة بالغير ثم المعارضة بالمثل أن يقول المعلِّل المشترط للنية في الوضوء كالمالكي والشافعي والحنبلي: النية شرط في الوضوء. ثم يقيم الدليل على ذلك فيقول: لأن الوضوء طهارة هي قربة غيرُ معقولة المعنى، وكل ما كان كذلك تجب فيه النية، ينتج: الوضوء تجب فيه النية.
فيقول السائل كالحنفي: لو كانت الطهارة التي هي الوضوء تشترط فيها النية لكانت النية تشترط في طهارة الخبث، التي هي إزالة النجاسة عن البدن والثوب مثلًا، لكنها لا تشترط في طهارة الخبث إجماعًا، ينتج: فهي لا تشترط في طهارة الحدث؛ لما قدمنا من أن استثناء نقيض التالي ينتج نقيض المقدم، فدليل المعلل من القياس الاقتراني، ودليل المعارض من القياس الاستثنائي، فهذه معارضة بالغير.
فيعارض المعلل الأول دليل المعارض بقياس استثنائي من نوعه فيقول: لو كانت طهارة الحدث كطهارة الخبث لكان موجَبُها في محل موجِبها، لكن موجَبَها ليس في محل موجِبِها، ينتج: فهي ليست
كطهارة الخبث، وكونها ليست مثلها مبطلٌ لدليل المعارض؛ لأن مبناه على تماثلهما.
ومعنى كون موجَبها -بصيغه اسم المفعول- في محل موجبها -باسم الفاعل- أن موجَب طهارة الخبث في محل موجِبها؛ لأن الشيء الذي أوجبها هو التلبس بالخبث الذي هو النجاسة، وموجَبها هو الغسل؛ لأن الخبث أوجب الغسل، ولا يلزم إلا غسلُ عين المحل الذي فيه النجاس، فإن كانت النجاسة في اليد لم يلزم إلا غسل اليد، ولا يلزم غسل الرجل، فموجَبها -بالفتح- وهو الغسل في محل موجبها -بالكسر- وهو الخبَث، بخلاف طهارة الحدث؛ فإن موجَبها -بالفتح- ليس في محل موجِبها -بالكسر-، فلو خرجت ريح منه فخروجها موجِب للوضوء، فالوضوء موجَب -باسم المفعول الذي ربما عبرنا عنه بالفتح-، وخروج الريح موجب للوضوء -باسم الفاعل الذي ربما عبرنا عنه بالكسر-، ومحل الموجَب -بالكسر- الدبر؛ لأنه هو الذي خرجت منه الريح، والموجَب الذي هو الوضوء ليس في محل الدبر، بل هو في الوجه واليدين إلى المرفقين ومسح الرأس والرجلين إلى الكعبين، فكون موجَب طهارة الخبث في محل موجبها يدل على أنها معقولة المعنى، فلا تُشترط لها النية، كون موجَب طهَارة الحدث في غير محل موجِبها يدل على أنها ليست معقولة المعنى، فتشترط لها النية.
ومعارضة الدليل الثاني بالدليل الثالث في هذه الأمثلة مثال للمعارضة بالمثل؛ لأن الدليل في كل منهما قياس استثنائي متصل،
استُثنيَ فيه نقيض التالي فأنتج نقيض المقدم كما ترى.
ومن أمثلة المعارضة بالمثل ما قدمناه من قول معتقد قدم العالم: العالم أثر القديم، وكل ما هو أثر القديم فهو قديم، ينتج في زعمه: العالم قديم.
فيعارضه السائل بالمثل فيقول: العالم متغير، وكل متغير حادث، ينتج: العالم حادث، فكل واحد من دليل المعلل ودليل المعارض اقتراني من الشكل الأول، وإن اختلف فيهما الحد الوسط والمقدمتان كما أوضحناه.