الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في تطبيق الاعتراض المسمى بالمناقضة -وهو المنع الحقيقي- على القادح المسمى في الأصول بالمنع
وقد علمتَ مما مر أن هذا الاعتراض يسمى بالمنع الحقيقي، ويسمى بالمناقضة، والنقدِ التفصيلي، إلى آخر أَسمائه التي قدمناها.
وقد علمتَ أنَّه في فن البحث والمناظرة يتوجه إلى الدعوى المجردة، وإلى الدليل بمنع مقدمة معينة من مقدماته، كمنع الصغرى فقط، أو الكبرى فقط، ومنعُهما معًا يُعَدُّ منعين، وأنه قد يكون مجردًا عن السند، وقد يكون مقرونًا بالسند كما تقدم إيضاحه
(1)
.
وأما القادح المسمى بالمنع في اصطلاح أهل الأصول فمواقعه أربعة:
الأول: منع حكم الأصل.
الأني: منع وجود ما يدعيه علة في الأصل.
الثالث: منع كونه علةَ الحكم.
الرابع: منع وجوده في الفرع.
ومثال منع حكم الأصل قول الحنبلي: جِلد الميتة نجس فلا يطهر بالدباغ كجلد الكلب.
(1)
ص 201، 202.
فيقول الحنفي: لا نسلّم حكم الأصل، وهو أن جلد الكلب لا يطهر بالدباغ، بل هو يطهر به عندي.
ومثال منع وجود ما يدعيه علة في الأصل قول الشَّافعي والحنبلي: من قال (إن تزوجت فلانة فهي طالق) ثم تزوجها لم يلزمه طلاق؛ قياسًا على قوله (فلانة التي أتزوجها طالق) بجامع أن كلا منهما تعليقُ طلاقِ أجنبية، فالأصل المقيس عليه (فلانة التي أتزوجها طالق)، والفرع المقيس (إن تزوجت فلانة فهي طالق)، والحكم هو عدم لزوم الطلاق بعد التزويج، والعلة عند صاحب الدليل هي تعليق طلاق الأجنبية.
فيقول المعترض كالمالكي والحنفي: الوصف الذي تدعي أنَّه علة الحكم وهو تعليق طلاق الأجنبية ليس موجودًا أصلًا في الأصل المقيس عليه؛ لأن الأصل الذي هو (فلانة التي أتزوجها طالق) تنجيز طلاقٍ أجنبية، وهي لا يتنجز عليها الطلاق، والتعليق الذي زعمته علة ليس موجودًا أصلًا، ولذا ليس في الصيغة أداةُ تعليق في الأصل.
وهذا النوع الذي هو منع وجود ما يدعيه علة في الأصل هو المعروف بمركب الوصف.
والحاصل في حكم هذه المسألة أن الأئمة الأربعةَ وغيرَهم من فقهاء الامصار متفقون أن الطلاق لا يقع إلَّا بعد النكاح؛ لأن الله رتبه عليه بثُمّ في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب: 49]، الآية، فإن قال (إن تزوجت فلانة فهي طالق) ثم تزوجها فالمالكي والحنفي يقولان بلزوم الطلاق؛ لأنه ما وقع إلَّا بعد النكاح، فقد راعيا وقت نفوذ الطلاق، وهي وقتَ نفوذِه زوجة.
والشَّافعي والحنبلي يقولان بعدم لزوم الطلاق؛ لأنهما نظرا إلى وقت صدور الصيغة منه، وهي وقتَ صدور صيغة الطلاق المعلّق على التزويج أجنبية.
أما تنجيز طلاق الأجنبية فهو لغو بلا خلاف.
وأما منع كون الوصف علةً فهو أن يعترف المعترض بوجود الوصف في الأصل المقيس عليه، ولكنه يمنع كونه هو العلة.
كأن يقول الشَّافعي: وصف الكيل موجود في البُرّ، ولكنه ليس هو علةَ تحريم الرِّبَا فيه، فإن ادعى الخصم له علة أخرى كقول الشَّافعي في هذا المثال بل علة الرِّبَا فيه الطعم، فهو المعروف في اصطلاح أهل الأصول بمركب الأصل، وقد عرف صاحب مراقي السعود
(1)
مركب الأصل [هو و]
(2)
مركب الوصف بقوله:
وإن يكن لعلتين اختلفا
…
تَركَّبَ الأصلُ لدى من سلَفا
مركبُ الوصفُ إذا الخصمُ منعْ
…
وجودَ ذا الوصفِ في الأصل المتبعْ
ومثال منع وجود الوصف الذي هو العلةُ في الفرع قول الجمهور: تُقطع يد النبَّاش؛ لأنه سرق الكفن من حرز مثله، قياسًا على السارق المُخرِج من الحرز، كسرقته الدراهمَ من الصندوق المقفول.
فيقول المعترض كالحنفي: وجود العلة التي هي السرقة ممنوع في
(1)
ص 82، برقم (650، 651).
(2)
في الأصل: (وهو)، والمثبت هو الصواب كما يظهر من البيتين.
الفرع الذي هو النباش؛ لأن النباش ليس بسارق، بل آخذُ مالٍ عارضٍ للضياع، كالملتقط.
واعلم أنَّه اختُلف في توجيه المنع على حكم الأصل: هل ينقطع به المستدل أو لا؟
وأظهر القولين أنَّه لا ينقطع بمجرد منع حكم الأصل، وممن اختار ذلك ابن الحاجب
(1)
وابن قدامة في روضة الناظر
(2)
، وقالا إنه له إقامة الدليل على حكم الأصل الذي منعه المعترض.
وقال بعضهم: ينقطع بذلك، ووجهوا قولهم أنَّه لو جاز للمستدل إقامة الدليل على حكم الأصل الذي منعه المعترض لانتشر الكلام وانتقلا من مسألة إلى أخرى، وقد يفضي ذلك إلى التسلسل، والأول أظهر.
واختار الغزالي
(3)
اتّباع عرف البلد، فإن كان عرفُهم في المناظرة انقطاعَه بمجرد منع حكم الأصل انقطع به، وإلَّا فلا؛ لأنه أمر اصطلاحي، ليس بعقلي ولا شرعي.
وقال أَبو إسحاق الشيرازي
(4)
: لا يُسمع منعُه حكم الأصل، فلا
(1)
بيان المختصر (3/ 187، 188).
(2)
ص 307.
(3)
ذكره عنه ابن الحاجب كما في الموضع السابق.
(4)
انظر الموضع السابق، وأَبو إسحاق هو إبراهيم بنُ علي بنُ يوسف، جمال الدين الشَّافعي، من كبار الأصوليين والفقهاء، وفاته سنة 476 هـ، له ترجمة =
يلزمه الاستدلال عليه.
قال ابن الحاجب وهو بعيد. وقد صدق في ذلك.
وإذا علمت أن الأظهر عدم انقطاعه بذلك فاعلم أن جواب المستدل عن منع حكم الأصل هو إثباته [حكمه]
(1)
بدليل.
والجواب عن منعه وجود الوصف في الأصل هو إثباث وجوده فيه بما لو طريق ثبوت مثله؛ لأن الوصف قد يكون حسيًا فيثبتُه بالحس، وقد يكون عقليًا فيثبثُه بالعقل، وقد يكون شرعيًا فيثبتُه بالشرع.
ومثال الثلاثة المذكورة ما لو قال في القتلِ بالمثقَّل: قتل عمد عدوان، فلو قيل (لا نسلم أنَّه قتل) أجاب عنه بأن القتل ثابت بالحس الذي هو رؤيته بالحاسة، ولو قيل (لا نسلم أنَّه عمد) فالجوأب بأن العقل علم أنَّه عمد بالقرائن والأمارات المحتفّة به، التي لا تترك لبسًا في أنَّه عمد، وإن قيل (لا نسلم أنَّه عدوان) فالجواب بأن الشرع حرّمه وجعله من العدوان.
والجواب عن منع كونه علةً بإثبات كونه علة، كما لو قال المالكي للشافعي: أمنع كون الطَّعم علةَ الرِّبَا في البُرّ. فيثبت الشَّافعي كونَه علة، كأن يقول مثلًا: ملء كف من البر فيه الرِّبَا، وهو غير مكيل ولا مقتات ولا مدخر؛ لقلته، ولكنه مطعوم، فعُلم استقلال الطُّعم بالعلّية دون الأوصاف الأخرى.
= حافلة في سير أعلام النبلاء للذهبي (18/ 452 - 464).
(1)
في المطبوع: (حكم)، والسياق يقتضي ما أثبت.
وكأن يقول الشَّافعي في المثال المذكور: حديث معمر بنُ عبدِ الله عند مسلم قال: كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الطَّعام بالطعام مثلًا بمثل" الحديث
(1)
، يدل بمسلك الإيماء والتنبيه على أن الطَّعم هو علة الرِّبَا في المطعومات. وقصدنا مطلق المثال لا مناقشة أدلة الأقوال.
والجواب عن منع وجود العلة في الفرع هو إثبات وجودها فيه، كقول الجمهور: الحرز في السرقة يتنوّع بتنوع المسروق، فالإصطبل مثلًا حرز للدواب وليس حرزا للدنانير، والصندوق حرز للدنانير وليس حرزًا للدواب، وبذلك التنوع يُعلم أن القبر حرز للكفَن؛ لأنه حرز مثله، فالعلة التي هي السرقة موجودة في الفرع الذي هو النباش.
وقد علمتَ أن المنع في الأصول كالمنع في البحث والمناظرة؛ لأن صاحب البحث والمناظرة يقول: أمنعُ مقدمةَ هذا الدليل مثلًا، والمعترضَ في الأصول يقول: أمنعُ حكمَ الأصل مثلًا، أو وجودَ العلة فيه، أو كونَها علة، أو وجودَها في الفرع.
وقد علمتَ مما مر أن القياس الأصولي راجعٌ للقياس المنطقي بالطريق التي أوضحناها سابقًا مرارًا
(2)
، فإذا رددت قياس الأصول إلى القياس المنطقي علمت أن مواقع المنع الأربعةَ في القياس الأصولي راجعةٌ إلى منع مقدمات الدليل المنطقي.
فلو قال الشَّافعي مثلَا: يحرم الرِّبَا في التفاح قياسًا على البُر بجامع
(1)
صحيح مسلم برقم (1592).
(2)
راجع ص 291.
الطُعم، فقال المالكي أو الحنفي أو الحنبلي: أمنعُ كون العلة هي الطُعم، فإذا أحد مواقع المنع الأربعة في الأصول، وهو منع كون الوصف علة.
وهذا المنع في الحقيقة راجع إلى منع الكبرى في القياس المنطقي؛ لأنك لو رددتَه إلى القياس المنطقي فقلت: التفاح مطعوم، وكل مطعوم ربوي، ينتج من الشكل الأول: التفاح ربوي.
فيقول المالكي أو الحنفي مثلًا: أمنعُ المقدمة الكبرى، وهي قولك (وكل مطعوم ربوي)؛ لأن علة الرِّبَا في المطعومات ليست هي الطُعم، بل هي الكيل أو الاقتيات والادخار، وقس على هذا المثال باقيَها؛ فإن المقام لا يقتضي بسط أمثلة الجميع.