الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فمد الرشيد يده إليه، وقال: مرحباً بك يا يوسف، كيف كنت بعدي؟ ادن مني، فدنا، وأمر له بفرس فركبه، وسار إلى جانب قبته ينشده والرشيد يضحك، وكان طيب الحديث، ثم أمر له بمال، وأمر بأن يغنى في الأبيات.
أبان بن عبد الحميد اللاحقي
خرج من البصرة يطلب الاتصال بالبرامكة، وكان الفضل بن يحيى غائباً، فقصده وأقام ببابه مدة مديدةً، لا يصل إليه، فتوسل إلى بعض بني هاشم ممن شخص مع الفضل في أن يوصل إليه شعراً، وقال فيه:
يا غزيز الندى ويا جوهر الجو
…
هر من آل هاشمٍ في البطاح
إنّ ظنّي ولست تخلف ظنّي
…
بك في حاجتي سبيل نجاحي
إنّ من دوننا لمصمت بابٍ
…
أنت من دون قفله مفتاحي
فقال له: هات مديحك، فأعطاه شعراً في الفضل في هذا الوزن وقافيته، منه:
أنا من بغية الأمير وكنزٌ
…
من كنوز البيان ذو أرباح
كاتبٌ حاسبٌ خطيبٌ أديبٌ
…
ناصحٌ زائدٌ على النّصّاح
شاعرٌ مفلقٌ أخفّ من الرّي
…
شة ممّا يكون تحت الجناح
لو دعاني الأمير أبصر منّي
…
شمّرياً كالجلجل الصيّاح
فدعا به ووصله، وقدم معه.
وحكى ابن عبد ربه، عن إبراهيم بن محمد الشيباني أبي اليسر الكاتب قال: رفع أبان بن عبد الحميد اللاحقي إلى الفضل بن يحيى بن خالد رقعةً
بأبيات له، وذكر منها ما تقدم وزاد:
لست بالضخم في رؤاي ولا الفد
…
م ولا بالمجحدر
لحيةٌ كثّةٌ وأنفٌ طويلٌ
…
واتّقادٌ كشعلة المصباح
لست بالنّاسك المشمّر ثوبي
…
هـ ولا الفاتك الخليع الوقاح
فدعا به، فلما دخل عليه، أتاه كتاب من أرمينية، فرمى به إليه، وقال له: أجب عنه! فأجاب في غرضه، فأمر له بألف ألف درهم، وكان أول داخل وآخر خارج، وإذا ركب فركابه مع ركابه، قال: فبلغ هذا الشعر أبا نواس فقال:
إن أولى بقلة الحظّ منّي
…
للمسمى بالجلجل الصيّاح
لم يكن فيك غير شيئين ممّا
…
قلت في نعت خلقك الدّحداح
لحيةٌ كثّةٌ وأنفٌ طويلٌ
…
وسوى ذاك ذاهبٌ في الرياح
فيك ما يحمل الملوك على السّخ
…
ف ويزري بالماجد الجحجاح
بارد الظرف مظلم الكذب تيّا
…
هٌ معيد الحديث سمج المزاح
فبعث إليه أبان: لا تذعها وخذ الألف ألف درهم، فبعث إليه أبو نواس: لو أعطيتني مائة ألف ألف ما كان بد من إذاعتها! فيقال إن الفضل بن يحيى لما سمع شعر أبي نواس قال: لا حاجة لي في أبان، قد رمي بخمس في بيت، لا يقبله على واحدة منهن إلا جاهل! فقيل له: كذب عليه! فقال: قد قيل ذلك، فأقصاه. كذا قال الشيباني، فإن يك صحيحاً، فقد أعتبه، وعاود فيه مذهبه.
قال أبو الفرج الأصبهاني، وذكر أبان: خص بالفضل وقدم معه، فقرب من قلب يحيى بن خالد، وصار صاحب الجماعة، وذا أمرهم؛ ويقال إنه عاتب البرامكة على تركهم إيصاله إلى الرشيد وإيصال مديحه إليه، فقالوا له: وما تريد من ذلك؟ قال: أريد أن أحظى منه بمثل ما حظي به مروان
ابن أبي حفصة، فقالوا: إن لذلك مذهباً في هجاء آل أبي طالب وذمهم، به يحظى، وعليه يعطى، فاسلكه حتى نفعل، قال: لا أستحل ذلك، قالوا: فما تصنع؟ لا يجيء طلب الدنيا إلا بفعل ما لا يحل! فقال أبان من قصيدة:
نشدت بحقّ الله من كان مسلماً
…
أعمّ بما قد قلته العجم والعرب
أعمّ رسول الله أقرب زلفةً
…
إليه أم ابن العمّ في رتبة النّسب
وأيّهما أولى به وبعهده
…
ومن ذا له حقّ التراث بما وجب
فإن كان عباسٌ أحقّ بتلكم
…
وكان عليٌّ بعد ذاك على سبب
فأبناء عبّاسٍ هم يرثونه
…
كما العمّ لابن العمّ في الإرث قد حجب
فقال له الفضل: ما يرد اليوم على أمير المؤمنين أعجب من أبياتك! وركب فأنشدها الرشيد، فأمر لأبان بعشرين ألف درهم، واتصل مدحه للرشيد بعد ذلك وخص به.
وأما هجاء أبي نواس لأبان، فإن يحيى بن خالد كان قد جعل أمر الشعراء وامتحان أشعارهم وترتيبهم في الجوائز إلى أبان، فلم ترض أبا نواس المرتبة
التي جعله فيها، فقال يهجوه من أبيات:
جالست يوماً أباناً
…
لا درّ درّ أبان
فجاوبه أبان بما أقذع فيه.
ولم يذكر أبو الفرج فيما أورد من أخباره تغير البرامكة عليه، ولا إحالة عندهم لحاله، بل حكى أن مروان بن أبي حفصة شكا إلى بعض إخوانه تغير الرشيد عليه وإمساكه يده عنه، فقال له: ويحك أتشكو الرشيد بعد ما أعطاك وأغناك! قال: ويحك أتعجب من ذلك، هذا أبان اللاحقي قد أخذ من البرامكة بقصيدة قالها واحدة، مثل ما أخذته من الرشيد في دهري كله، سوى ما أخذه منهم ومن أشباههم بعدها.
وكان أبان نقل للبرامكة كتاب كليلة ودمنة فجعله شعراً ليسهل حفظه عليهم، وهو معروف، فأعطاه يحيى عشرة آلاف دينار، وأعطاه الفضل خمسة آلاف دينار. قال الصولي: فتصدق أبان بثلث المال، خمسة آلاف دينار لأنه كان حسن السريرة حافظاً للقرآن.