الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال: وأخذ والدك الرقعة فلما رأى التوقيع تمادى على ما بدأ به من الأمر بإطلاقه، ونظر إليه المنصور متمادياً على الكتابة، فقال: ما تكتب؟ قال: بإطلاق الرجل، فغضب غضباً شديداً أشد من الأول، وقال: من أمرك بهذا؟ فناوله الرقعة، فرأى خطه، فخط على ما كتب، وأراد أن يكتب يصلب فكتب يطلق فأخذ والدك الكتاب فنظر ما وقع به، ثم تمادى على ما كان بدأ به، فقال له: ماذا تكتب؟ قال: بإطلاق الرجل، وهذا الخط ثالثاً، فلما رآه عجب وقال: نعم يطلق على رغمي، فمن أراد الله إطلاقه لا أقدر أنا على منعه! أو كما قال.
عبد الملك بن إدريس الجزيري
عتب عليه المنصور أبو عامر محمد بن عبد الله بن أبي عامر، وكان في الغاية من البيان والخطابة، فصرفه عن الكتابة، ثم أخرجه من قرطبة واعتقله بإحدى القلاع المنيعة بشرق الأندلس، فقال في ذلك:
قالوا جفاه ثلاثاً ثم غرّبه
…
فليس يرجو لديه حظوةً أبدا
جاروا وما عدلوا في القول بل حكموا
…
على المقادير جهلاً لا هدوا رشدا
أليس يوقد نصل السيف ضاربه
…
قبل الصّقال مراراً جمّةً عددا
حتى إذا ما سقى حدّيه ريّهما
…
واهتّز لدناً دعاه الصارم الفردا
وما المهذّب إلاّ من تعرّقه
…
زمانه مخطئاً طوراً ومعتمدا
من لم يذق طعم بؤساه وشدتها
…
لم يدر لذّة نعماه ولا وجدا
ودون هذا الذي قالوه أقضيةٌ
…
لله في حكمه لم يؤتها أحدا
لا بد للقدر المقدور من أمدٍ
…
يلقاك فيه على حتمٍ وإن بعدا
وكتب من معتقله قصيدتة المشهورة في الناس وأولها:
ألوى بعزم تجلّدي وتصبّري
…
نأي الأحبة واعتياد تذكّر
يقول فيها:
وأعلم بأن العلم أفضل رتبةٍ
…
وأجل مكتسبٍ وأسنى مفخر
فاسلك سبيل المقتنين له تسد
…
إنّ السيادة تقتنى بالدفتر
وبضمّر الأقلام يبلغ أهلها
…
ما ليس يبلغ بالجياد الضّمّر
وفيها يقول أيضاً يصف المعقل الذي حبس فيه:
في رأس أجرد شاهقٍ عالي الذّرى
…
ما بعده لموحّدٍ من معمر
يأوي إليه كل أعور ناعبٍ
…
وتهبّ فيه كلّ ريح صرصر
ويكاد من يرقى إليه مرةً
…
في عمره يشكو انقطاع الأبهر
وفي آخرها يخاطب بنيه:
لا تسأموا إحضاره رغباتكم
…
فهباته مبسوطةٌ لم تحظر
وعسى رضى المنصور يسفر وجهه
…
فيديل من وجه الفراق الأغبر
فرق له المنصور لما سمع هذا البيت، وكان سبباً إلى العفو عنه والإحسان إليه.
وقال ابن حيان، وذكر قصة ابن حزم الوزير مع ابن أبي عامر في إدلاله المفضي به إلى إذلاله: وفي مثل هذا السبيل كان غضبه على كاتبه عبد الملك بن إدريس المعروف بالجزيري وإقصاؤه له مرةً بعد مرة وتسييره له إلى طرطوشة وكان أكثر من يشركه أعطالاً من الآداب العربية لتوفرهم على علم العدد، وانهما كهم في التعاليم الديوانية التي استدروا بها الجباية وحصلوا بها المراتب العالية، فكان
الجزيري يزري بهم ويحب الاشتمال على ابن أبي عامر، ويتصور فرط حاجته إليه في الإنشاء، ولم يكن من شأنهم، فسخط عليه المنصور، وأقصاه عن حضرته على فرط حاجته إلى خدمته، وقلد كاتبه على الحشم ديوان الرسائل، فاستجزأ به لذهاب مشيخة كتاب الرسائل في الوقت، ورضي بعد ذلك عن عبد الملك لما حمد حاله في الرياضة، ولم يزل يتولى له ديوان الرسائل إلى أن هلك المنصور.
ويقال: إن المنصور سجنه في مطبق الزاهرة مدة، فاستعطفه من الرسائل والأشعار بما أثمر تسريحه، فكتب إليه:
عجبت من عفو أبي عامر
…
لا بدّ أن تتبعه منّه
كذلك الله إذا ما عفا
…
عن عبده أدخله الجنّه
فسر المنصور بذلك، وأعاده إلى حاله، وأطلق له ما اعتقل من ماله، ثم استوزره بعده المظفر عبد الملك بن محمد بن أبي عامر.