الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أغنى وأجزى وأكفى مني، ومن أنا فيمن عضده الله تعالى به، وأعطاه من كفاته؟ فبلغ هذا الكلام من الفضل كل مبلغ، وقام مغضباً.. فوجه عبد الله بن مالك الخزاعي إلى عيسى أن مسيري إليك لو كان يستتر لسرت إليك، ولكني أُحب أن تسير إلي، فسار إليه، فلما رآه قال له: إني أردت إتيانك لشيء أُحب فعله، قال: فليقل الأمير ما أحب! فنهض إليه وقبل بين عينيه، وقال: شفيتني من العلج في كل ما كلمته به، ولكن الذي غاظه وبلغ منه غاية المساءة آخر كلامك!.. ثم انصرف مكرماً.
وكان الفضل مهيباً حليما، وقال لبعض من استحجبه: إنك قد صرت حاجبي وتسمع مني السر والعلانية، وربما ذكرت الرجل واسأت ذكره، فلا يؤثرن ذلك فيك، ولا تتغيرن له، فلعل ذلك غاية عقوبتنا إياه.
ميمون بن إبراهيم
حكى الزبيدي في كتاب طبقات النحويين من تأليفه عن أبي العباس ثعلب، عن ابن قادم أستاذه قال: وجه إلي إسحق يعني ابن إبراهيم
المصعبي يوماً، فأحضرني ولم أدر ما السبب، فلما قربت من مجلسه، تلقاني ميمون بن إبراهيم كاتبه على الرسائل، وهو على غاية الهلع والجزع، فقال لي بصوت خفي: إنه إسحق!! ومر غير متلبث ولا متوقف، حتى رجع إلى مجلس إسحق، فراعني ذلك، فلما مثلت بين يديه قال لي: كيف يقال: وهذا المال مال أو هذا المال مالاً؟ قال: فعلمت ما أراد ميمون، فقلت له: الوجه وهذا المال مال، ويجوز: وهذا المال مالاً؛ فأقبل إسحق على ميمون بغلظة وفظاظة ثم قال: الزم الوجه في كتبك ودعنا من يجوز ويجوز! ورمى إلي بكتاب كان في يده، فسألت عن الخبر، فإذا ميمون قد كتب إلى المأمون وهو ببلاد الروم عن إسحق، وذكر مالاً حمله إليه، فكتب: وهذا المال مالاً فخط المأمون على الموضع من الكتاب، ووقع بخطه في حاشيته: تكاتبني بلحن! فقامت القيامة على إسحق، فكان ميمون بعد ذلك يقول: لا أدري كيف أشكر ابن قادم، بقى علي روحي ونعمتي. قال أبو العباس ثعلب: فكان هذا مقدار العلم، وعلى حسب ذلك كانت الرغبة فيه، والحذر من الزلل، قال: وهذا المال مالاً ليس بشيء، ولكن أحسن ابن قادم في التأتي لخلاص ميمون.
ويشبه هذا الخبر ما حكى الجاحظ، أن الحصين بن أبي الحر كتب إلى عمر
رضي الله عنه كتاباً، فلحن في حرف منه، فكتب إليه عمر أن قنع كاتبك سوطاً. وفي كتاب ابن عبدوس: أن عمر وجد في كتاب لأبي موسى الأشعري لحناً، فكتب إليه بذلك. وخالف ابن عبدوس أبو جعفر بن النحاس فروى أن كاتباً لأبي موسى كتب إلى عمر: من أبو موسى، فكتب إليه عمر أن اضربه خمسين سوطاً واعزله عن عملك؛ إلا أن تكون القضيتان لكاتب واحد.
وقال المأمون لبعض ولده، وسمع منه لحناً: ما على أحدكم أن يتعلم العربية فيقيم بها أوده ويزين مشهده، ويفل حجج خصمه بمسكتات حكمه، ويملك مجلس سلطانه بظاهر بيانه. أيسر أحدكم أن يكون لسانه كلسان أمته أو عبده فلا يزال الدهر أسير كلمته!. ويروى أنه كان يتفقد ما يكتب به الكتاب، فيسقط من لحن، ويحط مقدار من أتى بما غيره أجود منه في العربية؛ وكان يقول: إياكم والشونيز في كتبكم؛ يعني النقط والإعجام. وقال محمد بن عبد الله ابن طاهر، وقد رفعت إليه قصة أكثر صاحبها إعجامها: ما أحسن ما كتب إلا أنه أكثر شونيزها! وكان سعيد بن حميد يقول: لأن يشكل الحرف على القارئ أحب إلي من أن يعاب الكاتب بالشكل، فإذا كرهوا الإعجام والشكل فما ظنك باللحن! إلا أن ترك ذلك قد يورث إشكالاً.
حكى الماوردي عن قدامة بن جعفر أن بعض كتاب الدواوين حاسب عاملاً لعبيد الله بن سليمان بن وهب، فشكا منه إلى عبيد الله، وكتب رقعةً يحتج فيها بصحة دعواه ووضوح شكواه، فوقع فيها عبيد الله: هدا هدا فأخذها العامل وظن أن عبيد الله أراد: هذا هذا إثباتاً لصحة دعواه، كما يقال في إثبات الشيء: هو هو فحمل الرقعة إلى كاتب الديوان، وأراه خط أبي عبد الله وقال: إنه صدق قولي وصحح ما ذكرت! فخفي على الكاتب ذلك، وطيف به على كتاب الدواوين، فلم يقفوا على مراده، فشدد عبيد الله الكلمة الثانية وكتب تحتها: والله المستعان! استعظاماً منه لتقصيرهم في استخراج مراده حتى احتاج إلى إيضاح مراده بالنقط والشكل.
وكان عبد الله بن طاهر يفرط في تفقد المخاطبات عنه وإليه، ويتوعد عليها، ويعاقب فيها. قال لكاتب له أمره بشيء يعمله: إحذر أن تخطئ فأعاقبك بكذا وكذا.. وذكر أمراً عظيماً، فقال له الكاتب: أيها الأمير فمن كانت هذه عقوبته على الخطأ فما ثوابه على الإصابة؟.. وكتب إليه بعض عماله على العراق كتاباً صحائفه غليظة، فأمر عبد الله بإشخاص كاتب العامل إليه، فلما ورد عليه