الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإن جرت الألفاظ يوماً بمدحةٍ
…
لغيرك سلطاناً فأنت الذي نعني
أبو عبد الله بن نخيل
لما أتاح الله صلاح الأمم، وإيضاح الأمم بهذه الإمارة المطاعة، وأباح لإفريقية أن تراح من عذاب الفرقة برحمة الجماعة، قلد ملكها وسلطانها، ليعمر بالهداية أوطانها، ويدحر حزب الغواية وشيطانها، صفوة الأملاك ونكتة الأفلاك، الذي ضحكت الآناء لما اعتدلت بشيمه، وبكت السماء لما أكلت الأرض من كرمه، الأمير المعظم الأعلى المجاهد المقدس الأرضى المطهر المرحوم أبا محمد، سقى الله سحب الرضوان ضريحه، وقدس مثواه المستودع من المجد لبابه ومن الجود صريحه، فدفع كل ضر ورض، وأطلع لمحاورتي سنة وفرض، ومحاولتي بسط وقبض " ذُريّةً بعضُها من بعض "؛ ملوك بهاليل، ليس إلا عمائمهم تيجان وأكاليل، راضون في الله غضاب، كأنهم تحت الحبى هضاب، للقرى والقراع خبهم وإيضاعهم. وبالخطيات، واليراع توقيعهم وإيقاعهم، يبدأون بحق الله ثم النائل، ويحقنون حتى ماء وجه السائل، باء
الكملة بالنقص عن كمالاتهم، وجاء ما أدرج حمالة حاتم وحلم قيس بن عاصم من حلومهم وحمالاتهم:
غطاريف من قومٍ ثوى الملك فيهم
…
فلم يبق من بعد الحلول ترحّلا
أُصولهم منصورةٌ بفروعهم
…
إذا قام منهم آخرٌ كان أوّلا
فما يشهدون الحرب إلاّ إذا غلت
…
ولا يشترون الحمد إلاّ إذا غلا
جدوا وجادوا، وشدوا كما شاءوا وشادوا، وفعلوا مثل ما فعلت أوائلهم وزادوا، فطفيء جمر الهياج المشبوب، ويجيء عقب المكروه المحبوب، وأصبح الثأي وهو المرءوب، والصنيع وهو المربوب، وذلك من سنة ثلاث وستمائة إلى عامنا هذا الموفي أربعين حجةً، وردت فيها السخلة مع الضرغام، وردت شامخات المعاطس حليفة الرغام، إلا برهةً غاب عنها منازلو أُسد الغاب، ومساجلو البحار والسحاب، بالمنن الرغاب، فبودرت عندها بالحرب والحرب، وغودرت وحشة الساحات والرحب، ثم
عاد الرمي إلى النزعة، وفرج الله الضيقة والزلزال بالسعة والدعة، واستوسع بعدها نطاق الملك، وعاد أهل المغرب والأندلس بالنجاة من الهلك، فأرزت إلى هذه الحضرة العلية البلدان، كما يأرز إلى المدينة النبوية الإيمان، وما هي إلا الخلافة حقاً، عم إشراق نورها غرباً وشرقاً، لما أقامت الدين، وقامت بكلمة الموحدين، فانتظمت الأرجاء والآفاق، وحسمت الشقاق والنفاق، وما عدت الإجماع والإصفاق.
وكان ابن نخيل لأول هذه الإيالة المباركة ممن فاز بقدح النباهة المعلى، وعاد بعد العطل من الوجاهة المحلى، نقلته السعادة من ديوان الأعمال إلى ديوان الرسائل، وأعلقته بأعظم الحرمات وأشرف الوسائل، فأجاد الإنشاء وتبوأ من رفيعات المراتب حيث شاء، مفرداً لخلوص الحماية وجموحها، ومعتمداً بخصوص العناية وعمومها، لا استثناء عليه في توقيع، ولا اقتصار به على ترفيع، وهذه فصول من رسالته السلطانية في وقيعة شيذو من نواحي سبتة منتصف صفر سنة أربع وستمائة، وقد انتصر الحق من الباطل، ففرق جموعه، وأذهب بسطوته الغالبة ودعوته العالية جميعه، وأيد الله طائفة التوحيد على حزب الشيطان المريد، تأييداً أراق بسيفه القاصل نجيعه، وبين لكل ذي بصر سديد وسمع شهيد أن هذا
الأمر هو أمر الله الذي لا يزال نافذ الأقدار في الإيراد والإصدار مطيعه، وأن عدوه وإن تراخى به الأمد فلا بد أن ينزل موعده الصادق منيعه، ويحط رفيعه، والحمد لله على ذلك حمداً يستمد وحي النصر المؤزر والفتح المدخر وسريعه.
ومنها في ذكر الشقي الميورقي: فحشد من قبائل دباب وزغب ونفات، ومن انقاد إليهم من برابر تلك الجهات، من قادهم إليه الحين بزمام الخدع والترهات، وأقبل بمن التف عليه من أولئكم الطغام، وبقايا الاجتياح والاصطلام، يتقرى المنازر والمناهل، ويوهم بكثرة من جمعه من هذه القبائل، وخرج الموحدون إليهم مستعينين بالله وبما عوده من النصر عليهم، فلما حققوا عزمهم وصححوا في التصميم نحوهم علمهم، ورأوا أنهم فوقوا لثغرهم المثغورة أسهمهم، طار بهم الفرار، ونبا بهم القرار، وولوا سراعاً لا يستبد بسيرهم دون الليل النهار، والموحدون أعزهم الله ينتظرون الوقت الذي لا يبعد مداه في هلاكهم، ولا يفلتون منه بعد إدراكهم، فلما تراءى الجمعان، وضاق متسع المجال عن الدماء والطعان، وشيمت السيوف كالبوارق الخواطف في اللمعان، وحملت الكتائب على الكتائب كالرعان على الرعان، جرى الموحدون أعزهم الله على عادة صبرهم، فعرفهم الله ما أحبوه من عوائده الكريمة مع
أميرهم، فلم يكن إلا لمحة بارق، أو خلسة مسارق، حتى استلحمت السيوف أحزاب الضلال، وتبرأ منهم رجيمهم المغرور تبرؤ من كان وعدهم بالمحال، فقتلوا مئين وعشرات وآحاداً، وفر غويهم الشقي جريحاً لم يصحبه من ذلك الجم إلا فرادى، وامتلأت الأيدي من غنائمهم فهي تشل في حزن وسهل سوقاً وطراداً، وكفلت الموحدين عناية الله تعالى، فلم ينل العدو منهم نيلاً، ولم يمل الضرر عليهم ميلاً، بل أشوت سهامه، وخاب والحمد لله أمله ومرامه، ولم يبق من هذا العدو إلا ذماء، ولقد ظل بعد هذه الوقيعة لا تحميه مع العرب أرض ولا سماء، فإنه أتى في هذه الحركة منهم بمن لم يطر له قبل بجناب، واستهوى بحبالاته الكاذبة وآماله الذاهبة من عاد لأرضه بجريعة الذقن ولم يعد شاب ولا تاب، وترك الحلائل في المحامل تتوزعها أيدي الناهبين فلا تدركه حفيظة الانتهاب، وطالعناكم بهذه المسرة العظمى والموهبة الكبرى عشي اليوم المشهود والوقت المحمود، لتحمدوا الله بجميع محامده وتشكروه، وتذيعوا بلاءه الجميل لكم ولكافة المسلمين على أيدي أوليائهم الموحدين وتنشروه.
ومن رسالته السلطانية أيضاً في الوقيعة الكبرى بوادي أبي موسى سنة ست وستمائة: وإلى ذلكم وصل الله بالنجاح أسباب آمالكم، وختم بالفلاح صحائف أعمالكم، فإن الموحدين أعزهم الله لما قفلوا من حركتهم الأولى إلى ديارهم، وانصرفوا من تمام أغراضهم في اتباع الأعداء وأوطارهم، أقبل هذا العدو الأشقى فيمن التف عليه من غدرة بني رياح كفرة النعمى، يؤمون هذه الجهة الإفريقية حنيناً إليها، وصبابة لم تزل تعطف عليها، ظناً منهم أن هذه العصابة المنصورة، والجماعة المحمودة في سبيل الله المشكورة، قد ألقت عصا التسيار، وأخلدت إلى الراحة من طول السفار، وكانت قد تلقتهم بأطراف الزاب جماعة بني مالك مزيدة وجموع دياب، فقوت رجاءهم في الهجوم على البلاد، وصدقت أملهم الكاذب فيما عزموا عليه من الفساد، فأخذ الموحدون أعزهم الله في الحركة إليهم، والورود بحول الله وقوته عليهم، بعزائم لا تثني بالأمل، وحفائظ لا ترضى بالقول دون العمل، حتى نزلوا القيروان، وهي قطب منازل الأعراب ومراد سوامهم عند ازدحامهم في مثل هذه الأحوال الصعاب، والأعداء حينئذ نزلوا بظاهر قفصة يرتقبون ورود بقية دباب من طرابلس إجابة لما قدموه من ندائهم، وإهابةً بهم إلى إعادتهم في الفساد وإبدائهم،
وأقبلت عصابة التوحيد على استدعاء من ألفته من عوف والشريد، وندبهم إلى أن يأخذوا بحظهم من خدمة هذا الأمر السعيد، وطلبوا بأن يحضروا بالأهل والمال، ليلقوا أكفاءهم في مثل تلكم الهيئة والحال، وللعرب عادات في الرحيل جميعاً، لا تعطي الخفوف إلى المقصود سريعاً، فسار بهم الموحدون على هيئتهم في التواني سيراً، ولم يذعروا لهم بإخراجهم عن معتادهم طيراً، ولما سمع الأعداء برحيلهم من القيروان رحلوا من قفصة إلى الحمة يبرقون ويرعدون، ويهددون باللقاء ويوعدون، ثم عطفوا من هنالكم على نفزاوة ليتقوتوا من ثمراتها، ويستدروا ريثما تصلهم أمدادهم أخلاف خيراتها، فلما أبطأ رسولهم، وتقلص بطول الانتظار مأمولهم، انصرفوا على أدراجهم إلى زميط فقطعوا حزن دمر مسلمين للدمار، ونزلوا من شعفات الجبال إلى قرار البوار، وعجل الموحدون إليهم فوردوا قابس والأرض تحرق من بأسهم، وذبالات الذوابل أضوأُ في سماء العجاج من شمسهم، وعون الله يحقق عندهم في يومهم ما مد لهم من النصرة في أمسهم، فلما تجهزوا منها بجهازهم، واستكملوا ما عليه عولوا من تمييزهم وتفرغوا لنجازهم، ثنوا للأعداء أعنة الجياد، وأقبلوا وهم من صرائم
العزائم أمضى من البيض الحداد، وقطعوا لهم المراحل شفعاً، لا يذوقون النوم إلا غراراً مثل حسو الطير ماء الثماد، فجعلوا يستدرجون عزائم التوحيد وحادي المنايا يحدوهم إلى مضاجعهم أن انزلوها، ولسان القضاء المقدور يخاطب المشرفيات الذكور، أن حطوا عن منازل الكواهل رءوس رؤساء الباطل واستنزلوها، وكان مرامهم في هذا المطال بالنزال، والوقوف للحتوف أن تنفد أزودة الموحدين وعلوفاتهم، ريثما يلحق بهم من استدعوا ليعودوا من الهرب إلى الطلب، ويحلوا منزلة الفائز بالغلب وحسن المنقلب " ويأبى الله إلاّ أنْ يُتمَّ نُورَه "، ويكمل لأمره العظيم في الأعداء أُموره، ولم يعلموا ان لله بهذه العصابة المجاهدة عن حريم البلاد، الكافة أيدي هؤلاء الأحزاب المراد، عنايةً لا يفتقرون بها إلى الأزواد، ورعايةً تحميهم من النوب الشداد، وتؤويهم من فضله وإحسانه إلى أرحب جناب وأرغب عتاد، ولم يزل ذلك دأبهم، وما انفك إعلانهم بالمقابلة بكتم قربهم حتى حلوا بمنهل يعرف بوادي أبي موسى من سفح جبل نفوسة وفيه أتاهم من نفات وآل سليمان وآل سالم وجموع وافرة
من الأعراب وأحلافها الأعاجم ما سال أتيهم بالدهم الداهم، وأعجبتهم كثرتهم فلم تغن عنهم شيئاً وكأنما اجتمعوا للهزائم، فعاجوا من هنالكم وقد بيتوا بزعمهم ما لا يرضى من القول، وبرئوا لحولهم من القوة والحول، وضمن الغدرة من بني رياح مع شقيهم لقاء عصابة التوحيد، وزعموا له أنهم حديد العرب، ولا يفلح الحديد إلا بالحديد، وتركوا دباباً ومن التف بها لعوف وأحلافها والشريد، وأتوا بربات الخدور في الهوادج كالأزهار في الكمائم وقدموا من حمر النعم وسودها ما صار الدو بتموجها كالبحر المتلاطم، وجاءوا بزهوهم وبأوهم يزفون زفيفاً، ويسمعون من رعود الوعيد قصيفاً، ومن نيوب الحروب صريفاً، واستدعى الموحدون من ربهم
نصره المعهود، واستمدوا طوله المحمود، وعولوا على حوله وقوته لا على العدد والعديد، واستلأموا غدران الدروع تحت جداول المداوس، وتهللت بالنصر وجوههم فكانوا كالأقمار في شموس القوانس، وتنكبوا من أراقم القسي ألدغ على البعد من حيات البسابس، وتأبطوا كل خطار تطرد كعوبه، قد ركب فيه نجم ولكن في ثغر البحار غروبه، وساروا لعدوهم كأنهم بنيان مرصوص، وتيقنوا أن نصر الله بالصابرين المحتسبين مخصوص، وكان يوم ضباب، وشمسه من قوام الغمام في حجاب، فلما تعالت في فلكها، وانقادت في زمام الاستسلام إلى ملكها، ورمقت من خلال غيمها ظهرت كتائب الباطل سوداً كقلوب أهلها، وقد مالت الأرض طولاً وعرضاً بخيلها ورجلها، فحمل الموحدون عليهم حملةً أزالتهم عن مصافهم فولى شقيهم منهزماً لأول دفعة، ولم يطق وقوفاً عندما رأى من بوارق الخوافق لمعة!. هـ المعهود، واستمدوا طوله المحمود، وعولوا على حوله وقوته لا على العدد والعديد، واستلأموا غدران الدروع تحت جداول المداوس، وتهللت بالنصر وجوههم فكانوا كالأقمار في شموس القوانس، وتنكبوا من أراقم القسي ألدغ على البعد من حيات البسابس، وتأبطوا كل خطار تطرد كعوبه، قد ركب فيه نجم ولكن في ثغر البحار غروبه، وساروا لعدوهم كأنهم بنيان مرصوص، وتيقنوا أن نصر الله بالصابرين المحتسبين مخصوص، وكان يوم ضباب، وشمسه من قوام
الغمام في حجاب، فلما تعالت في فلكها، وانقادت في زمام الاستسلام إلى ملكها، ورمقت من خلال غيمها ظهرت كتائب الباطل سوداً كقلوب أهلها، وقد مالت الأرض طولاً وعرضاً بخيلها ورجلها، فحمل الموحدون عليهم حملةً أزالتهم عن مصافهم فولى شقيهم منهزماً لأول دفعة، ولم يطق وقوفاً عندما رأى من بوارق الخوافق لمعة!.
ومنها: واستحر القتل في كثير من زعمائهم ورؤسائهم، ومات كل مذكور من شجعانهم وحمسائهم، واستحوذت القبائل على أموالهم وولدانهم ونسائهم، ونجا الشقي في نفر قليل إلى جهة الإبل، فاتخذها حصناً، وجعلها لبناء فراره من زلازل الجحافل ركناً، وحف من حف من الموحدين والعرب به فلم يبرحوا يتنسفون ما اعتصم به من النعم نسفاً، ويسومونه في نفسه وأصحابه خسفاً، ولم يصرفهم عنه إلا إقبال الليل، وما انسحب له على الآفاق من ذيل!.
ومنها: وكانوا قد قدموا الهوادج أمام الآبال، ودبروا أن تكون لهم حمى يرشقون من يريدها من خللها كالنبال، وقد قيل النساء أغلال الرجال، والحريم مظنة الآجال، فكروا عندها مستميتين، ودافعوا عنها للنفوس الدنية منها مفيتين، ولم يزالوا في أثناء انهزامهم يعطفون عند خدورهم، وأنامل العوامل تجذب أرواحهم من صدورهم، وبساط ما قدموه من أموال وعيال يطوى بقبضهم، وجانب الحق يعلو كلما جد الجد في خفضهم، وقبائل الموحدين على
راياتهم تركض في آثارهم، حتى أسلموا ما كانوا عنه يدافعون قهراً، وأسالت جداول المناصل من دمائهم نهراً.
ومنها: ولم ينج عدو الله إلا بذمائه، وغادر في المعترك وجوه أهله وقرابته وأصحابه وأحبائه، فما رأى يوماً قط أشد منه عليه، ولا انتهى به الأمر مذ كان إلى ما انتهى به الآن إليه، والموحدون على أولهم في طلابه، والولوج عليه حيث يمم من أبوابه!.
وبلغ ابن نخيل ما ليس عليه مزيد من الارتفاع المشيد، وغلب على مشرفه بالاصطناع غلبة جعفر على الرشيد، فنهى وأمر آمناً من التعقب، وأورد وأصدر نائماً عن الترقب، وقد فوض إليه في كافة الأمور، وقصرت عليه قصص الخاصة والجمهور، إلى أن كنف بالسعايات الممضة، وقذف باحتجان ما يخرج عن الحسبان من الذهب والفضة، فما أثرت في التقاص ثروته، ولا اعترت على انتقاص حظوته، بل صم عنها المجد الصميم سمعاً، وعم المنتسبين إليه والمتجنين عليه قبضاً وقمعاً، صوناً للنعمة المهنأة من تكديرها، وصرفاً للظنون السيئة عن تقديرها، حتى أقصر من بغى عليه كما انبغى، واستبصر في مظاهرته لما ظهرت له استحالة ما ابتغى، وكم أسمع بلسان الحلم والاحتمال مناصبيه ولا سنيه من كهل يفيض في
حديثه وحدث، جواب المأمون في الحسن بن سهل: الدنيا أقصر أمداً من أن تبلغ برجل منزلةً ثم تنقصه منها لغير حدث، وعلى حسن الرأي فيه حمله مدة سلطانه، وبصفايا أياديه أنهض أمله لإبلاغه في تأمل النعم وإمعانه، لا يسامح في أمره مناقشاً منافساً، ولا يفاتح بذكره راجياً تغيره إلا أسكته يائساً، إفادةً للمحافظة الملوكية على حفظ الحرمة، وزيادةً على ما حكى من كرم المشارطة في الصحبة والخدمة! ذكر أبو جعفر بن النحاس أن علي بن زيد الكاتب استصحبه بعض الملوك فقال علي: أصحبك على ثلاث، قال: وما هي؟ قال: لا تهتك لي ستراً، ولا تشتم لي عرضاً، ولا تقبل في قول قائل حتى تستبرأني، قال: هذا لك، فمالي عندك؟ قال: لا أُفشي سرك ولا أُؤخر عنك نصيحة ولا أُوثر عليك أحداً؛ قال: نعم الصاحب المستصحب أنت! فأين بواذخ المكرمات من هذه المكرمة الباذخة، والمأثرة اللائحة في الزمان البهيم كالشادخه، كلا لقد أعيت كلا، وأطلعها واحدة في الفضل الواحد فضلاً، ولما نزف منه بحر السماحة، ونسف بوفاته رضوان الله عليه طود الرجاحة، فانطوى الكمال المنشور، واستعسر النوال الميسور، أولاه بنوه الأمراء المعظمون المؤيدون المكرمون رضي الله عنهم ما ورثوه من مكارم الأخلاق، وتجافوا له عما جناه وحباه من أخاير الذخائر ونفائس الأعلاق، ولقد أصابه الدهر بما أصابه، وجرعه
بعدهم خطبانه وصابه، فأحضر في وقت ستمائة ألف دينار، سوى ما ظهر من حلي وآنية واثاث وكراع وعقار، هذا وسماحهم يستحقر له مقدارها، وتراثهم الكريم لا يبلغ معشارها، أبوا إلا أن يشبهوا أباهم، ورأوا خير ثيابهم ما كان على سواهم:
ذي المعالي فليعلون من تعالى
…
هكذا هكذا وإلاّ فلا لا
وأما الحضرة الإمامية فإعتاب الكتاب شأنها، لا برحت يباري البحر بنانها، ويباهي السحر بيانها، ما شئت من إقالة وإغضاء على بطالة، ومسامحة لحصر في وجازة وهذر في إطالة، لا تحوج أخا الذنب إلى الإعتذار، ولا تبتهج ابتهاجها بالعفو مع الإقتدار، كم حقنت من دم، وصفحت عن ذي ندم، وأخذت بيد في عثرة بقدم، وأرشدت من حيران لا يعرف متأخراً من متقدم، عائدة على المريب بترك التثريب، عود الشباب على المشيب، والرباب على الجديب، وعامدة إلى المليم بعطف الحليم، عمد الحباء إلى العديم، والشفاء إلى السقيم، فلا يأس من روح الله برجائها، ولا أرج للمحاسن ما لم تتضوع من أرجائها، رب جبر من إسجاحها عضده عيان، ولطف لإبقائها بعثه ليان؛ أما وحرمها العتيق وكرمها العريق ما لعدها عديل ولا من فضلها بديل، فكيف
لا أهيم برضاها وهو من الشقوة أمان! وأشيم بارق شيمها وهو للثروة ضمان! وإذا حكي أن النعمان بن المنذر لقي في يوم بؤسه شاباً من العرب رق لكلفه، وقد سأله لقاء ابنة عمه قبل تلفه، فقال: ومن يضمنك؟ قال: كاتبك هذا، ولم تكن بينهما معرفة؛ فقال النعمان: أتفعل على شريطة القتل إن أخلفك؟ قال نعم! فذهب الشاب وأتى في آخر النهار وقال للكاتب قم أُبرئك مما ضمنته، ودخلت معي تحته، وأتيا إلى النعمان، فعجب منهما وقال للشاب: ما الذي حملك على الانصراف إليه بعد ما أفلت منه؟ قال: خشيت أن يقال ذهب الوفاء! ثم قال للكاتب: وأنت ما حملك على ضمانه على أن أقتلك عنه؟ قال: خشيت أن يقال ذهب الكرم! فقال النعمان: وأنا قد عفوت عنه خشية أن يقال ذهب العفو! وأسقط يوم البؤس فلم يكن له يوم بؤس بعدها
…
فمالي لا أرجو إعادة النعيم بعادة الإنعام، وإسقاط الجفوة باقساط الاحترام، لا سيما وعذري إلى مولانا أيده الله عذر الذي استقال وقد مثل بين يدي مثله، وهيهات لا يوجد مثل له، فقال: إن كانت زلتي قد أحاطت بحرمتي فإن عفوك محيط بها، وكرمك موقوف عليها، وأنشد:
إني إليك سلمت كانت رحلتي
…
أرجو الإله وصفحك المبذولا