الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كلثوم بن عمرو العتابي
كان ممن جمع له البيان والخطابة والشعر الجيد والرسائل الفاخرة.
قال ابن عبد ربه: بلغني أن صديقاً لكلثوم العتابي أتاه يوماً فقال له: اصنع لي رسالة؛ فاستمد مدةً، ثم علق القلم، فقال له صاحبه: ما أرى بلاغتك إلا شاردةً عنك فقال له العتابي: إني لما تناولت القلم تداعت علي المعاني من كل جهة، فأحببت أن أترك كل معنى حتى يرجع إلى موضعه ثم أجتني لك أحسنها.
وهذا كما روي أن ابن المقفع كان كثيراً ما يقف قلمه، فقيل له في ذلك فقال: إن الكلام يزدحم في صدري، فيقف قلمي لتخيره! وسعي بالعتابي إلى الرشيد فخافه، فهرب إلى بلاد الروم، فقال يعتذر، وهو مشبه في حسن الاعتذار بالنابغة الذبياني:
جعلت رجاء العفو عذراً وشبته
…
بهيبة إمّا غافرٍ أو معاقب
وكنت إذا ما خفت حادث نبوةٍ
…
جعلتك حصناً من حذار النوائب
فأنزل بي هجرانك اليأس بعد ما
…
حللت بوادٍ منك رحب المشارب
أظلّ ومرعاي الجديب مكانه
…
وآوي إلى حافات أكدر ناضب
ولم يثن عن نفسي الردى غير أنّها
…
تثوب لباقٍ من رجائك ثائب
هي النفس محبوسٌ عليك رجاؤها
…
مقيدة الآمال دون المطالب
وتحت ثياب الصبر منّي ابن لوعةٍ
…
يظلّ ويمسي مستكنّ الجوانب
فنىً ظفرت منه الليالي بزلّةٍ
…
فأقلعن منه داميات المخالب
حنانيك إني لم أكن بعت عزةً
…
بذلٍ، وأحرزت المنى بالمواهب
فقد سمتني الهجران حتّى أذقتني
…
عقوبة زلاّتي وسوء مناقبي
فهأنا مقصىً في رضاك وقابضٌ
…
على حدّ مصقول الغرارين قاضب
ومنتزحٌ عمّا كرهت وجاعلٌ
…
هواك مثالاً بين عيني وحاجبي
وقال أيضاً:
رحل الرجاء إليك مغترباً
…
حشدت عليه نوائب الدهر
ردت إليك ندامتي أملي
…
وثنى إليك عنانه شكري
وجعلت عتبك عتب موعظةٍ
…
ورجاء عفوك منتهى عذري
فعفا عنه الرشيد؛ ومن جيد مدحه فيه:
إمامٌ له كفٌ يضمّ بنانها
…
عصا الدّين ممنوعاً عن البري عودها
وعينٌ محيطٌ بالبريّة طرفها
…
سواءٌ عليها قربها وبعيدها
وله فيه أيضاً:
رعى أُمّة الإسلام فهو إمامها
…
وأدّى إليها الحقّ فهو أمينها
مقيمٌ بمستنّ العلا حيث تلتقي
…
طوارق أبكار الخطوب وعونها
ومن بديع الاعتذار قول إبراهيم بن المهدي للمأمون:
يا خير من وخدت به شدنيّةٌ
…
بعد الرسول لآيسٍ أو طامع
لم أدر أنّ لمثل جرمي غافراً
…
فظللت أرقب أيّ حتفٍ صارع
والله يعلم ما أقول فإنّها
…
جهد الأليّة من مقرٍ باخع
ما إن عصيتك والغواة تمدّني
…
أسبابها إلاّ بنيّة طائع
وقوله:
ذنبي إليك عظيم
…
وأنت أعظم منه
فخذ بحقك أولاً
…
فاصفح بفضلك عنه
إن لم أكن في فعالي
…
من الكرام فكنه
وقول إسحاق بن إبراهيم الموصلي للمأمون أيضاً:
لا شيء أعظم من جرمي ومن أملي
…
لحسن عفوك عن جرمي وعن زللي
فإن يكن ذا وذا في القدر قد عظما
…
فأنت أعظم من جرمي ومن أملي
وقول علي بن الجهم للمتوكل، وقد تمثل به جعفر بن عثمان المصحفي فنسب إليه وهماً:
عفا الله عنك ألا حرمةٌ
…
تعوذ بعفوك أن أُبعدا
لئن جلّ ذنبٌ ولم أعتمده
…
فأنت أجلّ وأعلى يدا
ألم تر عبداً عدا طوره
…
ومولىً عفا ورشيداً هدى
ومفسد أمرٍ تلافيته
…
فعاد فأصلح ما أفسدا
أقلني أقالك من لم يزل
…
يقيك ويصرف عنك الرّدى
وما أحسن قول أبي بكر بن عمار للمعتمد محمد بن عباد رحمه الله:
سجاياك إن عافيت أندى وأسجح
…
وعذرك إن عاقبت أجلى وأوضح
وإن كان بين الخطّتين مزيّةٌ
…
فأنت إلى الأدنى من الله أجنح
ويشبه قول العتابي:
ردّت إليك ندامتي أملي
…
البيت
…
ما كتب به سعيد بن حميد إلى بعض الرؤساء معتذراً، وقد نسب ذلك أبو إسحق الحصري إلى ابن مكرم وأتى به مختصراً: نبت بي عنك غرة الحداثة فردتني إليك الحنكة، وباعدتني منك الثقة بالأيام، فأدنتني إليك الضرورة، فسدت فلم أصلح لغيرك، وبخستك معروفك فلم أهنأ ظلمك، وهأنا قد ألقيت بيدي إليك لما ضاقت علي المذاهب، وتقطعت بي السبل، وأدركتني عاقبة ما أسلفت، وارتهنت بسوء النية ما قدمت، فتركت ما أنكر، وانصرفت إلى ما أعرف، ثقةً بإسراعك إلي وإن أبطأت عنك، وقبولك المعذرة وإن قصرت
عن واجبك، وإن كانت ذنوبي قد سدت علي مسالك الصفح عني فراجع في مجدك وسؤددك، وأي موقف هو أدنى من هذا الموقف، لولا أن الاعتذار فيه إليك، والمخاطبة بما ضمنته كتابي إليك؟ أم أي خطة هي أزرى بصاحبها من خطة أنا راكبها، لولا أنها في طلب رضاك، فإن رأيت أن تستقبل الصنيعة بقبول العذر، وتجدد النعمة باطراح الحقد، وتستأنف المنة بنسيان الزلة، وتردني إلى موضعي في قلبك، وإن كنت أعلم أني لم أدع إلى ذلك سبيلاً، فإنا رأينا قديم الحرمة وحديث التوبة يمحوان ما بينهما من الإساءة ويمسحانه، فعلت، فإن أيام القدرة وإن طالت قصيرة، والمتعة بها وإن كثرت قليلة، والمعروف وإن أُسدي عوداً على بدء إلى من يكفره مشكور على كل حال بلسان غيره.
وكان العتابي أيام هارون الرشيد في ناحية المأمون، وشيعه عند خروجه إلى خراسان، حتى وقف معه على سندان كسرى، فلما حاول وداعه قال له المأمون: سألتك بالله يا عتابي إلا عملت على زيارتنا إن صار لنا من هذا الأمر شيء؟؟!.. ولما قدم المأمون بغداد يوم السبت منتصف صفر سنة أربع ومائتين، توصل إليه العتابي، فتعذر عليه لقاؤه، فتعرض ليحيى بن أكثم فقال: أيها القاضي إن رأيت أن تذكر بي أمير المؤمنين! فقال له يحيى: ما أنا بحاجب!
فقال العتابي: قد علمت، ولكنك ذو فضل، وذو الفضل معوان؛ قال: سلكت بي غير طريقي! فقال: إن الله ألحقك بجاه ونعمة، وهما مقيمان عليك بالزيادة إن شكرت، والتغيير إن كفرت، وأنا اليوم خير منك لنفسك، أدعوك إلى ما فيه زيادة نعمتك، وأنت تأبى ذلك، ولكل شيء زكاة، وزكاة الجاه بذله للمستعين! فدخل إلى المأمون فقال: يا أمير المؤمنين أجرني من العتابي ولسانه، فلم يأذن له وشغل عنه، فلما رأى العتابي جفاءه قد تمادى كتب إليه:
ما على ذا كنّا افترقنا بسندا
…
ن ولا هكذا رأيت الإخاء
لم أكن أحسب الخلافة يزدا
…
د بها ذو الصّفاء إلاّ صفاء
تضرب الناس بالمهنّدة البت
…
ر على غدرهم وتنسى الوفاء!
يعرض بقتله لأخيه على غدره ونكثه لما عقد الرشيد، فلما قرأ المأمون كتابه دعا به، فدنا منه وسلم بالخلافة، ثم وقف بين يديه، فقال: يا عتابي بلغتني وفاتك فغمتني، ثم انتهت إلي وفادتك فسرتني، وإني لحري بالغم لبعدك والسرور بقربك، فقال: يا أمير المؤمنين لو قسم هذا البر على أهل منى وعرفات لوسعهم عدلاً، وأعجزهم شكراً، وإن رضاك لغاية المنى لأنه لا دين إلا بك، ولا دنيا إلا معك! قال: سل حاجتك، قال: يدك بالعطية أطلق من لساني بالمسألة؛ فأمر له بخمسين ألفاً.