الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2- الافتنان:
وذلك في قوله تعالى «ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا» والافتنان هو أن يفتن المتكلم فيأتي في كلامه بفنين إما متضادين أو مختلفين أو متفقين والآية التي نحن بصددها جمعت بين المتضادين:
جمعت بين الوعد والوعيد، بين التبشير والتحذير وما يلزم من هذين الفنين من المدح للمختصين بالبشارة والذم لأهل النذارة وستأتي منه أمثلة عديدة في القرآن الكريم.
ومن الجمع بين المتضادين في الشعر قول عبد الله بن طاهر بن الحسين ونسبهما في الكامل لأبي دلف:
أحبك يا ظلوم وأنت مني
…
مكان الروح من جسد الجبان
ولو أني أقول مكان روحي
…
خشيت عليك بادرة الطعان
فانظر كيف جمع في هذا الشعر بين الغزل والحماسة والغزل لين والحماسة شدة وقال عنترة وأبدع:
إن تغد في دوني القناع فانني
…
طب بأخذ الفارس المستلئم
وهذا من أحسن ما قيل في هذا الباب فإنه جمع فيه بين الغزل والحماسة والجد والهزل فأتى فيه بنادرة طريفة وطرفة غريبة حيث قال بعد وصفها بستر وجهها دونه بالقناع حتى صار ما بين بصره وبين وجهها كالليل المغدف الذي يحول بين الأبصار والمبصرات: انني طب بأخذ الفارس المستلئم يقول: إن تتبرقعي دوني فانني خبير لدربتي بالحرب بأخذ الفارس الذي سترته لأمته، وحالت دوني ودون مقاتلته فأبرز
الجد في صورة الهزل فجاء في بيته مع الافتنان التندير الطريف وعبر عن معناه اللطيف بهذا اللفظ الشريف.
وجمع الحطيئة بين المدح والهجاء في بيت واحد من قصيدة يمدح بها بغيضا ويهجو الزبرقان وقد شكاه الزبرقان بسببها الى عمر بن الخطاب:
قد ناضلونا وسلوا من كنانتهم
…
مجدا تليدا ونبلا غير أنكاس
ومعنى هذا البيت لا يعرفه إلا من عرف أن عادة العرب إذا منوا على أسير أعطوه نبلا من نبلهم عليها اشارة تدلّ على أنها لأولئك القوم لا تزال في كنانته، فقال الحطيئة لهذا الممدوح الذي عناه بهذا المدح:
إن عداك لما فاخروك سلوا من كنانتهم تلك التي أعطيتها لهم حتى مننت عليهم تشهد لك بأنهم عتقاؤك فكان هذا مجدا تليدا لك لا يقدرون على جحده تثبته لك هذه النبل التي ليست بأنكاس يعني الصائبات التي لا تنكب إذا ناضلت بها عن الغرض وهذا غاية المدح للمدوح ونهاية الهجاء لعداه إذ أخبر بأنهم مع معرفتهم بفضله عليهم يفاخرونه بما إذا أظهروه أثبت له الفضل عليهم وهذا غاية الجهل منهم والغباوة.
ومن الجمع بين الهجاء والمدح أو الفخر قول أبي العلاء المعري:
بأي لسان ذامني متجاهل
…
عليّ وخفق الريح فيّ ثناء
تكلم بالقول المضلّل حاسد
…
وكل كلام الحاسدين هراء
أتمشي القوافي تحت غير لوائنا
…
ونحن على قوالها أمراء
ولا سار في عرض السماوة بارق
…
وليس له من قومنا خفراء
فهو إذ يفخر بنفسه يهجو أبناء جنسه الذين يتطاولون وهم قصار ويدعون المعرفة والجهل يكتنفهم أولم يقل لهم مخاطبا:
غدوت مريض العقل والدين فالقني
…
لتخبر أبناء العقول الصحائح
والروح العلائية معروفة فلا لزوم للشرح والتبسط.
أما الجمع بين التهنئة والتعزية فهو غريب حقا وهو يحتاج الى الكثير من شفوف الطبع ورهافة الحس للاجادة فيه ومن أجمل ما سمعنا منه مثل قول المعزّي ليزيد بن معاوية عند ما جلس في دست الخلافة وأتت الوفود مهنئة معزية بأبيه فلما اجتمعوا لم يفتح على أحد بما فتح به لهم باب القول حتى تقدم هذا المتقدم ذكره فاستأذن في الكلام فلما أذن له قال: آجرك الله يا أمير المؤمنين على الرزية وبارك الله لك في العطية فلقد رزئت عظيما وأعطيت جسيما، رزئت خليفة الله، وأعطيت خلافة الله، فاصبر على ما رزئت، واشكر على ما أعطيت وأنشد:
اصبر يزيد فقد فارفت ذا ثقة
…
واشكر حباء الذي بالملك أصفاكا
لا رزء أصبح في الأقوام تعلمه
…
كما رزئت ولا عقبى كعقباكا
أصبحت راعي أمور الناس كلهم
…
فأنت ترعاهم والله يرعاكا