الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باهبطا وجميعا حال وبعضكم مبتدأ ولبعض حال لأنه كان صفة لعدو وعدو خبر وجملة بعضكم لبعض عدو في محل نصب على الحال.
(فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى) الفاء عاطفة وإن شرطية وما زائدة ويأتينكم فعل مضارع مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط والكاف مفعول به ومني متعلقان بيأتينكم وهدى فاعل يأتينكم، فمن اتبع الفاء رابطة ومن شرطية مبتدأ واتبع فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وهداي مفعول به والفاء رابطة للجواب وجملة لا يضل في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من وجملة من اتبع في محل جزم جواب إن.
البلاغة:
في قوله تعالى «إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى، وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى» فن بديع يسمى قطع النظير عن النظير وذلك انه قطع الظمأ عن الجوع والضحو عن الكسوة مع ما بينهما من التناسب، والغرض من ذلك تحقيق تعداد هذه النعم وتصنيفها، ولو قرن كلّا بشكله لتوهم المعدودات نعمة واحدة. ويسميه بعض علماء البيان «فن التوهيم» وقد سبقت الاشارة اليه وهو أن يأتي المتكلم بكلمة يوهم ما بعدها من الكلام أن المتكلم أراد تصحيفها وهو يريد غير ذلك، ومنها أن يأتي في ظاهر الكلام ما يوهم أن فيه لحنا خارجا عن اللسان، ومنها ما يأتي ظاهره يوهم أن الكلام قد قلب عن وجهه لغير فائدة، ومنها ما يأتي دالا على أن ظاهر الكلام فاسد المعنى وهو صحيح.
وهذه الآية من القسم الذي يوهم ظاهره أن نظم الكلام جاء على غير طريق البلاغة لكون لفظه غير مؤتلف بمعناه لما ترى في الألفاظ من
عدم ملاءمة، وإذا تأمله المتأمل حق التأمل وجده جاريا على منهج البلاغة بحيث لو جاء على ما توهمه المعترض لكان النظم معيبا. وفي الآية يقول المتوهم لو قيل لا تجوع ولا تظمأ ولا تضحى ولا تعرى لكان ذلك جاريا على ما توجبه البلاغة من الملاءمة والجواب ان مجيئها على ما توهمه المتوهم يفسد معنى النظم لأنه لو قيل: ان لك أن لا تجوع فيها ولا تظمأ لوجب أن يقول وانك لا تعرى فيها ولا تضحى، والتضحي البروز للشمس بغير سترة. قال الهذلي وقيل للمجنون كما في أمالي القالي:
سلبت عظامي لحمها فتركتها
…
مجردة تضحى لديك وتخصر
أي تلقى الشمس الضاحية مجردة فينال منها حرها وتلقى برد الليل مجردة فينال منها برده فهي معذبة ليلها ونهارها وإذا كان التضحي البروز للشمس بغير سترة كان معناه التعري فيصير معنى الكلام:
وانك لا تعرى فيها ولا تعرى وهذا فساد ظاهر، ولما كان هذا الفساد لازما للنظم على الوجه الذي توهمه المتوهّم وجب العدول عنه الى لفظ القرآن وهو أن يضم سبحانه لنفي الجوع نفي العري لتطمئن النفس بسد الجوعة وستر العورة اللذين تدعو إليهما ضرورة الحياة وتطلبهما طبيعة الإنسان بالجبلّة، ولما كان الجوع مقدّما على العطش كتقديم الأكل على الشراب أوجبت البلاغة تأخر ذكر الظمأ عن الجوع وتقديمه على التضحي لأنه مهم يجب أن يتقدم الوعد بنفيه كما تقدم الوعد بنفي الجوع، ويتأخر ذكر التضحي كما تأخر ذكر العري عن الجوع لأن التضحي من جنس العري والظمأ من جنس الجوع فإن قيل: لم ذكر التضحي وهو عري في المعنى وقد أغنى ذكر العري؟ قلت: في ذكر التضحي فائدة كبيرة وهي وصف الجنة بأنها لا شمس فيها كما قال سبحانه:
«لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً» فإن التضحي عري مخصوص
مشروط بالبروز الى الشمس وقت الضحى لذلك سمي تضحيا والانتقال من الأعم الى الأخص بلاغة لاختصاص الأخص بما لا يوجد في الأعم وقال العز بن عبد السلام في الأمالي: كان المناسب من طريق المجاز أن لا تجوع ولا تظمأ ولا تعرى ولا تضحى للجمع بين المتماثلين فلم عدل عن هذا؟ والجواب: ان في الآية جناسا خيرا من هذا وذلك أن الجوع تجرد الباطن من الغذاء والعري تجرد الظاهر من الغشاء فجانس في الآية بين التجردين وكذلك الظمأ حر الباطن والضحى وهو الظهور للشمس حرّ الظاهر فجانس بالجمع بين الحرّين.
وقد رمق أهل البلاغة سماء هذا المعنى قديما وحديثا فقال أبو الطيب المتنبي:
وفقت وما في الموت شك لواقف
…
كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمة
…
ووجهك وضّاح وثغرك باسم
يحكى انه لما استنشده سيف الدولة يوما قصيدته التي أولها:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
…
وتأتي على قدر الكرام المكارم
فلما بلغ الى هذين البيتين قال سيف الدولة: قد انتقدتهما عليك كما انتقد على امرئ القيس قوله:
كأني لم أركب جوادا للذة
…
ولم أتبطّن كاعبا ذات خلخال
ولم اسبأ الزق الروي ولم أقل
…
لخيلي كرّي كرّة بعد إجفال
فبيتاك لم يلتئم شطراهما كما لم يلتئم شطرا بيتي امرئ القيس وكان ينبغي لك أن تقول:
وفقت وما في الموت شك لواقف
…
ووجهك وضاح وثغرك باسم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة
…
كأنك في جفن الردى وهو نائم
فقال المتنبي إن صحّ أن الذي استدرك على امرئ القيس هذا هو أعلم بالشعر منه فقد أخطأ امرؤ القيس واخطأت انا، ومولاي يعلم أن الثوب لا يعلمه البزاز كما يعلمه الحائك لأن البزاز يعرف جملته والحائك يعرف تفاصيله، وانما قرن امرؤ القيس النساء بلذة الركوب للصيد، وقرن السماحة بسباء الخمر للأضياف بالشجاعة في منازلة الأعداء، وكذلك لما ذكرت الموت في صدر البيت الأول أتبعته بذكر الردى في آخره ليكون أحسن تلاؤما، ولما كان وجه المنهزم الجريح عبوسا وعينه باكية قلت «ووجهك وضاح وثغرك باسم» لأجمع بين الأضداد.
على أن في هذه الآية سرا لذلك زائدا على ما ذكر وهو أنه قصد تناسب الفواصل ولو قرن الظمأ بالجوع لانتثر سلك رؤوس الآي وأحسن به منتظما.