الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البلاغة:
في هذه الآيات فنون عديدة نوجز القول فيها:
1- الاختراس في قوله «نِداءً خَفِيًّا»
وقد تقدم القول فيه وانه عبارة عن أن يأتي المتكلم بمعنى يتوجه عليه فيه دخل أو لبس أو إيهام فيفطن لذلك حال العمل فيأتي في صلب الكلام بما يخلصه من ذلك كله وقد تقدمت أمثلة عديدة منه كما ستأتي له نظائر مشبهة وهو هنا في كلمة خفيا فقد أتى بها مراعاة لسنة الله في إخفاء دعوته لأن الجهر والإخفاء عند الله سيان فكان الأولى به أن يحترس مما يوهم الرياء أمام الناس الذين يحكمون على الظاهر ويجهلون حقيقة الدخائل أو لئلا يلام على طلب الولد في إبان الكبرة والشيخوخة ودفعا للفضول الذي يطلق الألسنة بمختلف أنواع الملام وقيل احترس من مواليه الذين خافهم وقيل ليس في الأمر احتراس وانما الكلام جار على حقيقته لأن خفوت صوته ناتج عن ضعفه وهرمه حيث يخفت الصوت ويكل اللسان وتعشى العينان وتثقل الآذان على حدّ قول عوف بن محلم الخزاعي:
إن الثمانين وبلغتها
…
قد أحوجت سمعي الى ترجمان
وقد قيل في صفات الشيخ «صوته خفات، وسمعه تارات» .
2- الاستعارة المكنية:
في قوله تعالى «وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً» شبّه الشيب بشواظ النار في بياضه وإثارته وانتشاره في الشعر وفشوه فيه وأخذه منه كل مأخذ ثم أخرجه مخرج الاستعارة المكنية وأسند الاشتعال الى
مكان الشعر ومنبته وهو الرأس وأخرج الشيب مميزا ولم يضف الرأس أي أم يقل رأسي اكتفاء بعلم المخاطب انه رأس زكريا فمن ثم فصحت هذه الجملة وشهد لها بالبلاغة ونزيد على ذلك وجوه الشبه الأربعة الكامنة في هذا الخيال البعيد، وهي:
آ- السرعة: وذلك أن النار حين تشتعل وتندلع أسنتها فإنها تسرع في التهام ما تمتد اليه وهكذا الشيب لا يكاد يخط الرأس حتى بمتد بسرعة عجيبة.
ب- تعذر التلافي: وذلك أن النار إذا شبت وتدافع شؤبوبها وتطاير لهيبها اجتاحت كل ما تصادفه وذل لها الصخر والخشب على حد قول أبي تمام:
لقد تركت أمير المؤمنين بها
…
للنار يوما ذليل الصخر والخشب
فيعنو لها الصخر ويذل الخشب ويستلسم لشؤبوبها كل ما يناله دون أن تجدي في ذلك حيلة وقد يتعذر على رجل الإطفاء إخماد لهيبها وكثيرا ما يصبح الماء بمثابة الحطب الذي يذكيها وكذلك الشيب ينتشر بسرعة غريبة في أجزاء الرأس ويتمادى في سرعته بحيث يتعذر بل يستحيل تلافيه، وكثيرا ما يجنح الذين أصيبوا بالشيب الى تغطية شيبهم بالأصابيغ الكاذبة ليخفوا حقيقتهم وليستهووا قلوب الغانيات فلن يبدل ذلك شيئا من الواقع الراهن.
ج- الألم: وكما أن النار لذاعة كواءة تؤلم من تلامسه فكذلك الشيب يؤلم الأشيب وقد صدت عنه الغواني واقتحمته العيون على حد قول ابن الرومي:
وكنت جلاء للعيون من القذى
…
فقد أصبحت تقذي بشيبي وترمد
هي الأعين النجل التي كنت تشتكي
…
مواقعها في القلب والرأس أسود
وقول أبي تمام:
يا نسيب الثغام ذنبك أبقى
…
حسناتي عند الحسان ذنوبا
لو رأى الله أن في الشيب خيرا
…
جاورته الأبرار في الخلد شيبا
وجميع ذلك منقول عن عمر بن أبي ربيعة:
رأين الغواني الشيب لاح بعوارضي
…
فأعرضن عني بالخدود النواضر
ويرحم الله شوقيا عند ما جلس على ضفاف البردوني في زحلة واستمع الى وشوشات الحلي ووسوسات الأساور وألفى نفسه يرتقي الى السبعين فصرخ:
شيعت أحلامي بقلب باك
…
ولمت من طرق الملاح شباكي
ورجعت أدراج الشباب وورده
…
أمشي مكانهما على الأشواك
وبجانبي واه كأن خفوقه
…
لمّا تلفت جهشة المتباكي
د- المصير: وكما أن مصير النار بعد أن تفعل أفاعيلها وتبلغ غايتها الخمود والانطفاء فالرماد كذلك مصير الإنسان وناهيك بهذا المصير إيلاما للنفس وارتماضا للقلب فهذه أوصاف أربعة جامعة بين المشبه والمشبه به فتأمل هذا الفصل، فله على سائر الفصول الفضل.
هذا وقد أوجزنا القول في عدم إضافة الرأس بالاكتفاء بعلم المخاطب ولا بد من إيضاحه الآن فنقول أن للاستعارة مطلوبات ثلاثة:
المبالغة في التشبيه والظهور والإيجاز وكل استعارة تتناول واحدا من هذه المطلوبات أما هذه الاستعارة فقد تناولت المطلوبات الثلاثة بكاملها فإن الكلام أن يقال: شيب الرأس ولو جاء الكلام كذلك لأفاد الظهور فقط دون المبالغة واللفظ الأول يعطى عموم الشيب جميع نواحي الرأس كما انك إذا قلت: اشتعلت نار البيت صدق ذلك على اشتعال النار في بعض نواحيه دون بقيته بخلاف ما إذا قلت اشتعل البيت نارا فإن مفهوم ذلك اشتمال النار على كل البيت بجميع أجزائه فتنبه لهذا الفصل وإن طال بعض الطول فإنه كالحسن غير مملول.
هذا وقد اقتبس ابن دريد اشتعال الرأس شيبا فقال في مقصورته:
واشتعل المبيض في مسودّه
…
مثل اشتعال النار في جزل الغضا
هذا ولما كان الشيب عندهم عيبا قالوا: هو أشيب أي وصفا على غير قياس لأن الوصف على أفعل انما يكون من فعل كفرح وشرطه