الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)
الواو عاطفة وأعتزلكم أي أترككم مرتحلا من بلادكم والفاعل مستتر والكاف مفعول به وما الواو حرف عطف وما يجوز أن تكون موصولة أو مصدرية. وعلى كل حال موضعها نصب عطف على الكاف أو مفعول معه وجملة تدعون صلة ومن دون الله حال. (وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) وأدعو عطف على أعتزلكم وفاعله مستتر تقديره أنا وربي مفعول به وعسى فعل ماض من أفعال الرجاء واسمها مستتر وأن وما في حيزها هي الخبر واسم أكون مستتر تقديره أنا وبدعاء متعلقان بشقيا وربي مضاف لدعاء وشقيا خبر أكون. (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا) لما ظرفية حينية أو رابطة واعتزلهم فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به وما يعبدون من دون الله تقدم اعرابها أي تركهم فعلا من بابل الى الأرض المقدسة وجملة وهبنا لا محل لها لأنها جواب لما وله متعلقان بوهبنا واسحق مفعول وهبنا ويعقوب عطف على اسحق وكلا مفعول به أول لجعلنا ونبيا هو المفعول الثاني. (وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) ووهبنا عطف على وهبنا الأولى ولهم متعلقان بوهبنا أي لابراهيم وولديه ومن رحمتنا متعلقان بوهبنا أيضا وجعلنا عطف على وهبنا ولهم في موضع المفعول الثاني لجعلنا ولسان صدق هو المفعول الاول وعليا صفة للسان وهو الثناء الحسن كما سيأتي في باب
البلاغة
.
البلاغة:
1- فن الاستدراج:
بلغت هذه الآيات ذروة البلاغة، وانطوت على معاجز تذهل العقول فأول ما يطالعنا منها فن يعرف بالاستدراج وهو يقوم على
مخادعة المخاطب تقوم فيه الأقوال مقام الأفعال فلا يزال يترفق بالمخاطب ويداوره ويلاينه حتى يسقط في يده ويستلين ويعلن استسلامه وهو يشبه أصحاب الجدل في الكلام والمنطق والفلسفة ولكن أولئك يتصرفون في المغالطات القياسية أما الشاعر أو الكاتب فهو في استدراجه يتصرف في المغالطات الخطابية. وقد أحسن الامام الزمخشري في تحليل هذا الفن وان لم يسمه فحلل هذا الفصل تحليلا عجيبا وقد شاء ضياء الدين بن الأثير الذي استخرج هذا الفن أن يغير على فصل الزمخشري فنسفه برمته ونسبه اليه وسننصف الزمخشري من سالبيه فننقل فصله برمته وعلى طوله فهو كالحسن غير مملول.
«انظر حين أراد أن ينصح أباه ويعظه فيما كان متورطا فيه من الخطأ العظيم والارتكاب الشنيع الذي عصى فيه أمر العقلاء وانسلخ عن قضية التمييز، ومن الغباوة التي ليس بعدها غباوة كيف رتب الكلام معه في أحسن اتساق، وساقه أرشق مساق مع استعمال المجاملة واللطف والرفق واللين والأدب الجميل والخلق الحسن منتصحا في ذلك بنصيحة ربه عز وعلا
…
وذلك أنه طلب منه أولا العلة في خطئه طلب منبه على تماديه، موقظ لإفراطه وتناهيه لأن المعبود لو كان حيا مميزا سميعا بصيرا مقتدرا على الثواب والعقاب، نافعا ضارا، إلا أنه بعض الخلق لاستخفّ عقل من أهلّه للعبادة ووصفه بالربوبية، ولسجل عليه بالغي المبين والظلم العظيم وان كان أشرف الخلق وأعلاهم منزلة
…
فما ظنك بمن وجه عبادته إلى جماد ليس به حس ولا شعور فلا يسمع يا عابده ذكرك له، وثناءك عليه، ولا يرى هيئات خضوعك وخشوعك له فضلا أن يغني عنك بأن تستدفعه بلاء فيدفعه أو تسنح لك حاجة فيكفيكها، ثم ثنّى بدعوته الى الحق مترفقا به متلطفا فلم يسم إياه بالجهل المفرط ولا نفسه بالعلم الفائق ولكنه قال:
إن معي طائفة من العلم وشيئا منه ليس معك وذلك علم الدلالة على الطريق السوي فلا تستنكف، وهب أني وإياك في مسير وعندي معرفة بالهداية دونك فاتبعني أنجك من أن تضلّ وتتيه، ثم ثلث بتثبيطه ونهيه عما كان عليه بأن الشيطان الذي استعصى على ربك الرحمن، الذي جميع ما عندك من النعم من عنده، وهو عدوك الذي لا يريد بك إلا كل هلاك وخزي ونكال، وعدو أبيك آدم وأبناء جنسك كلهم هو الذي ورطك في هذه الضلالة وأمرك بها وزينها لك فأنت إن حققت النظر عابد الشيطان إلا أن ابراهيم عليه السلام لإمعانه في الإخلاص ولارتقاء همته في الربانية لم يذكر من جنايتي الشيطان إلا التي تختص منهما برب العزة من عصيانه واستكباره ولم يلتفت الى ذكر معاداته لآدم وذريته، كأن النظر في عظم ما ارتكب من ذلك غمر فكره وأطبق على ذهنه، ثم ربع بتخويفه سوء العاقبة وبما يجره ما هو فيه من التبعة والوبال ولم يخل ذلك من حسن الأدب حيث لم يصرح بأن العقاب لا حق له، وأن العذاب لاصق به ولكنه قال: أخاف أن يمسك عذاب، فذكر الخوف والمس ونكر العذاب وجعل ولاية الشيطان ودخوله في جملة أشياعه وأوليائه أكبر من العذاب وذلك أن رضوان الله أكبر من الثواب نفسه وسماه الله تعالى المشهود له بالفوز العظيم
…
فكذلك ولاية الشيطان التي هي معارضة رضوان الله أكبر من العذاب نفسه وأعظم، وصدر كل نصيحة من النصائح الأربع بقوله «يا أبت» توسلا إليه واستعطافا
…
أقبل عليه الشيخ بفظاظة الكفر وغلظ العناد فناداه باسمه ولم يقابل قوله با أبت بقوله يا بني وقدم الخبر على المبتدأ في قوله «أراغب أنت» لأنه كان أهم عنده وفيه ضرب من التعجب والإنكار لرغبة ابراهيم عن آلهته» .