الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القول في الإيجاز كثيرا وفي هذه الآية إيجاز قصر لأنه تحدث بثلاث كلمات وهي «آذنتكم على سواء» عن كلام طويل أي إن تولوا بعد هذه الآيات والشواهد وأعرضوا وطووا كشحا فقل لهم لقد أعلمناكم على بيان أنا وإياكم في حرب لا مهادنة فيها ولا صلح بيننا ولكنني لا أدري متى يأذن الله. وآذنتكم منقول من اذن إذا علم قال الحارث ابن حلزة:
آذنتنا ببنيها أسماء
…
رب ثاو يمل منه الثواء
وقد سما الزمخشري في شرح هذا الإيجاز وهذه نبذة من كلامه:
«والمعنى اني بعد توليكم واعراضكم عن قبول ما عرض عليكم من وجوب توحيد الله وتنزيهه عن الأنداد والشركاء كرجل بينه وبين أعدائه هدنة فأحسّ منهم بغدرة فنبذ إليهم العهد وشهر النبذ وأشاعه وآذنهم جميعا بذلك «على سواء» أي مستوين في الاعلام به لم يطوه عن أحد منهم وكاشف كلهم وقشر العصا عن لحائه» .
3- التوليد:
في قوله: «قل رب احكم بالحق» فن التوليد وسماه ابن منقذ فن التلطيف وهو على ضربين: من الألفاظ ومن المعاني:
1-
التوليد من الألفاظ على ضربين أيضا:
آ- توليد المتكلم من لفظه ولفظ غيره صورة من الكلام.
ب- توليد المتكلم صورة من موضعين من لفظ نفسه.
والأول هو أن يزوج لفظة من لفظة للفظة من لفظ غيره فيتولد
بينهما كلام مناقض غرض صاحب اللفظة الأجنبية وذلك في الألفاظ المفردة دون الجمل المؤتلفة ومثاله ما حكي عن مصعب بن الزبير انه كان قد وسم خيله بلفظ «عدّة» وهو يريد عدة الحرب فلما قتل وصارت خيله عند الحجاج ورأى ذلك الوسم أمر أن يوسم الى جانب عدة بلفظة «الفرار» فتولد بين اللفظين معنى غير ما أراده مصعب وانقلب المدح قدحا.
2-
التوليد من المعاني وستأتي أمثلته، أما الآية التي نحن بصددها فقد زوج فنا من فنون البديع لفن آخر فيه فتولد فن ثالث غيرهما وذلك انه يتوجه على ظاهر إشكال وهو أن يقال: ما الحكمة في كونه سبحانه أمر نبيه أن يسأله الحكم بالحق وهو عز وجل يعلم أن نبيه متيقن انه سبحانه لا يحكم إلا بالحق فلو اقتصر على قوله احكم فقط كان ذلك كافيا فلم عدل عن الأوجز الموفي بالمعنى المراد مع سلامة الظاهر من الإشكال الى الأطول الموجب للإشكال، والجواب:
ان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يدعون على من خالفهم حتى يؤذن لهم في ذلك لأنهم بعثوا مؤلفين لا منفرين وهم لا يعلمون من الغيب إلا ما أعلمهم به الله فإذا أعلمهم بمن لا يمكن إيمانه من قومهم ساغ لهم الدعاء على ذلك، ألا ترى أن نوحا عليه السلام لم يتجرأ أن يقول:«رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» إلا بعد قوله تعالى له: «أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ» ولذلك احترس في الدعاء بقوله: على الأرض فإن من آمن معه كان في السفينة ولم يبق على الأرض إلا من حق عليه العذاب ولما علم سبحانه ان الذين عادوا نببه محمدا صلى الله عليه وسلم لا يرجى فلاحهم أمره بالدعاء عليهم بيد أنه علمه كيف يدعو عليهم دعاء غير منفر لغيرهم فأراد سبحانه أن
يقول: قل رب أهلك الظالمين فعدل عن هذا اللفظ الخاص لما فيه من التنفير الى لفظ الإرداف فقال: «قل رب احكم بالحق» فانه سبحانه إذا حكم بالحق وهو العدل عاقب من يستحق العقاب وأما قول مورد الاشكال: لم عدل عن الأوجز الى الأطول؟ ولو قال رب احكم لكان كافيا، فليس الأمر كما زعم لأن للحاكم المختار الذي لا شريك له أن يحكم بالفضل فينزل عن حق نفسه وله أن يحكم بالعدل ستوفي حقه وحق غيره وطلب مطلق الحكم لا يوفي بذلك فلهذا عدل من الأوجز الى الأطول ليوفي بالمعنى المراد.
وقد تنخّل عن هذا الجواب أربعة عشر ضربا من البديع اتفقت في هذه الألفاظ الثلاثة وهي:
1-
الإرداف الذي قدمنا ذكره.
2-
الإيضاح لأن إيضاح الإشكال الوارد على ظاهر الكلام جاء مدمجا في الإرداف.
3-
التتميم إذ لو وقع الاقتصار على قوله: رب احكم لكان المعنى المراد ناقصا لأن مطلق الحكم لا يوفي بالمقصود كما بينا.
4-
المقارنة لأن الادماج والإيضاح اقترنا في التتميم.
5 و6- الافتنان لجمع هذه اللفظات الثلاث بين فنين من الفنون التي يقصدها المتكلمون وهما:
آ- فن الأدب في تعليم الحق سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم كيف يدعو على من خالفه دعاء غير منفّر عنه.
ب- فن الهجاء لأن عدل الله سبحانه يأبى أن يأمر نبيه بالدعاء إلا على من علم تصميمه على العصيان وبراءته من الايمان ومن كان كذلك كان مستحقا للذم فأدمج سبحانه في أمر الرسول بالدعاء عليهم هجاءهم بمقتضى ما تضمنه الكلام من استحقاق الملام.
7-
الإيجاز عن المعنى المراد بأقل ما يمكن من الحروف.
8-
السهولة فقد تركبت الكلمات تركيبا سليما من سوء الجوار، سهلة المخارج ولأن الكلمات جاءت في مقارها فلا تتقدم كلمة عن كلمة ولا تتأخر.
9-
التهذيب في كون تركيب الجملة وضع على أصح ترتيب وأسهل تهذيب إذ تقدم فيها ذكر المدعو وثنى بالطلب وثلث بالمطلوب.
10-
حسن البيان لأن الذهن يسابق الى فهم معنى الكلام من غير توقف بمجرد سماعه أول وهلة لعدم التعقيد في اللفظ وخلوه من أسباب اللبس من التقديم والتأخير وسلوك الطريق الأبعد وإيقاع المشترك.
11-
التمزيج لامتزاج الفنون بمعاني البديع فإن فني الأدب والهجاء امتزجا بمعنى الإرداف والتتميم ولم يظهر في اللفظ لكل معنيين سوى صورة واحدة فظهر فن الأدب وأدمج فيه فن الهجاء وظهر الإرداف وأدمج فيه التتميم.
12-
الإبداع لما تتضمن كل لفظة من الجملة الضرب والضربين فصاعدا من البديع.