المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

أخرجه ‌ ‌(1) ابن عبد البر بسند ضعيف عن عائشة قالت: - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ١٦

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: أخرجه ‌ ‌(1) ابن عبد البر بسند ضعيف عن عائشة قالت:

أخرجه ‌

(1)

ابن عبد البر بسند ضعيف عن عائشة قالت: سألت خديجة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين، فقال:«هم من آبائهم» ، ثم سألته بعد ذلك فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين، ثمّ سألته بعدما استحكم الإسلام فنزلت:{وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} وقال: هم على الفطرة، أو قال: في الجنة.

التفسير وأوجه القراءة

1 -

{سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ} ؛ أي: تبرأ عن الشريك والولد والصاحبة، الإله الذي سير بعبده محمد صلى الله عليه وسلم {لَيْلًا}؛ أي: في جزء قليل من الليل {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} ؛ أي: من حرم مكّة من بيت أم هانىء بنت أبي طالب {إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} ؛ أي (2) إلى المسجد الأبعد من الأرض أي من أرض الحجاز وأقرب إلى السماء، وهو مسجد بيت المقدس، ورجع من ليلته في نحو ثلاث ساعات، وسمي أقصى؛ لأنه أبعد المساجد التي تزار ويطلب بها الأجر من المسجد الحرام؛ أي أبعد بالنظر إلى من بالحجاز.

قال النحويون (3): {سُبْحانَ} اسم علم للتسبيح، وانتصابه على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف، فالمقصود منه التنزيه والتبعيد له تعالى عن السوء في الذات والصفات، والأفعال والأسماء، والأحكام، فالتعجيب مقصود منه أيضا؛ أي: تعجبوا أو اعجبوا من قدرة الله تعالى على هذا الأمر الغريب، والمعنى: ما أبعد الإله الذي له هذه القدرة عن جميع النقائص، ولذا لا يستعمل إلّا فيه تعالى، والإسراء سير الليل.

وفائدة ذكر الليل، مع أنه معلوم من ذكر الإسراء: الإشارة بتنكيره إلى تقليل مدّته، وأنه أسري به في بعض الليل من مكة إلى الشام مسافة أربعين ليلة، ومعنى أسرى به: صيره ساريا في الليل، وقوله:{بِعَبْدِهِ} ؛ أي بروحه وجسده على المعتمد، وقال (4):{بِعَبْدِهِ} ؛ دون نبيه، أو حبيبه؛ لئلا تضل به أمته، كما

(1) لباب لنقول.

(2)

المراح.

(3)

الفتوحات.

(4)

الفتوحات.

ص: 11

ضَلَّتْ أمة المسيح حيث ادَّعته إلهًا، أو لأن وصفه بالعبودية المضاف إلى الله تعالى أشرف المقامات والأوصاف.

لا تدعني إلّا بيا عبدها

فإنّه أشرف أسمائي

{مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} {من} ابتدائية قال الحسن وقتادة: يعني المسجد نفسه، وهو ظاهر القرآن، وقال عامة المفسرين أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من دار أم هانىء، فحملوا المسجد الحرام على مكة، أو الحرم لإحاطة كل منهما بالمسجد الحرام، أو لأن الحرم كلّه مسجد، وكان (1) الإسراء به ببدنه في اليقظة بعد البعثة، وكان قبلها في المنام كما أنه رأى فتح مكة سنة ست وتحقق سنة ثمان اهـ كرخي، والحكمة في إسرائه إلى بيت المقدس دون العروج به من مكة، لأنه محشر الخلائق، فيطؤه بقدمه، ليسهل على أمته يوم وقوفهم ببركة أثر قدمه، أو لأنه مجمع أرواح الأنبياء، فأراد الله تعالى أن يشرفهم بزيارته صلى الله عليه وسلم، وليخبر الناس بصفاته، فيصدّقوه في الباقي اهـ كرخي، وقيل (2): الحكمة في إسرائه صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، ليحصل له العروج إلى السماء مستويًا من غير تعريج، لما روي عن كعب أنّ باب السماء الذي يقال له: مصعد الملائكة يقابل بيت المقدس، قال: وهو أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلًا وقيل: الحكمة في ذلك، أنّ الشام خيرة الله تعالى من أرضه كما في الحديث الصحيح، فهي أفضل الأرض بعد الحرمين، وأول إقليم ظهر فيه ملكه صلى الله عليه وسلم، وقيل غير ذلك.

ثمّ ذكر سبحانه الغاية التي أسري برسوله صلى الله عليه وسلم إليها فقال: {إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} ، أي القاصي، وهو بيت المقدس، وأول من بناه آدم بعد أن بنى الكعبة بأربعين سنة كما في «المواهب» فهو أول ما بني على الأرض بعد الكعبة، وسمّي الأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام، ولم يكن حينئذ وراءه مسجد، ثم وصف المسجد الأقصى بقوله:{الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ} ونواحيه بالثمار، والأنهار، والأنبياء، والصالحين، فقد بارك الله سبحانه وتعالى حول المسجد الأقصى

(1) الفتوحات.

(2)

المراح.

ص: 12

ببركات الدنيا، فهي ليست إلا حول الأقصى، وأما في الداخل فالبركة في كل من المسجدين، بل هي في الحرم أتم، وهي كثرة الثواب بالعبادة فيهما اهـ شيخنا، أي الذي جعلنا حوله البركة لسكانه في معايشهم، وأقواتهم، وحروثهم، وغروسهم، وفي قوله:{بارَكْنا} بعد قوله: {أَسْرى} التفات من الغيبة إلى التكلم، ثم ذكر العلّة التي أسرى به لأجلها فقال:{لِنُرِيَهُ} ، أي لكي نري عبدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم {مِنْ آياتِنا} ، أي من عبرنا (1) وأدلتنا ما فيه البرهان الساطع، والدليل القاطع على وحدانيّتنا، وعظيم قدرتنا، والمراد بها، ما أراه الله تعالى في تلك الليلة من العجائب التي من جملتها قطع هذه المسافة الطويلة، في جزء قليل من الليل، وقرأ الجمهور {لِنُرِيَهُ} بالنون، وهو التفات من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم، وقرأ الحسن:{ليريه} بالياء، فيكون الالتفات في {آياتِنا} ، {إِنَّهُ} أي إنّ الذي أسرى بعبده {هُوَ السَّمِيعُ} لما يقول هؤلاء المشركون من أهل مكة في إسراء محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس، أو بكل مسموع، ومن جملة ذلك قول محمد صلى الله عليه وسلم وقول أولئك المشركين {الْبَصِيرُ} بما يفعلون، لا تخفى عليه خافية من أمرهم، ولا يعزب عنه شيء في الأرض، ولا في السماء، فهو محيط به علمًا، ومحصيه عددًا، وهو لهم بالمرصاد، وسيجزيهم بما هم له أهل أو بكل مبصر، ومن جملة ذلك ذات رسوله وأفعاله، وذاتهم وأفعالهم، ويقال (2): معنى هذه الجملة {إِنَّهُ} ؛ أي: إنّ هذا العبد الذي اختصصناه بالإسراء هو خاصة السميع لكلامنا، البصير لذاتنا، فهو السميع أذنا وقلبا بالإجابة لنا، والقبول لأوامرنا، البصير بصرا، وبصيرة، وتوسيط ضمير الفصل للإشعار باختصاصه صلى الله عليه وسلم وحده بهذه الكرامة، ولهذا عقب الله تعالى بقوله:{وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ} .

تحقيق ما قيل في الإسراء والمعراج

اعلم (3): أن هاهنا أمرين:

(1) المراغي.

(2)

المراح.

(3)

المراغي.

ص: 13

1 -

إسراء النبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، وهذا هو الذي ذكر في هذه السورة.

2 -

العروج به، والصعود إلى السماء الدنيا، ثم إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام بعد وصوله إلى بيت المقدس، ولم يذكر ذلك هنا، وسيأتي بيانه في سورة النجم، ونفصل القول فيه تفصيلًا إن شاء الله سبحانه وتعالى هناك.

آراء العلماء في الإسراء

وهاهنا أمور: مكان الإسراء، زمانه، هل كان الإسراء بالروح والجسد، أو بالروح فحسب.

1 -

يرى جمع من العلماء أن الإسراء كان من المسجد الحرام، وقيل: أسري به من دار أم هانىء بنت أبي طالب.

2 -

أما زمانه: فقد كان ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الأول، قبل الهجرة بسنة، وعن أنس والحسن البصري أنه كان قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم.

3 -

أكثر العلماء على أن الإسراء كان بالروح والجسد، يقظة لا منامًا، ولهم على ذلك أدلة:

أ - أن التسبيح والتعجب في قوله: {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ} إنما يكون في الأمور العظام، ولو كان ذلك مناما لم يكن فيه كبير شأن، ولم يكن مستعظمًا.

ب - أنه لو كان منامًا ما كانت قريش تبادر إلى تكذيبه، ولما ارتد جماعة ممن كانوا قد أسلموا، ولما قالت أم هانىء لا تحدث الناس فيكذبوك، ولما فضّل أبو بكر بالتصديق، وجاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد رأيتني في الحجر، وقريش تسألني عن مسراي فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها - لم أعرفها حق المعرفة - فكربت كربًا مّا كربت مثله قط، فرفعه الله لي أنظر إليه فما سألوني عن شيء إلّا أنبأتهم به» الحديث.

ص: 14

ج - أن قوله {بِعَبْدِهِ} يدل على مجموع الروح والجسد.

د - أن ابن عباس رضي الله عنه قال في قوله: {وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} هي: رؤيا أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به، ويؤيده أن العرب قد تستعمل الرؤيا في المشاهدة الحسية.

ألا ترى إلى قول الراعي يصف صائدا:

وكبّر للرّؤيا وهشّ فؤاده

وبشّر قلبا كان جمّا بلابله

هـ - أن الحركة بهذه السرعة ممكنة في نفسها، فقد جاء في القرآن الكريم أنَّ الرِّياح كانت تسير بسليمان عليه السلام إلى المواضع البعيدة، في الأوقات القليلة، فقد قال تعالى في صفة سير سليمان عليه السلام:{غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ} ، وجاء فيه أن الذي عنده علم من الكتاب أحضر عرش بلقيس من أقصى اليمن إلى أقصى الشام، في مقدار لمح البصر، كما قال تعالى:{قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} ، وإذا جاز هذا لدى طائفة من الناس، جاز لدى جميعهم.

ويرى آخرون من الناس أن الإسراء كان بالروح فحسب، ولهم على ذلك حجج:

أ - أن معاوية بن أبي سفيان كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان رؤيا من الله صادقة، وقد ضعّف هذا بأن معاوية يومئذ، كان من المشركين، فلا يقبل خبره في مثل هذا.

ب - أن بعض آل أبي بكر رضي الله عنه قال: كانت عائشة تقول: ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أسري بروحه، ونقدوا هذا بأن عائشة يومئذ كانت صغيرة، ولم تكن زوجا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

ج - أن الحسن قال في قوله: {وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا

} الآية. إنها رؤيا منام رآها والرؤيا تختص بالنوم.

قال أبو جعفر الطبري: الصواب من القول في ذلك عندنا، أن يقال: إن الله أسرى بعبده محمد صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كما أخبر

ص: 15

الله عباده، وكما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ الله حمله على البراق، حتى أتاه به، وصلى هناك بمن صلى من الأنبياء والرسل فأراه من الآيات ما أراه، ولا معنى لقول من قال: أسري بروحه دون جسده؛ لأن ذلك لو كان كذلك لم يكن في ذلك ما يوجب أن يكون دليلا على نبوته، ولا حجّة له على رسالته، ولا كان الذين أنكروا حقيقة ذلك من أهل الشرك، كانوا يدفعون به عن صدقه فيه؛ إذ لم يكن منكرا عندهم، ولا عند أحد من ذوي الفطرة الصحيحة، من بني آدم، أن يرى الرائي منهم في المنام ما على مسيرة سنة، فكيف ما هو مسيرة شهر، أو أقلّ.

وبعد: فإن الله إنّما أخبر في كتابه أنه أسرى بعبده، ولم يخبرنا أنه أسرى بروح عبده، وليس جائزًا لأحد أن يتعدى ما قال الله إلى غيره، إلا أن الأدلة الواضحة، والأخبار المتتابعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله أسرى به على دابة، يقال لها: البراق، ولو كان الإسراء بروحه .. لم تكن الروح محمولة على البراق، إذ كانت الدواب لا تحمل إلا الأجساد اهـ.

والخلاصة: أن الذي عليه المعول عند جمهرة المسلمين، أنه أسري به صلى الله عليه وسلم يقظة لا منامًا، من مكة إلى بيت المقدس، راكبًا البراق، فلما انتهى إلى باب المسجد، ربط الدابة عند الباب، ودخله يصلي في قبلته، تحية المسجد ركعتين، ثم ركب البراق وعاد إلى مكة بغلسٍ.

إلمامةٌ في المعراج

يرى بعض العلماء أن عروج النبي صلى الله عليه وسلم السموات السبع، كان بجسده وروحه يقظة لا منامًا لدليلين:

أ - آية الإسراء إذ صرح فيها بأنه أسرى بعبده، والعبد مجموع الروح والجسد، فوجب أن يكون الإسراء حاصلا بهما.

ب - الحديث المروي في الكتب الصحاح كالبخاري ومسلم، وغيرهما، وهو يدل على أن الذهاب من مكة إلى بيت المقدس، ثم منه إلى السموات العلا، ثمّ إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام.

ص: 16

وأنكره آخرون، وأثبتوا أنَّ المعراج كان بالروح فحسب لوجوه:

1 -

أنَّ الحركة البالغة في السرعة إلى هذا الحد غير معقولة.

2 -

أنه لو صح ذلك لكان أعظم المعجزات، وكان يجب أن يظهر حين اجتماع الناس حتى يستدل به على صدقه في ادّعاء النبوة، فأما أن يحصل ذلك في وقت لا يراه فيه أحد، ولا يشاهده فيه مشاهد، فإنّ ذلك عبث لا يليق بحكمة الحكيم.

3 -

أن الصعود بالجسم إلى العالم العلوي فوق طبقات معينة، مستحيلٌ، لأن الهواء معدوم، فلا يمكن أن يعيش فيه الجسم الحي، أو يتنفس فيه.

4 -

أن حديث المعراج اشتمل على أشياء في غاية البعد:

أ - شق بطنه، وتطهيره بماء زمزم، والذي يغسل بالماء هو النجاسات العينية، ولا تأثير لذلك في تطهير القلب من العقائد الزائغة، والأخلاق المذمومة.

ب - ركوب البراق ولا حاجة له بذلك؛ لأن العالم العلوي في غنى عن ذلك.

ج - أنه تعالى أوجب خمسين صلاة، ولم يزل محمد صلى الله عليه وسلم يتردد بين الله وموسى عليه السلام إلى أن عاد الخمسون إلى خمس بسبب شفقة موسى عليه السلام، وهذا غير جائز، كما قال القاضي أبو بكر الباقلاني؛ لأنه يقتضي نسخ الحكم قبل العمل به، وهذا بداء محال على الله سبحانه وتعالى.

د - لم يقل أحد من المسلمين بأنّ الأنبياء أحياء بأجسادهم في العالم العلوي، وإنما الحياة هناك حياة روحية لا جسمانية، والتخاطب، والكلام معهم، والصلاة بهم من الأمور الروحية، لا الجسمية، إذ لا يعقل غير هذا، وبهذا يثبت المعراج الروحي لا الجسماني.

ويمكن أن يجيب الأولون عن الاستبعادات العقلية بأن هذه معجزة، والله

ص: 17

تعالى قادر على خرق سننه بسنة أخرى، ككل معجزات الأنبياء، من انقلاب العصا حية، ثم عودتها في مدة قصيرة عصًا صغيرةً كما كانت.

عظة وذكرى

إنا لنقف قليلًا لدى هذين الحادثين الجليلين لنستخلص منهما أمورًا هي الغاية في العظة والاعتبار:

1 -

أنّ هاتين الرحلتين: الرحلة الأرضية «الإسراء» والرّحلة السماوية «المعراج» حدثتا في ليلة واحدة، قبل الهجرة بسنة، ليمحص الله المؤمنين، ويبين منهم صادق الإيمان، ومن في قلبه منهم مرض فيكون الأول خليقًا بصحبة رسوله الأعظم إلى دار الهجرة، والإنضواء تحت لوائه، وجديرا بما يحتمله من أعباء عظام، وتكاليف شاقّة من حروب دينية، وقيام بدعوة عظيمةٍ، تستتبع همة قعساء، وإنشاء دولة تبتلع المعمور في ذلك الحين شرقًا، وغربًا.

2 -

أنّ الله تعالى أطلع رسوله على ما في هذا الكون أرضيةً وسماويةً من العظمة والجلال ليكون درسًا عمليًا لتعليم رسوله بالمشاهدة، والنظر، فإن التعليم بالمشاهدة أجدى أنواع التّعليم، فهو وإن لم يذهب إلى مدرسة، أو يجلس إلى معلم، أو يسيح في أرجاء المعمورة، أو يصعد بالآلات العلمية إلى السماء، فقد كفل له ربه ذلك بما أراه من آياته الكبرى، وما أطلعه عليه من مشاهدة تلك العوالم الّتي لا تصل أذهاننا إلى إدراك كنهها، إلا بضرب من التخيّل والتوهم، فأنى لنا أن نصل إلى ذلك، وقد حبس عنّا الكثير من العلم، ولم نؤت إلا قليله {وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} .

3 -

أن ما يجدُّ كل يوم من ضروب المخترعات والتوصل بها إلى طي المسافات بوسائل الطيارات، وقطع المحيطات في قليل الساعات من قارّة إلى قارّة، ومن قطر إلى قطر، ليجعلنا نعتقد أنّ ما جاء في وصف هاتين الرحلتين من الأمور الميسورة التي ليست بالعزيزة الحصول أو الأمور المستحيلة.

4 -

أن روحانية الأنبياء تتغلب على كثافة أجسامهم، فما يخيل إلينا من

ص: 18