الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
15
- وبعد أن ذكر أن القرآن هاد للّتي هي أقوم، وأن الأعمال لازمة لأصحابها .. بيّن أن منفعة العمل، ومضرته راجعة إلى عامله، فقال:{مَنِ اهْتَدى} بهداية القرآن، وعمل بما في تضاعيفه من الأحكام، وانتهى عما نهاه {فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ}؛ أي: فإنّما تعود منفعة اهتدائه إلى نفسه لا تتخطاه إلى غيره، ممن لم يهتد {وَمَنْ ضَلَّ} عن الطريقة التي يهديه إليها {فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها} ؛ أي فإنما وبال ضلاله عليها لا على من عداه ممن لم يباشره حتى يمكن مفارقة العمل من صاحبه.
وقال البيضاوي (1): لا ينجي اهتداؤه غيره، ولا يردي ضلاله سواه؛ أي: في الآخرة، وإلا ففي حكم الدنيا يتعدى نفع الاهتداء، وضرر الضلال إلى الغير، كما يدل عليه قوله تعالى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} .
والمعنى: أي من (2) استقام على طريق الحق، واتبعه، واتبع الدين الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم فنفسه قد نفع، ومن حاد عن قصد السبيل، وسار على غير هدى، وكفر بالله، ورسوله، وبما جاء به من عند ربه من الحق، فلا يضر إلا نفسه، لأنه جعلها مستحقّةً لغضب الله، وأليم عذابه، ثم زاد الجملة الثانية توكيدا، بقوله:{وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ} ؛ أي: ولا تحمل نفس آثمةٌ، ولا غير آثمةٍ {وِزْرَ أُخْرى}؛ أي: إثم نفس أخرى، بطيبة النفس، حتى يمكن تخلّص النفس الثانية من إثمها، بل على كل نفس إثمها دون إثم غيرها من الأنفس، ولكن يحمل عليها إثم غيرها بالقصاص. فإن قلت: ورد في الحديث: «من سنّ سنّةً سيئةً .. فعليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» ، فمقتضاه: أنه يحمل وزره فيكون معارضًا لهذه الآية؟
أجيب: بأنّ المراد بالوزر الذي يحمله في الحديث: وزر التّسبّب، ولا شك أنّ التسبب من فعل الشخص، ومع ذلك فلا ينقص من وزر الفاعل شيء، فالمتسبب الفاعل يعاقب على فعله وتسببه، والفاعل بلا تسبب يعاقب على فعله فقط، ذكره الصاوي.
(1) البيضاوي.
(2)
المراغي.
وفي هذا قطع لأطماعهم الفارغة؛ إذ كانوا يزعمون أنّهم إن لم يكونوا على الحقّ فالتّبعة على أسلافهم الذين قلدوهم، روي عن ابن عباس: أنّ هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة حين قال: اكفروا بمحمد وعليّ أوزاركم، ولا معارضة بين هذه الآية وبين قوله:{لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} وقوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ} ؛ فإن الدعاة إلى الضلال، عليهم إثم ضلالتهم في أنفسهم، وإثم آخر بسبب إضلالهم من أضلوا من غير أن ينقص أوزار أولئك، ولا يرفع عنهم منها شيئًا، وهذا عدل من الله ورحمة منه بعباده.
ثم ذكر عنايته ورحمته بهم، فقال:{وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ} ؛ أي: وما صحّ (1) وما استقام منا، بل استحال في عاداتنا المبنية على الحكم البالغة، أن نعذب أحدًا من أهل الضلال والأوزار اكتفاء بقضية العقل، {حَتَّى نَبْعَثَ} إليهم {رَسُولًا} يهديهم إلى الحق، ويردعهم عن الضلال، ويقيم الحجج ويمهد الشرائع، قطعا للمعذرة، وإلزاما للحجّة، وفيه دلالة على أن البعثة واجبة لا بمعنى الوجوب على الله، بل بمعنى أن قضية الحكمة تقتضي ذلك لما فيه من المصالح والحكم، والمراد بالعذاب المنفيِّ هو العذاب الدنيوي، وهو من مقدمات العذاب الأخرويّ، فجوزوا على الكفر والمعاندة بالعذاب في الدارين وما بينهما أيضًا وهو البرزخ، وفي هذا دليل على أن ما وجب إنما وجب بالسمع لا بالعقل اهـ. خازن؛ أي (2): وما كنا مهلكي قوم إلا بعد الإعذار إليهم بالرسل، وإقامة الحجة عليهم بالآيات التي تقطع أعذارهم.
وخلاصة ذلك: أن سنتنا المبنية على الحكم البالغة، أن لا نعذب أحدًا أي نوع من العذاب الدنيوي أو الأخروي على فعل شيء أو تركه، إلا إذا أرسلنا رسولًا يهدي إلى الحق، ويردع عن الضلال، ويقيم الحجج، ويمهد الشرائع، وتبلغه دعوته.
وعبارة الشوكاني هنا: ولمَّا ذكر الله سبحانه اختصاص المهتدي بهدايته،
(1) روح البيان.
(2)
الشوكاني.
والضال بضلاله، وعدم مؤاخذة الإنسان بجناية غيره، ذكر أنه لا يعذب عباده إلا بعد الإعذار إليهم بإرسال رسله، وإنزال كتبه، فبيّن سبحانه أنه لم يتركهم سدًى، ولا يؤاخذهم قبل إقامة الحجة عليهم، والظاهر: أنّه لا يعذبهم لا في الدنيا، ولا في الآخرة، إلّا بعد الإعذار إليهم بإرسال الرسل، وبه قالت طائفة من أهل العلم، وذهب الجمهور إلى أن المنفي هنا: هو عذاب الدنيا لا عذاب الآخرة، انتهت.
قلت: ومعنى الآية: وما كنا معذبين أحدًا في الدنيا، فلا يعارضه حديث «أبي وأبوك في النار» أو يقال: إنه أحاديث أحاد، فلا يعارض النص القطعيّ.
وقال ابن الجوزي: ومعنى (1){حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} ؛ أي: حتى نبيّن لهم ما به نعذب، وما من أجله ندخل الجنة، قال القاضي أبو يعلى: وفي هذا دليل على أن معرفة الله لا تجب عقلًا، وإنما تجب بالشرع، وهو بعثة الرسل، وأنه لو مات الإنسان قبل ذلك .. لم يقطع عليه بالنار، قال: وقيل معناه: أنه لا يعذب في ما طريقه السمع إلا بقيام حجة السمع من جهة الرسول، ولهذا قالوا: لو أسلم بعض أهل الحرب في دار الحرب، ولم يسمع بالصلاة والزكاة ونحوها لم يلزمه قضاء شيء منها؛ لأنها لا تلزمه إلّا بعد قيام حجة السمع، والأصل فيه: قصة أهل قباء حين استداروا إلى الكعبة، ولم يستأنفوا. ولو أسلم في دار الإسلام، ولم يعلم بفرض الصلاة .. فالواجب عليه القضاء، لأنه قد رأى النّاس يصلون في المساجد، بأذانٍ وإقامة، وذلك دعاء إليها.
الإعراب
{سُبْحانَ} منصوب على المفعولية المطلقة، بفعل محذوف وجوبًا، تقديره: أسبح الله سبحانًا، والجملة المحذوفة مستأنفة، وهو مضاف، {الَّذِي} اسم موصول في محل الجر مضاف إليه، {أَسْرى} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود
(1) زاد المسير.
على الموصول {بِعَبْدِهِ} جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق به {لَيْلًا} منصوب على الظرفية، ومتعلق به أيضًا {مِنَ الْمَسْجِدِ} متعلق به أيضًا {الْحَرامِ} صفة لـ {الْمَسْجِدِ} . {إِلَى الْمَسْجِدِ} متعلق به أيضًا {الْأَقْصَى} صفة أولى لـ {الْمَسْجِدِ} ، والجملة الفعلية صلة الموصول {الَّذِي} اسم موصول صفة ثانية لـ {الْمَسْجِدِ} {بارَكْنا} فعل وفاعل {حَوْلَهُ} منصوب على الظرفية، متعلق بـ {بارَكْنا} {لِنُرِيَهُ} {اللام} حرف جر وتعليل، {نريه} فعل ومفعول منصوب بأن مضمرة جوازا بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على الله، ورأى بصرية {مِنْ آياتِنا} جار ومجرور متعلق بـ {نري} والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لإراءتنا إياه من آياتنا، الجار والمجرور متعلق بـ {أَسْرى} {إِنَّهُ} ناصب واسمه {هُوَ} ضمير فصل {السَّمِيعُ} خبره {الْبَصِيرُ} خبر ثان له، وجملة {إنّ} مستأنفةٌ مسوقةٌ لتعليل ما قبلها.
{وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ} فعل وفاعل، ومفعولان لأن (آتى) بمعنى أعطى، والجملة مستأنفة، {وَجَعَلْناهُ هُدىً} فعل وفاعل، ومفعولان، والجملة معطوفة على جملة {وَآتَيْنا} {لِبَنِي إِسْرائِيلَ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {هُدًى} وهو بمعنى هاد. {أَلَّا} {أن} زائدة {لا} ناهية جازمة {تَتَّخِذُوا} فعل وفاعل مجزوم بـ {لا} الناهية {مِنْ} زائدة {دُونِي} بمعنى غيري، مفعول أول لـ {تَتَّخِذُوا} . {وَكِيلًا} مفعول ثان لها، والجملة الفعلية مقول لقول محذوف تقديره: وقلنا لهم: لا تتخذوا
…
إلخ، وجملة القول المحذوف معطوف على {جَعَلْناهُ} .
{ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)} .
{ذُرِّيَّةَ} منادى مضاف حذف منه حرف النداء؛ أي: يا ذرية من حملنا مع نوح، وجملة النداء مقول لذلك القول المحذوف {مَنْ} اسم موصول بمعنى الذي في محل جر بالإضافة. {حَمَلْنا} فعل وفاعل، والجملة صلة {مَنْ} الموصولة، والعائد محذوف تقديره: من حملناهم {مَعَ نُوحٍ} ظرف، ومضاف إليه حال من الضمير المحذوف، أو متعلق بـ {حَمَلْنا} أو جواب النداء محذوف تقديره: يا ذرية من حملنا مع نوح، كونوا كما كان نوح في العبودية، والانقياد، وفي كثرة الشكر لله
بفعل الطاعات، {إِنَّهُ} ناصب واسمه {كانَ} فعل ماضٍ ناقص واسمه ضمير يعود على نوح {عَبْدًا} خبر {كانَ} . {شَكُورًا} صفته، وجملة {كانَ} في محل الرفع خبر {إن} وجملة {إن} مستأنفة مسوقة لتعليل الجملة المحذوفة.
{وَقَضَيْنا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ} جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق به، و {قضى} يتعدى بنفسه، أو بعلى، وإنما عدّاه هنا بـ {إِلى} لتضمنه معنى أوحينا {فِي الْكِتابِ}: متعلق به أيضًا، ومتعلق القضاء محذوف دل عليه قوله:{لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ} والتقدير: وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب بإفسادهم في الأرض مرتين {لَتُفْسِدُنَّ} : {اللام} موطئة للقسم {تفسدن} فعل مضارع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم، وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال، والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين في محل الرفع فاعل، والأصل: لتفسدونن، والجملة الفعلية: جواب القسم لا محل لها من الإعراب، {فِي الْأَرْضِ}: جار ومجرور متعلق بـ {تفسدن} ، ومفعول الإفساد محذوف تقديره: لتفسدن الأديان في الأرض {مَرَّتَيْنِ} : منصوب على المصدرية، والعامل فيه من غيره، لأنه بمعنى: لتفسدن إفسادتين {وَلَتَعْلُنَّ} : {الواو} عاطفة و {اللام} موطئة للقسم، (تعلن) فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال، والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين في محل الرفع فاعل {عُلُوًّا}: منصوب على المصدرية {كَبِيرًا} : صفة له، والجملة الفعلية جواب لقسم محذوف، وجملة القسم معطوفة على جملة القسم المذكور قبلها.
{فَإِذا} {الفاء} : فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أنكم لتفسدون في الأرض مرتين، وأردتم بيان ما يترتب على كلتا المرتين من العقوبة، فأقول لكم: إذا جاء وعد أولاهما الخ {إذا} ظرف لما يستقبل
من الزمان، {جاءَ وَعْدُ أُولاهُما}: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة في محل الخفض بـ {إذا} على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي {بَعَثْنا}: فعل وفاعل عَلَيْكُمْ: متعلق به {عِبادًا} : مفعول به {لَنا} : صفة {عِبادًا} . {أُولِي بَأْسٍ} : صفة ثانية لـ {عِبادًا} . {شَدِيدٍ} صفة بأس وجملة {بَعَثْنا} جواب {إذا} ، وجملة {إذا} مقول لجواب {إذا} المقدرة، وجملة {إذا} المقدرة مستأنفة. {فَجاسُوا} فعل وفاعل معطوف على {بَعَثْنا} {خِلالَ الدِّيارِ} ظرف، ومضاف إليه متعلق بـ {جاسوا} . {وَكانَ} فعل ماض ناقص واسمها ضمير يعود على البعث {وَعْدًا} خبرها. {مَفْعُولًا} صفته، وجملة {كانَ} مستأنفة.
{ثُمَّ} حرف عطف وتراخ {رَدَدْنا} فعل وفاعل معطوف على {بَعَثْنا} {لَكُمُ} متعلق بـ {رَدَدْنا} {الْكَرَّةَ} مفعول {رَدَدْنا} {عَلَيْهِمْ} متعلق بـ {رَدَدْنا} أو بـ {الْكَرَّةَ} . {وَأَمْدَدْناكُمْ} فعل وفاعل ومفعول معطوف على {رَدَدْنا} {بِأَمْوالٍ} متعلق بـ {رَدَدْنا} {وَبَنِينَ} معطوف على أموال {وَجَعَلْناكُمْ} فعل وفاعل ومفعول أول {أَكْثَرَ} مفعول ثان {نَفِيرًا} تمييز، والجملة الفعلية معطوفة على {أَمْدَدْناكُمْ} .
{إِنْ} حرف شرط جازم، {أَحْسَنْتُمْ} فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إِنْ} على كونه فعل شرط لها، {أَحْسَنْتُمْ} فعل وفاعل في محل الجزم بـ {إِنْ} على كونه جوابًا لها {لِأَنْفُسِكُمْ} متعلق بـ {أَحْسَنْتُمْ} ، وجملة {إِنْ} الشرطية مستأنفة {وَإِنْ أَسَأْتُمْ} جازم وفعل، وفاعل. فَلَها {الفاء} رابطة لجواب الشرط، وجوبًا {لها} جار ومجرور خبر مقدم لمبتدأ محذوف تقديره: فلها الإساءة لا لغيرها، والتعبير باللام لمشاكلة ما قبلها، وإلا فحق المقام أن يكون على، والجملة الاسمية في محل الجزم جواب الشرط، وجملة {إِنْ} الشرطية معطوفة على جملة {إِنْ} الشرطية قبلها، {فَإِذا} {الفاء}: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم كون إساءتكم عليكم، وأردتم بيان ما
يترتب عليها من العقوبة، فأقول لكم: إذا جاء {إذا} ظرف لما يستقبل من الزمان {جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ} فعل وفاعل، ومضاف إليه، والجملة في محل الخفض بـ {إذا} على كونها فعل شرط لها، وجواب الشرط محذوف تقديره: بعثناهم عليكم، وجملة {إذا} في محل النصب مقول لجواب {إذا} المقدرة، {لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ} فعل وفاعل، ومفعول منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي، و {اللام} حرف جر وتعليل، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، والتقدير، بعثناهم عليكم لإساءتهم وجوهكم، والجار والمجرور متعلق بالجواب المحذوف، {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ} فعل وفاعل ومفعول معطوف على {لِيَسُوؤُا} {كَما} {الكاف} حرف جر وتشبيه، {ما} مصدرية {دَخَلُوهُ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية صلة {ما} المصدرية {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {الكاف} والجار والمجرور صفة لمصدر محذوف، والتقدير:{وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ} دخولًا مثل دخولهم، إياه أول مرة، {أَوَّلَ مَرَّةٍ} منصوب على الظرفية متعلق بـ {دخلوا} {وَلِيُتَبِّرُوا} فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، معطوف على {لِيَسُوؤُا} {ما} اسم موصول في محل النصب على المفعولية، أو ما مصدرية ظرفية {عَلَوْا} فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما} إن قلنا: موصولة، والعائد محذوف تقديره، ما علوه أو صلة ما لمصدرية ما مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف المقدر، إليه تقديره؛ وليتبروا مدة علوهم {تَتْبِيرًا} منصوب على المفعولية المطلقة {لِيُتَبِّرُوا} .
{عَسى} فعل ماض بمعنى حقق {رَبُّكُمْ} فاعل {أَنْ يَرْحَمَكُمْ} ناصب وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، والتقدير: حقق ربكم رحمته إياكم، إن تبتم وانزجرتم عن المعاصي {وَإِنْ عُدْتُمْ} جازم وفعل وفاعل {عُدْنا} فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الجزم جواب {إن} الشرطية، وجملة {إن} الشرطية مستأنفة {وَجَعَلْنا} فعل وفاعل {جَهَنَّمَ} مفعول أول {لِلْكافِرِينَ} متعلق بما بعده {حَصِيرًا} مفعول ثان لـ {جعل} والجملة الفعلية: مستأنفة.
{إِنَّ} حرف نصب وتوكيد {هذَا} في محل النصب اسمها {الْقُرْآنَ} بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان له، {يَهْدِي} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {الْقُرْآنَ} ومفعوله محذوف تقديره: الناس كافّة، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنَّ} ، وجملة {إِنَّ} مستأنفة {لِلَّتِي} جار ومجرور متعلق بـ {يَهْدِي} {هِيَ أَقْوَمُ} مبتدأ، وخبر، والجملة صلة الموصول، {وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ} فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على {الْقُرْآنَ} ، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة {يَهْدِي} {الَّذِينَ} اسم موصول صفة لـ {الْمُؤْمِنِينَ} {يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ} فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول {إِنَّ} حرف نصب ومصدر {لَهُمْ} خبرها مقدم {أَجْرًا} اسمها مؤخر {كَبِيرًا} صفة {أَجْرًا} وجملة {إِنَّ} في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف متعلق بـ {يُبَشِّرُ} والتقدير: ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات بكون أجر كبير لهم.
{وَأَنَّ الَّذِينَ} ناصب واسمه {لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} صلة الموصول {أَعْتَدْنا} فعل وفاعل {لَهُمْ} متعلق به {عَذابًا} مفعول به {أَلِيمًا} صفة له، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {أَنَّ} ، والرابط ضمير {لَهُمْ} ، وجملة {أَنَّ} مع اسمها وخبرها في محل الجر بحرف جر محذوف، معطوف على جملة {إِنَّ} الأولى، والتقدير: ويبشر المؤمنين بشيئين: بكون أجر كبير لهم، وبكون عذاب أليم للذين لا يؤمنون بالآخرة، ولا شكّ أنّ ما يصيب أعداءهم سرور لهم، أو في محل الجر بحرف جر محذوف، متعلق بعامل محذوف تقديره: ويخبر بأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابًا أليمًا. {وَيَدْعُ} {الواو} استئنافية {وَيَدْعُ الْإِنْسانُ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، وتقول في تطبيق إعرابه:{يَدْعُ} فعل مضارع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم، وعلامة رفعه ضمّة مقدّرة على الواو المحذوفة لفظًا للتخلص من التقاء الساكنين، وخطًّا تبعًا للفظ منع من ظهورها
الثقل؛ لأنه فعل معتل بالواو، {بِالشَّرِّ} جار ومجرور متعلق بـ {يَدْعُ} {دُعاءَهُ} منصوب على المفعولية المطلقة لـ {يَدْعُ} {بِالْخَيْرِ} متعلق به، ولكنه على التشبيه، والتقدير: ويدع الإنسان بالشر دعاء كدعائه بالخير في الإلحاح، والإكثار، {وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا} فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة مستأنفة.
{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ} : فعل وفاعل ومفعولان، والجملة مستأنفة {فَمَحَوْنا} {الفاء} تفسيرية {محونا} فعل، وفاعل {آيَةَ اللَّيْلِ} مفعول به، والجملة معطوفة على جملة {جَعَلْنَا}. وفي «أبي السعود»: و {الفاء} في {محونا} تفسيرية؛ لأن المحو المذكور، وما عطف عليه ليسا مما يحصل عقب جعل الليل والنهار آيتين، بل هما من جملة ذلك الجعل، ومتمماته. اهـ. {وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ} فعل وفاعل، ومفعول أول {مُبْصِرَةً} مفعول ثان لـ {جعل} والجملة معطوفة على جملة {محونا} {لِتَبْتَغُوا} فعل وفاعل منصوب بـ {أن} مضمرة بعد لام كي، {فَضْلًا} مفعول به {مِنْ رَبِّكُمْ} جار ومجرور صفة {فَضْلًا} والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور بـ {اللام} ، والجار والمجرور متعلق بـ {جَعَلْنَا}؛ أي: وجعلنا آية النهار مبصرة لابتغائكم فضلًا من ربكم، {وَلِتَعْلَمُوا} فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، {عَدَدَ السِّنِينَ} مفعول به، {وَالْحِسابَ} معطوف على عدد السنين، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، الجار والمجرور متعلق بكلا الفعلين، أعني {محونا} {وَجَعَلْنَا}؛ والتقدير: فمحونا آية الليل، وجعلنا آية النهار مبصرة لمعرفتكم عدد السنين والحساب، {وَكُلَّ شَيْءٍ}: منصوب بفعل محذوف وجوبًا، يفسره المذكور بعده، تقديره: وبينا كل شيء فصلناه، والجملة المحذوفة مستأنفة، {فَصَّلْناهُ} فعل وفاعل ومفعول {تَفْصِيلًا} منصوب على المصدرية، والجملة الفعلية جملة مفسّرة لا محلّ لها من الإعراب.
{وَكُلَّ} {الواو} استئنافية {كُلَّ} منصوب بفعل محذوف وجوبًا، يفسره المذكور بعده، تقديره: وألزمنا كل إنسان ألزمناه، والجملة المحذوفة مستأنفة، {إِنسانٍ} مضاف إليه {أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ}: فعل وفاعل ومفعولان، والجملة الفعلية جملة مفسرة لا محلّ لها من الإعراب، {فِي عُنُقِهِ}: جار ومجرور متعلق، بـ {أَلْزَمْناهُ وَنُخْرِجُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله {لَهُ} متعلق به {يَوْمَ الْقِيامَةِ}: ظرف متعلق به أيضًا {كِتابًا} : مفعول به، وجملة {نُخْرِجُ} معطوفة على جملة {أَلْزَمْناهُ} {يَلْقاهُ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الإنسان، والجملة الفعلية في محل النصب صفة لـ {كِتابًا} {مَنْشُورًا} صفة ثانية لـ {كِتابًا} أو حال من ضمير {يَلْقاهُ} . {اقْرَأْ كِتابَكَ} فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الإنسان، والجملة في محل النصب مقول لقول محذوف تقديره: ويقال له: اقرأ كتابك {كَفى بِنَفْسِكَ} فعل وفاعل، و {الباء} زائدة، والجملة في محل النصب مقول للقول المحذوف أيضًا، {الْيَوْمَ} ظرف متعلق بـ {كَفى} {عَلَيْكَ} متعلق بما بعده {حَسِيبًا} تمييز لفاعل {كَفى} .
{مَنِ} اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما {اهْتَدى} فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {مَنِ} والجملة في محل الجزم بـ {مَنِ} على كونه فعل شرط لها، {فَإِنَّما} {الفاء} رابطة لجواب {مَنِ} الشرطية جوازًا {إنما} أداة حصر {يَهْتَدِي} فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على {مَنِ} لِنَفْسِهِ متعلق به، والجملة في محل الجزم بـ {مَنِ} الشرطية على كونها جواب شرط لها، وجملة {مَنِ} الشرطية مستأنفة {وَمَنْ} اسم شرط مبتدأ، والخبر جملة الجواب {ضَلَّ} فعل شرط لها {فَإِنَّما يَضِلُّ} جواب شرط لها {عَلَيْها} متعلق به، وجملة {مَنِ} الشرطية معطوفة على جملة {مَنِ} الأولى. {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {وِزْرَ أُخْرى} مفعول به، ومضاف إليه، {وَما} {الواو} عاطفة ما نافية {كُنَّا مُعَذِّبِينَ} فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة معطوفة على جملة قوله:{وَلا تَزِرُ} . {حَتَّى} حرف جر وغاية {نَبْعَثَ}
فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد {حَتَّى} بمعنى إلى، وفاعله ضمير يعود على الله، {رَسُولًا} مفعول به، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى} بمعنى إلى تقديره؛ وما كنا معذبين إلى بعثنا رسولا. الجار والمجرور متعلق بـ {مُعَذِّبِينَ} .
التصريف ومفردات اللغة
{سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ} {سُبْحانَ} مصدر سماعي لسبح المشدد؛ أو اسم مصدر له، أو مصدر قياسي لسبح المخفف، فإنّه يقال: سبح في الماء، وفيه: معنى البعد، والتنزيه، فيه بعد عن النقائص، وعلى كل، فهو علم جنس للتنزيه، والتقديس، ويقال: أسرى وسرى بمعنى سار في الليل، وهما لازمان، لكن مصدر الأول: الإسراء، ومصدر الثاني: السُّرى بضم السين كهدى، فالهمزة ليست للتعدية إلى المفعول، وإنما جاءت التعدية هنا من الباء، ومعنى أسرى به صيّره ساريًا في الليل {الْكِتابَ} هو التوراة {وَكِيلًا}؛ أي: كفيلًا تكلون إليه أموركم {شَكُورًا} ؛ أي: كثير الشكر {وَقَضَيْنا} ؛ أي: أعلمنا بالوحي {لَتَعْلُنَّ} ، أي لتستكبرن عن طاعة الله.
{مَرَّتَيْنِ} والمرتان: تثنية مرة، وهي الواحدة من المر؛ أي المرور على حد قوله: وفعلة لمرة كجلسة، وفي «القاموس»: مرّ مرًا، ومرورًا جاز وذهب كاستمر ومره جاز عليه، والمرة: الفعلة الواحدة، والجمع مرّ بالضم، ومرار بالكسر، ومرر كعنب، ولقيه ذات مرة لا يستعمل إلا ظرفًا، وذات المرار؛ أي: مرارًا كثيرة، وجئته مرًا، أو مرين؛ أي: مرة أو مرتين اهـ.
{وَعْدُ أُولاهُما} ، والوعد الموعود به، وهو العقاب، فهو مصدر واقع موقع مفعول، وتركه الزمخشريّ على حاله، لكن بحذف مضاف؛ أي: وعد عقاب أولاهما اهـ سمين {فَجاسُوا} ، وفي «القاموس» الجوس بالجيم طلب الشيء بالاستقصاء، والتردد خلال الديار، والبيوت، والطواف فيها كالجوسان، والاجتياس وبابه قال: اهـ ثم قال: والحوس بالحاء المهملة: الجوس اهـ وفي «السمين» {فَجاسُوا} عطف على {بَعَثْنا} ، أي: ترتب على بعثنا إياهم هذا و (الجوس) بفتح
الجيم وضمها: مصدر جاس، يجوس، والمعنى هنا: تردّدوا لطلبكم بالفساد {خِلالَ الدِّيارِ} . قال في «القاموس» الخلل منفرج ما بين الشيئين، ومن السحاب: مخارج الماء كخلاله، وخلال الديار أيضًا ما حوالي جدرها، وما بين بيوتها انتهى. قالوا: يجوز أن يكون مفردًا بمعنى الوسط، أو جمع خلل بمعنى الأوساط، مثل جبلٍ، وجبالٍ، وجَملٍ، وجمالٍ والديار: جمع دار، وهو المحل يجمع البناء، والعرصة، والمعنى مشوا في وسط المنازل، أو أوساطها للقتل والأسر، والغارة فقتلوا علماءهم وكبارهم، وحرّقوا التوراة، وخرّبوا المسجد وسبوا منهم سبعين ألفًا، وذلك من قبيل تولية بعض الظالمين بعضا مما جرت به السنة الإلهية.
{أُولِي بَأْسٍ} والبؤس، والبأس، والبأساء: الشدّة والمكروه، كما قال الراغب. إلّا أنّ البؤس كثر استعماله في الفقر، والحرب، والبأس، والبأساء، في النّكاية بالعدو {الْكَرَّةَ} وهي في الأصل مصدر: كرّ يكرّ إذا: رجع، والكرّة: الدولة والغلبة، وأصل الكرّ: العطف والرجوع {نَفِيرًا} والنفير والنافر، من ينفر مع الرجل من عشيرته، وأهل بيته {تَتْبِيرًا} والتتبير: الإهلاك، وهي كلمة نبطيّة كما روي عن سعيد بن جبير، وكل شيء كسرته وفتته .. فقد تبّرته. {ما عَلَوْا}؛ أي: ما غلبوا واستولوا عليه من بلادكم، أصله: عليوا تحركت الياء، وانفتح ما قبلها، قلبت ألفا، فالتقى ساكنان فحذفت الألف. فصار علوّا بوزن فعوا {حَصِيرًا} الحصير المحبس، والسّجن، والمقر. يحصرون فيه، لا يستطيعون الخروج منها أبد الآباد، فهو فعيل بمعنى فاعل؛ أي: حاصرة لهم، ومحيطة بهم، كما مر في مبحث التفسير، وفي «الشهاب» قوله: محبسًا، أي: مكان الحبس المعروف، فإن كان حصيرًا، اسم مكان. فهو جامد لا يلزم تذكيره، ولا تأنيثه، وإن كان بمعنى حاصرًا؛ أي: محيطًا بهم، وفعيل بمعنى فاعل، يلزم مطابقته، فكأن يقال: حصيرة، فإما لأنه على النسب كلابن، وتامر، أو لحمله على فعيل بمعنى مفعول، أو لأنّ تأنيث جهنّم غير حقيقي، أو لتأويلها بمذكر كالسجن والحبس اهـ.
{وَيَدْعُ الْإِنْسانُ} ، والقياس: أن تثبت واو يدع لأنه مرفوع؛ إلا أنه لما وجب
سقوطها لفظًا لاجتماع الساكنين، سقطت في الخط أيضًا على خلاف القياس، ونظيره:{سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18)} اهـ زاده والمراد بالإنسان: الجنس: لأن أحدًا من الناس لا يعرى عن عجلة، ولو تركها .. لكان تركها أصلح في الدين والدنيا اهـ كرخي.
{وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا} وإنما ذكر المصدر لأجل تأكيد الكلام، وتقريره، فكأنه قال: فصلناه حقًا على الوجه الذي لا مزيد عليه اهـ. كرخي {وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ} ؛ أي: عمله سمي به، إمّا لأنه طار إليه من عشّ الغيب، وإمّا لأنه سبب الخير والشر كما قالوا: طائر الله لا طائرك؛ أي: قدر الله الغالب الذي يأتي بالخير والشر، لا طائرك الذي تتشاءم به، وتتيمّن؛ إذ جرت عادتهم بأن يتفاءلوا بالطّير، ويسمّونه زجرا، فإن مرّ بهم من اليسار إلى اليمين تيمنوا به، وسمّوه سانحا، وإن مر من اليمين إلى اليسار تشاءموا منه، وسمّوه بارحًا.
{كِتابًا} هو صحيفة عمله {مَنْشُورًا} ؛ أي: غير مطوي {حَسِيبًا} ، أي: حاسبًا، أي: عادًا له يعد عليه أعماله، وهو تمييز، و {عَلَيْكَ} متعلق به، وهو إما بمعنى الحاسب، أو بمعنى الكافي اهـ من البيضاوي وفي «السمين» قوله:{حَسِيبًا} فيه وجهان:
أحدهما: أنه تمييز، قال الزمخشري: وهو بمعنى حاسب، كضريب بمعنى ضارب، وصريم بمعنى صارم، ذكرهما سيبويه، و {عَلَيْكَ} متعلق به من قولك: حسب عليه كذا، ويجوز أن يكون بمعنى الكافي، ووضع موضع الشهيد، فعدّي بعلى؛ لأنّ الشّاهد يكفي المدّعي ما أهمه، فإن قلت: لم ذكر حسيبًا؟ قلت: لأنه بمنزلة الشاهد، والقاضي، والأمين وهذه الأمور يتولاها الرجال، فكأنه قيل: كفى بنفسك رجلًا حسيبًا، ويجوز أن تؤول النفس بمعنى الشخص كما يقال: ثلاثة أنفس:
والثاني: أنه منصوب على الحال، وذكر لما تقدّم، وقيل: حسيب بمعنى محاسب كخليط، وجليس بمعنى مخالط، ومجالس اهـ {وِزْرَ أُخْرى} ، والوزر: الإثم، والذنب يقال منه: وزر يزر فهو وازر، وهي وازرة، أي: نفس وازرة، وقال في «القاموس» الوزر بالكسر الإثم، والثّقل، والحمل الثقيل انتهى.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التعجيب المستفاد من قوله: {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ} لأن فيه معنى التعجب، فكأنه قال: تعجبوا أو اعجبوا من قدرة الله تعالى على هذا الأمر العجيب.
ومنها: الإضافة للتشريف، والتكريم في قوله:{بِعَبْدِهِ} . ووصفه بالعبودية؛ لأنّ هذا المقام أشرف المقامات، والعبودية أشرف أوصاف الإنسان كما قال القاضي عياض رحمه الله تعالى:
وممّا زادني شرفًا وتيها
…
وكدت بأخمصي أطأ الثُّرَيَّا
دخولي تحت قولك يا عبادي
…
وأن صيَّرت أحمد لِيْ نبيَّا
ومنها: التأكيد بـ {لَيْلًا} ، إذ الإسراء في لسان العرب لا يكون إلّا ليلًا حتى لا يتخيل أنه كان نهارًا.
ومنها: التنكير في {لَيْلًا} لإفادة تقليل مدة الإسراء، في جزء من الليل، قيل: قدر أربع ساعات، وقيل: ثلاث ساعات، وقيل: أقل من ذلك، وذلك لأن التّنكير قد يكون للتقليل، والتقليل والتبعيض: متقاربان، فاستعمل في التبعيض، ما هو للقليل. اهـ كرخي.
وهذا بخلاف ما لو قيل: أسرى بعبده الليل .. فإن التركيب مع التعريف يفيد استغراق السّير لجميع أجزاء الليل. اهـ شيخنا. ومنها: الالتفات من الغيبة في قوله: {الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ} إلى التكلم في قوله: {بارَكْنا} و {لِنُرِيَهُ} ، ثم التفت منه إلى الغيبة في قوله:{إِنَّهُ هُوَ} إن أعدنا الضمير إلى الله تعالى، وهو الصحيح ففي الكلام التفاتان، وقرأ الحسن ليريه بالياء من تحت، أي: الله تعالى، وعلى هذه القراءة يكون في هذه الآية أربعة التفاتات، وذلك أنه التفت أولًا من الغيبة في قوله:{الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ} إلى التكلم في قوله: {بارَكْنا} ، ثمّ التفت ثانيًا من التكلم في {بارَكْنا} إلى الغيبة في
(ليَريه) على هذه القراءة، ثم التفت ثالثًا من هذه الغيبة إلى التكلم في {آياتِنا} ، ثمّ التفت رابعًا من هذا التكلم إلى الغيبة في قوله:{إِنَّهُ هُوَ} على الصحيح في الضمير أنه لله تعالى وأما على قول نقله أبو البقاء أن الضمير في {إِنَّهُ هُوَ} للنبيّ صلى الله عليه وسلم فلا يجىء ذلك، ويكون في قراءة العامة التفات واحد، وفي قراءة الحسن ثلاثة، وهذا موضع غريب، وأكثر ما ورد الالتفات ثلاث مرّات على ما قاله الزمخشري في قول امرىء القيس:
تطاول ليلك بالإثمد
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} .
ومنها: التعبير عن المستقبل بالماضي في قوله: {ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ} لأن الرّدّ لم يقع وقت الإخبار، لكن لتحقّقه عبّر بالماضي.
ومنها: الطباق بين {أَحْسَنْتُمْ} و {أَسَأْتُمْ} .
ومنها: المجاز العقليُّ في قوله: {آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً} ؛ لأن النهار لا يبصر، بل يبصر فيه، فهو من إسناد الشيء إلى زمانه، ومنها: التأكيد في قوله: {فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا} ذكر المصدر، وهو قوله:{تَفْصِيلًا} لأجل تأكيد الكلام وتقريره، فكأنه قال: فصلناه حقًّا على الوجه الذي لا مزيد عليه.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} استعير الطّائر لعمل العبد، بجامع الانتقال في كل، فكما أن الطائر ينتقل من عشه، ووكره، ينتقل عمل العبد من عش الغيب، والقدر، إلى العبد.
ومنها: الطباق بين {ضَلَّ} و {مَنِ اهْتَدى} .
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ} .
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: {اقْرَأْ كِتابَكَ} ؛ أي: يقال له، يوم القيامة: اقرأ كتابك.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
المناسبة
قوله تعالى: {وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها
…
} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر أنه لا يعاقب أحدًا منهم إلا إذا أرسل إليهم رسولًا يبلغ رسالات ربهم رحمة بهم ورأفة .. أعقب ذلك بأن عذابه إنما يكون بكسب العبد واختياره، وأنّ هذا واقع بتقدير الله تعالى وعلمه، وإذا وقعت المعصية حلّت العقوبة بعذاب الاستئصال كما فعل بكثير من الأمم التي
من بعد نوح كعاد، وثمود، والله عليم بأفعالهم وبما يستحقون، ثمّ قسم العباد قسمين: قسم يحبّ الحياة الدنيا ويعمل لها، وعاقبته دار البوار، وبئس القرار، وقسم يعمل للآخرة، ويسعى لها سعيها وهو مؤمن، وأولئك سعيهم مشكور، مقبول عند ربهم، ولهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وهؤلاء يمدهم ربهم بعطائه؛ إذ ليس عطاؤه بممنوع من أحد، ولكن قد فضّل بعضهم على بعضٍ في أرزاق، ومراتب التفاوت في الآخرة أكثر من درجات التفاوت في الدنيا، وأبعد مدى.
قوله تعالى: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ
…
} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر أنّ الناس فريقان (1): فريق يريد بعمله الدنيا فقط، وعاقبتهم العذاب والوبال، وفريق يريد بعمله طاعة الله تعالى، وهم أهل مرضاته، والمستحقون لثوابه، وقد اشترط لنيلهم ذلك أن يعملوا للآخرة، وأن يكونوا مؤمنين، لا جرم فصّل الله في هذه الآية حقيقة الإيمان والأعمال التي إذا عملها المؤمن كان ساعيا للآخرة، وصار من الذين سعد طائرهم، وحسن حظهم. ثم أعقب ذلك بذكر ما هو من شعائر الإيمان وشرائطه، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وبعدئذ أتبع ذلك بالأمر ببر الوالدين من قبل أنّهما السبب الظاهر في وجوده، وبالأمر بإيتاء ذوي القربى حقوقهم، ثمّ بالأمر بإصلاح أحوال المساكين، وأبناء السبيل؛ لأن في إصلاحهما إصلاح المجتمع، والمسلمون كلّهم إخوة، وهم يد على من سواهم، ثم قفّى على ذلك بالنهي عن التبذير، لما فيه من إصلاح حال المرء، وعدم ارتباكه في معيشته، وصلاحه إصلاح للأمة جمعاء، فما الأمم إلا مجموعة الأفراد، ففي صلاحهم صلاحها، ثمّ علّمنا سبيل إنفاق المال على الوجه الذي يرضاه الدين، ويرشد إلى حسنه العقل، وبعدئذ نهانا عن قتل الأولاد خشية الفقر، وبيّن أنّ الكفيل بأرزاقهم وأرزاقكم هو ربكم، فلا وجه للخوف من ذلك، ثمّ تلا هذا بالنهي عن الزنا، لما فيه من اختلاط الأنساب وفقدان النسل أو قلّته ووقوع الشّغب والقتال بين الناس دفاعًا عن
(1) المراغي.
العرض، ثم بالنهي عن القتل لهذا السبب عينه.
وقال أبو حيان: قوله تعالى: {وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا
…
} مناسبة (1) اقتران برّ الوالدين بإفراد الله بالعبادة من حيث إنه تعالى هو الموجد حقيقة، والوالدان وساطة في إنشائه، وهو تعالى المنعم بإيجاده وإيجاد رزقه، وهما ساعيان في مصالحه.
قوله سبحانه تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبى
…
} الآية، لما أمر الله تعالى ببر الوالدين .. أمر بصلة القرابة.
وقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ
…
} الآية، لمّا بيّن الله تعالى أنه هو المتكفّل بأرزاق العباد حيث قال: إن ربّك يبسط الرّزق لمن يشاء ويقدر .. أتبعه بالنهي عن قتل الأولاد.
قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى
…
} الآية، لما نهى الله تعالى عن قتل الأولاد .. نهى عن التسبب في إيجاده من الطريق غير المشروعة، فنهى عن قربان الزنا، واستلزم ذلك النّهي عن الزنا.
قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ
…
} الآية، لمّا نهى الله عن قتل الأولاد، وعن إيجادهم من الطريق غير المشروعة .. نهى عن قتل النفس، فانتقل من الخاص إلى العامّ، والظاهر أنّ هذه كلها منهيات مستقلة ليست مندرجة تحت قوله:{وَقَضى رَبُّكَ} كاندراج {أَلَّا تَعْبُدُوا} انتهى.
أسباب النزول
قوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبى
…
} الآية، سبب نزولها (2): ما أخرجه الطبراني وغيره عن أبي سعيد الخدري، قال: لمّا أنزلت {وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ
…
} الآية. دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة فأعطاها فدك. قال ابن كثير: هذا مشكل، فإنه يشعر بأنّ الآية مدنية، والمشهور خلافه، وروى ابن مردويه عن ابن عباس مثله.
قوله تعالى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ
…
} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه سعيد بن
(1) البحر المحيط.
(2)
لباب النقول.