المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

هو دليل على جوابه؛ أي: إذ اعتزلتموهم اعتزالًا اعتقاديًا، فاعتزلوهم - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ١٦

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: هو دليل على جوابه؛ أي: إذ اعتزلتموهم اعتزالًا اعتقاديًا، فاعتزلوهم

هو دليل على جوابه؛ أي: إذ اعتزلتموهم اعتزالًا اعتقاديًا، فاعتزلوهم اعتزالًا جسمانيًّا، وإذا أردتم اعتزالهم فافعلوا ذلك بالالتجاء إلى الكهف، وفيه إشارةٌ إلى أن الاعتزال الاعتقادي يوجب الاعتزال الجسماني، {يَنْشُرْ لَكُمْ}؛ أي: يبسط لكم ويوسع عليكم {رَبُّكُمْ} ؛ أي: مالك أمركم {مِنْ رَحْمَتِهِ} ؛ أي: من تفضّله، وإنعامه في الدارين {وَيُهَيِّئْ لَكُمْ}؛ أي: يسهل لكم {مِنْ أَمْرِكُمْ} الذي أنتم بصدده من الفرار بالدين {مِرْفَقًا} ؛ أي: ما ترتفقون، وتنتفعون به غدًا، وجزمهم بذلك لخلوص يقينهم عن شوب الشك، وقوة وثوقهم.

أي: وإذ (1) فارقتموهم، وخالفتموهم في عبادتهم غير الله، ففارقوهم بأبدانكم، والجؤوا إلى الكهف، وأخلصوا لله العبادة في مكان تتمكنون منها بلا رقيب، ولا حسيب، وإنّكم إن فعلتم ذلك، فالله تعالى يبسط لكم الخير من رحمته في الدارين، ويسهّل لكم من أمر الفرار بدينكم، والتوجّه إليه في عبادتكم ما ترتفقون وتنتفعون به، أخرج الطبراني وابن المنذر عن ابن عباس قال: ما بعث الله نبيّا إلا وهو شابّ. وقرأ {قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ 60} ، {وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ} {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ} وقرأ (2) أبو جعفر، والأعرج وشيبة، وحميد، وابن سعدان، ونافع، وابن عامر، وأبو بكر، في رواية الأعشى، والبرجميّ، والجعفي عنه، وأبو عمرو في رواية هارون، بفتح الميم وكسر الفاء، وهو مصدر جاء شاذّا، كالمرجع والمحيض، فإن قياسه الفتح، وقرأ ابن أبي إسحاق، وطلحة، والأعمش، وباقي السبعة بكسر الميم وفتح الفاء؛ أي: رفقًا.

‌17

- ثم بيّن سبحانه حالهم بعد أن أووا إلى الكهف، فقال:{وَتَرَى الشَّمْسَ} يا محمد، أو يا من يصلح للخطاب ويتأتى منه الرؤية، وليس المراد به الإخبار بوقوع الرؤية تحقيقًا بل الإنباء بكون الكهف بحيث لو رأيته ترى الشمس {إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ} أي تتزاور وتتنحّى وتميل بحذف إحدى التائين، من الزور بفتح الواو، وهو الميل {عَنْ كَهْفِهِمْ} الذي .. أووا إليه، فالإضافة لأدنى ملابسة

(1) المراغي.

(2)

البحر المحيط.

ص: 299

{ذاتَ الْيَمِينِ} ؛ أي: جهة (1) ذات يمين الكهف عند توجه الداخل إلى قعره؛ أي: جانبه الذي يلي المغرب، فلا يقع عليهم شعاعها، فيؤذيهم؛ لأنّ الكهف كان جنوبيًا؛ أي: كانت ساحته داخلة في جانب الجنوب، أو زوّرها الله عنهم، وصرفها على منهاج خرق العادة، كرامةً لهم، وحقيقتها: الجهة ذات اسم اليمين؛ أي: الجهة المسماة باسم اليمين، {وَإِذا غَرَبَتْ}؛ أي: تراها عند غروبها. {تَقْرِضُهُمْ} ، أي: تقطعهم وتتركهم {ذاتَ الشِّمالِ} ؛ أي: جهة ذات شمال الكهف، أي: جانبه الذي يلي المشرق، وجملة قوله:{وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ} في محل نصب على الحال؛ أي: والحال أنهم في فجوة متسع من ذلك الكهف، ووسطه، فيصيبهم نسيم الهواء وبرده.

وخلاصة ذلك (2): أنهم طول نهارهم لا تصيبهم الشمس في طلوعها، ولا في غروبها، إذ كان باب الكهف في مقابلة بنات نعش، فهو إلى الجهة الشمالية، والشمس لا تسامت ذلك أبدًا، لأنّها لا تصل إلى أبعد من خط السرطان، وكل بلاد بعده إلى جهة الشّمال تكون الشمس من ورائها لا أمامها، فيكون الظلّ مائلًا جهة الشمال طول السنة، كما يعلم ذلك من علم الفلك، وإيضاح ذلك أنه لو كان باب الكهف في ناحية الشرق، لمّا دخل إليه شيء منها حين الغروب، ولو كان من ناحية الجنوب، لما دخل منها شيء حين الطلوع ولا الغروب، وما تزاور الفيء لا يمينًا ولا شمالًا، ولو كان جهة الغرب لما دخلته وقت الطلوع، بل بعد الزوال، ولا تزال فيه إلى الغروب.

تنبيه: وهنا إشكالٌ لأنه قد تقدّم في القصة أنّ الملك الظالم الذي فرّوا منه بنى على باب الكهف سدًّا، وقال: لكي يموتوا جوعًا وعطشًا، وأنّ السد استمرّ عليهم مدة لبثهم نيامًا، وأنّ الملك الصالح اجتمع بهم حين تيقّظوا، وبنى على باب الغار مسجدًا، بعد موتهم، وصريح هاتين الآيتين يردّ هذا ويبطله، إذ لو كان

(1) روح البيان.

(2)

المراغي.

ص: 300

باب الغار قد سدّ كما ذكر، لم يستقم قوله:{وَتَرَى الشَّمْسَ} إلخ فليتأمّل وليحرّر، وقرأ (1) الحرميان - نافع وابن كثير - وأبو عمرو:{تزَّاورَ} بإدغام تاء تتزاور في الزاي، وقرأ الكوفيون، والأعمش، وطلحة، وابن أبي ليلى، وابن مناذر، وخلف، وأبو عبيد، وابن سعدان، ومحمد بن عيسى الأصبهاني، وأحمد بن جبير الأنطاكي، بتخفيف الزاي، إذا حذفوا التاء، وقرأ ابن أبي إسحاق وابن عامر، وقتادة، وحميدٌ، ويعقوب، عن العمري {تَزْوَرُّ} على وزن تحمر، وقرأ الجحدريُّ، وأبو رجاء، وأيّوبٌ السختيانيُّ، وابن أبي عبلة، وجابر، وورد عن أيوب {تَزْوَارُّ} على وزن تحمار، وقرأ ابن مسعود، وأبو المتوكل {تَزْوَأَرُّ} بهمزة قبل الراء، على وزن قولهم: ادهأمَّ واشْعَأل فرارًا من التقاء الساكنين، وكلّها بمعنى الزور، بمعنى الميل، وقرأ الجمهور {تَقْرِضُهُمْ} بالتاء، وقرأت فرقة بالياء؛ أي: يقرضهم الكهف، وللمفسرين (2) في تعيين مكان الكهف أقوال، فقيل: هو قريب من إيلياء - بيت المقدس - ببلاد الشام، وقال ابن إسحاق عند نينوى ببلاد الموصل، وقيل: ببلاد الروم، ولم يقم إلى الآن الدّليل على شيء من ذلك، ولو كان لنا في معرفة ذلك فائدة دينية .. لأرشدنا الله إليه، كما قال صلى الله عليه وسلم:«ما تركت شيئًا يقرّبكم إلى الجنة ويباعدكم من النار، إلا وقد أعلمتكم به» .

وخلاصة ذلك: أي إن هدايتهم إلى التوحيد، ومخالفتهم قومهم، وآباءهم، وعدم الاكتراث بهم وبملكهم مع حداثتهم، وإيواءهم إلى كهف تلك صفته، بحيث تزاور الشمس عنهم طالعةً، وتقرضهم غاربة، وإخبارك بقصصهم، كل ذلك {مِنْ آياتِ اللَّهِ} سبحانه وتعالى الكثيرة في الكون الدالّة على كمال قدرته، وعلى أنّ التّوحيد هو الدين الحق، وعلى أن الله يكرم أهله.

والمعنى (3): أي ما صنع الله بهم من تزاور الشمس وقرضها حالتي الطلوع والغروب، مع كونهم في موقع شعاعها من آيات الله العجيبة الدالة على كمال

(1) البحر المحيط.

(2)

المراغي.

(3)

روح البيان.

ص: 301