المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

«الدنيا كسوق قام ثمّ انفض».   وقرأ ابن مسعود، وأبي وابن عباس، - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ١٦

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: «الدنيا كسوق قام ثمّ انفض».   وقرأ ابن مسعود، وأبي وابن عباس،

«الدنيا كسوق قام ثمّ انفض» .

وقرأ ابن مسعود، وأبي وابن عباس، وابن أبي عبلة (1):{تذريه} بضم التاء وكسر الراء، بعدها ياء ساكنة، وهاء مكسورة من أذرى الرباعيّ إلا أنّ ابن مسعود فتح التاء، وقرأ (2) زيد بن علي، والحسن، والنخعي، والأعمش، وطلحة، وابن أبي ليلى، وابن محيصن، وخلف، وابن عيسى، وابن جرير {الريح} على الإفراد، وقرأ الجمهور {تَذْرُوهُ الرِّياحُ} بالجمع {وَكانَ اللَّهُ} سبحانه ذو الكمال والجلال {عَلى كُلِّ شَيْءٍ} شاءه من الإنشاء والإبقاء، والإفناء {مُقْتَدِرًا}؛ أي: قادرًا لا يعجزه شيء، والمقتدر مفتعل من قدرت؛ أي: وكان (3) الله ذو الجلال والجمال قادرًا على كل شيءٍ إنشاءً وفناءً وإعادة فهو يوجد الأشياء، ثم ينميها ثم يفنيها، وما حال الدنيا إلا هذه الحال، فهي تظهر أوّلًا ناضرةً ظاهرةً، ثمّ تتزايد قليلًا قليلًا، ثمّ تأخذ في الانحطاط إلى أن تصير إلى الهلاك، والفناء، فلا ينبغي للعاقل أن يبتهج بما يحوزه منها، أو يفخر به، أو يصعّر خدّه استكبارًا،

‌46

- ثم بين سبحانه ما كانوا يفتخرون به من محسنات الدنيا، إثر بيان حالها بما مرّ من المثل، فقال:{الْمالُ وَالْبَنُونَ} اللذان يفتخر بهما الناس، لا سيّما رؤساء العرب وأغنياؤهم، {زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا}؛ أي: شيءٌ يتزينون به في الحياة الدنيا، ويفنى عنهم عن قريب، وليسا من زاد الآخرة، فيقبح بالعاقل أن يفتخر بهما، والزّينة (4) مصدر في الأصل، أطلق على المفعول مبالغة، كأنهما نفس الزينة، وقدم (5) المال على البنين مع كونهم أعزّ منه لدى جميع الناس من قبل أنّ الزينة به أتمّ، ولأنه يمدّ الآباء والأبناء في كل حين، ولأنه مناط ببقاء النفس والأولاد، وبذا يبقى النوع الإنساني، ولأنّ الحاجة إليه أمس من الحاجة إليهم، ولأنه زينة بدونهم، دون العكس، فإنّ من له بنون ولا مال له، فهو في بؤس وشقاء.

(1) زاد المسير.

(2)

البحر المحيط.

(3)

المراغي.

(4)

روح البيان.

(5)

المراغي.

ص: 382

روي عن علي رضي الله عنه: المال والبنون حرث الدنيا، والعمل الصالح حرث الآخرة، وقد جمعهما الله لأقوام. وهذا (1) رد على الأغنياء والرؤساء الذين يفتخرون بالمال والغنى والأبناء، فأخبرهم سبحانه أنّ ذلك مما يتزين به في الدنيا، لا مما ينفع في الآخرة، كما قال في الآية الأخرى:{أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} وقال أيضًا: {إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} ، ولهذا عقّب هذه الزينة الدنيوية بقوله:{وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ} ؛ أي: والأعمال الصالحة التي تبقى ثمراتها أبد الآباد من الصلاة، والصوم، والزكاة، وأعمال الحج، والجهاد في سبيل الله، ومساعدة البائسين وذوي الحاجات، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ونحو ذلك من الكلم الطيب، {خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ} في الآخرة من الفانيات الفاسدات، من المال والبنين؛ أي: أفضل لصاحبها من هذه الزينة بالمال والبنين في الآخرة. {ثَوابًا} وجزاء، وأكثر عائدة ومنفعة لأهلها {وَخَيْرٌ أَمَلًا}؛ أي: رجاء (2) حيث ينال بها صاحبها في الآخرة كلّ ما كان يؤمله في الدنيا، وأما ما مر من المال والبنين: فليس لصاحبه أمل يناله. يعني أن (3) هذه الأعمال الصّالحة لأهلها من الأمل أفضل مما يؤمله أهل المال والبنين، لأنهم ينالون بها في الآخرة أفضل ممّا كان يؤمله هؤلاء الأغنياء في الدنيا، وليس في زينة الدنيا خير حتى تفضل عليها الآخرة، ولكن هذا التفضيل خرج مخرج قوله تعالى:{أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} والظاهر أنّ الباقيات الصالحات كلّ عمل خير، فلا وجه لقصرها على الصلاة، كما قاله بعض، ولا لقصرها على نوع من أنواع الذكر كما قاله بعضٌ آخر، ولا على ما كان يفعله فقراء المهاجرين باعتبار السبب، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وبهذا تعرف أن تفسير الباقيات الصالحات في الأحاديث الآتية ببعض الأعمال الصالحة بخصوصها لا ينافي إطلاق هذا اللفظ على ما هو عمل صالح من غيرها.

وأخرج سعيد بن منصور، وأحمد، وابن جرير، وابن مردويه، والحاكم، وصححه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

(1) الشوكاني.

(2)

روح البيان.

(3)

الشوكاني.

ص: 383