المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

عباس {أف} خفيفة فهذه سبع قراءات من اللغات التي حكيت - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ١٦

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: عباس {أف} خفيفة فهذه سبع قراءات من اللغات التي حكيت

عباس {أف} خفيفة فهذه سبع قراءات من اللغات التي حكيت في {أُفٍّ} .

{وَلا تَنْهَرْهُما} ؛ أي: لا تزجرهما بإغلاظ إذا كرهت منهما شيئًا؛ أي: لا تغلظ لهما في الكلام، والمراد (1) من قوله تعالى:{فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ} المنع من إظهار الضّجر بالقليل أو الكثير، ومن قوله:{وَلا تَنْهَرْهُما} المنع من إظهار المخالفة في القول على سبيل الرد عليه {وَقُلْ لَهُما} بدل التأفيف والنهر {قَوْلًا كَرِيمًا} ؛ أي: قولًا لينًا حسنًا، بأن يخاطبه بالكلام المقرون بأمارات التعظيم، كأن (2) يقول: يا أبتاه، ويا أمّاه كدأب إبراهيم عليه السلام، إذ قال لأبيه: يا أبت مع ما به من الكفر، ولا يدعوهما بأسمائهما، فإنه من الجفاء، وسوء الأدب، ولا يرفع صوته فوق صوتهما، ولا يجهر لهما بالكلام، بل يكلمهما بالهمس والخضوع إلا لضرورة الصّمم والإفهام، ولا يسبّ والدي رجلٍ فيسب ذلك الرجل والديه، ولا ينظر إليهما بالغضب

‌24

- {وَاخْفِضْ لَهُما} أي ألن لهما {جَناحَ الذُّلِّ} ؛ أي: حالك الليّن المذلول المتواضع، واخضع لهما حتّى لا تمتنع عن شيء أحباه ويسرهما {مِنَ الرَّحْمَةِ}؛ أي: من أجل فرط رحمتك لهما، وشدة شفقتك عليهما، ورقة قلبك لهما، بسبب ضعفهما لا لأجل خوفك من العار، لافتقارهما اليوم إلى من كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس، قال ابن عباس رضي الله عنهما كن مع الوالدين كالعبد المذنب الذليل الضعيف، للسيد الفظ الغليظ؛ أي: في التّواضع والتملق.

ويقبّل رجل أمّه (3)، ويباشر خدمتهما بيده، ولا يفوّضها إلى غيره؛ لأنه ليس بعار للرجل أن يخدم معلمه، وأبويه وسلطانه، وضيفه، ولا يؤمه للصلاة، وإن كان أفقه منه؛ أي: أعلم بالفقه من الأب، ولا يمشي أمامهما إلا أن يكون لإماطة الأذى عن الطريق، ولا يتصدّر عليهما في المجلس، ولا يسبق عليهما في شيء؛ أي: في الأكل والشرب والجلوس، والكلام وغير ذلك.

(1) المراح.

(2)

روح البيان.

(3)

روح البيان.

ص: 71

وفي الحديث «ما من ولد ينظر إلى الوالد وإلى والدته نظر مرحمة إلّا كان له بها حجّة وعمرة» قيل: وإن نظر في اليوم ألف مرة قال: «وإن نظر في اليوم مئة ألف» كما في «خالصة الحقائق» وقلت: فيه مقال.

قال الفقهاء: لا يذهب بأبيه إلى البيعة، وإذا بعث إليه منها ليحمله .. فعل، ولا يناوله الخمر، ويأخذ الإناء منه إذا شربها، وعن أبي يوسف إذا أمره أن يوقد تحت قدره، وفيها لحم الخنزير، أوقد كما في «بحر العلوم» ولا ينتسب إلى غير والديه استنكافا منهما، فإنّه يستوجب اللعنة، وقرأ الجمهور (1):{من الذل} بضم الذال، وقرأ ابن عباس، وعروة بن الزبير، وسعيد بن جبير، والجحدريّ وابن وثّاب بكسر الذال.

ثمّ كأنه قال له سبحانه: ولا تكتف برحمتك التي لا دوام لها {وَ} لكن {قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما} ؛ أي: وادع الله أن يرحمهما برحمته الباقية، ولو خمس مرات في اليوم والليلة، ولا تكتف برحمتك الفانية، وإن كانا كافرين .. لأن من الرحمة أن يهديهما إلى الإسلام، قال ابن عباس رضي الله عنهما ما زال إبراهيم عليه السلام يستغفر لأبيه حتى مات، فلما تبيّن له أنه عدو لله تبرّأ منه، يعني ترك الدعاء، ولم يستغفر له بعد ما مات على الكفر، كذا في «تفسير أبي الليث» وفي الحديث «إذا ترك العبد الدعاء للوالدين ينقطع عنه الرزق في الدنيا» سئل ابن عيينة عن الصدقة عن الميت، فقال: كل ذلك واصل إليه، ولا شيء أنفع له من الاستغفار، ولو كان شيء أفضل منه، لأمرت به الأبوين. ويعضّده قوله عليه السلام:«إنّ الله ليرفع درجة العبد في الجنة، فيقول: يا رب أنّى لي هذا، فيقول: باستغفار ولدك» وفي الحديث «من زار قبر أبويه أو أحدهما في كل جمعة كان بارًا» .

والكاف في قوله {كَما رَبَّيانِي صَغِيرًا} في محل النصب على أنه نعت مصدر محذوف؛ أي: قل في الدعاء لهما: رب ارحمهما برحمتك الدنيوية والأخروية

(1) البحر المحيط.

ص: 72

رحمة مثل رحمتهما عليَّ، وتربيتهما وإرشادهما إيايَّ في حال صغري، وفاء بوعدك للراحمين، ويجوز أن تكون الكاف تعليلية؛ أي لأجل تربيتهما لي. روي أنّ رجلًا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنّ أبوي بلغا من الكبر أنّي ألي منهما ما وليا منّي في الصغر، فهل قضيتهما حقّهما؟ قال: «لا فإنّهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك، وأنت تفعل ذلك وأنت تريد موتهما» .

وحاصل معنى الآيتين: أي إذا (1) وصل الوالدان عندك أو أحدهما إلى حال الضعف والعجز، وصَارَا عندك في آخر العمر كما كنت عندهما في أوله: وجب عليك أن تشفق عليهما وتحنو لهما، تعاملهما معاملة الشاكر لمن أنعم عليه، ويتجلّى بأن تتبع معهما الأمور الخمسة الآتية:

1 -

أن لا تتأفَّف من شيءٍ تراه من أحدهما أو منهما ممّا يتأذَّى به النَّاس، ولكن أصبر على ذلك منهما، واحتسب الأجر عليه كما صبرًا عليك في صغرك.

2 -

أن لا تنغّص عليهما بكلام تزجرهما به، وفي هذا منع من إظهار الضّجر القليل، أو الكثير.

3 -

أن تقول لهما قولًا حسنًا، وكلامًا طيبًا، مقرونًا بالاحترام والتعظيم، ممّا يقتضيه حسن الأدب، وترشد إليه المروءة، كأن تقول يا أبتاه، ويا أماه، ولا تدعوهما بأسمائهما، ولا ترفع صوتك أمامهما، ولا تحدق فيهما بنظرك.

4 -

أن تتواضع لهما، وتتذلل وتطيعهما فيما أمراك مما لم يكن معصيةً لله، رحمةً منك بهما وشفقة عليهما إذ هما قد احتاجا إلى من كان أفقر الخلق إليهما، وذلك منتهى ما يكون من الضّراعة، والمسكنة ولله در الخفاجي إذ يقول:

يا من أتى يسأل عن فاقتي

ما حال من يسأل من سائله

ما ذلَّة السُّلطان إلّا إذا

أصبح محتاجًا إلى عامله

وقوله: {مِنَ الرَّحْمَةِ} ؛ أي: أن يكون ذلك التذلل رحمةً بهما، لا من أجل

(1) المراغي.

ص: 73

امتثال الأمر وخوف العار فقط، فتذكر نفسك بما تقدّم لهما من الإحسان إليك، وبما أمرت به من الشفقة والحدب عليهما، وقد مثّل حاله معهما بحال الطائر إذا أراد ضم فرخه إليه لتربيته؛ فإنه يخفض له جناحه، فكأنه قال للولد: اكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك كما فعلا ذلك في حال صغرك.

5 -

أن تدعو الله أن يرحمهما برحمته الباقية، ولو خمس مرات في اليوم والليلة، كفاء رحمتهما لك في صغرك، وجميل شفقتهما عليك، وبالجملة فقد بالغ سبحانه في التوصية بهما، من وجوه كثيرة، وكفاهما أن شفع الإحسان إليهما بتوحيده، ونظمهما في سلك القضاء بهما معًا.

وبر الأم مقدّم على بر الأب (1)؛ لما روى الشيخان أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: «أمك» قال: ثمّ من؟ قال: «أمك» قال: ثم من؟ قال: «أمك» قال: ثم من؟ قال: «أبوك» .

ولا يختص برهما بحال الحياة، بل يكون بعد الموت أيضًا، فقد روى ابن ماجة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال:«نعم خصال أربع: الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما» فهذا الذي بقي عليك من برهما بعد موتهما.

والخلاصة: أنه سبحانه بالغ في التوصية بالوالدين مبالغة تقشعرّ منها جلود أهل العقوق، وتقف عندها شعورهم، من حيث افتتحها بالأمر بتوحيده وعبادته، ثمّ شفّعهما بالإحسان إليهما، ثم ضيق الأمر في مراعاتهما حتى لم يرخّص في أدنى كلمة تنفلت من المتضجر مع موجبات الضّجر، ومع أحوال لا يكاد الإنسان يصبر معها، وأن يذلّ ويخضع لهما، ثمّ ختمها بالدعاء لهما، والترحم عليهما، وهذه الخمسة الأشياء جعلها سبحانه من رحمته بها مقرونة بوحدانيّته، وعدم الشرك به.

(1) المراغي.

ص: 74