الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقيل (1): في الكلام تقديم وتأخير، أي: أولم يروا أنّ الله الذي خلق السموات والأرض، وجعل لهم أجلًا لا ريب فيه؛ قادر على أن يخلق مثلهم. {فَأَبَى الظَّالِمُونَ}؛ أي: أبى المشركون، وامتنعوا من الانقياد للحق، ولم يرضوا {إِلَّا كُفُورًا}؛ أي: إلا جحودًا به، وفيه وضع الظاهر موضع المضمر، للحكم عليهم بالظلم، ومجاوزة الحد؛ أي: وبعد إقامة الحجة عليهم، أبوا إلا تماديا في ضلالهم، وكفرهم مع وضوح الحجة، وظهور المحجة،
100
- ثمّ بيّن السّبب في عدم إجابتهم إلى ما طلبوا من الجنات والعيون بأنهم لو ملكوا خزائن الدنيا .. لبقوا على شحهم، فقال:{قُلْ} لهم يا محمد {لَوْ} تملكون {أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} ؛ أي: خزائن رزقه التي أفاضها على كافة الموجودات، وأنتم مرفوع بفعل يفسره المذكور، على أنّ الضمير المنفصل بدل من الضمير المتصل، وهو {الواو} لا مبتدأ؛ لأن {لو} لا تدخل إلا على الفعل، والأصل لو تملكون أنتم تملكون كما قدّرنا آنفًا {إذا}؛ أي: لو ملكتموها {لَأَمْسَكْتُمْ} ما ملكتم عن الإنفاق {خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ} ؛ أي: مخافة الفقر، فلا فائدة في إسعافكم بذلك المطلوب الذي التمستموه. أو معنى {لَأَمْسَكْتُمْ} لبخلتم (2)، من قولك للبخيل ممسك، فلا يقدّر له مفعول، {خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ}؛ أي: مخافة عاقبة الإنفاق، وهو النفاد {وَكانَ الْإِنْسانُ}؛ أي: جنسه {قَتُورًا} ؛ أي: بخيلًا منوعًا بطبعه، لأن يبني أمره على الحاجة، والضنة بما يحتاج إليه، وملاحظة العوض فيما يبذل، فالبخل والحرص من الصفات المذمومة، فلا بدّ من تطهير النفس عنهما، وتحليتها بالسّخاء والقناعة، وترك طول الأمل، فإن الشّيطان يستعبد البخيل، ولو كان مطيعًا، وينأى عن السخيِّ، ولو كان فاسقًا، وجنس الإنسان، وإن كان قتورًا مخلوقًا على القبض واليبوسة كالتراب، إلا أن من أفراده خواص متخلقين بصفات الله تعالى، ومتحققين بأسرار فعاله.
قال حسان بن ثابت رضي الله عنه في مدح النبي صلى الله عليه وسلم:
(1) الشوكاني.
(2)
روح البيان.
له راحةٌ لو أنَّ مِعْشَارَ جُودها
…
على البرِّ كَان البرُّ أَنْدى من البحرِ
الراحة: باطن الكف، والمعشار بمعنى العشر.
وعبارة المراغي هنا: المراد من الإنفاق هنا: الفقر، كما أخرجه ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس، وروي نحوه عن قتادة، وإليه ذهب الراغب فقال: يقال: أنفق فلان إذا افتقر، وقال أبو عبيدة: أنفق، وأملق، وأعدم، وأصرم بمعنى.
أي: قل لهم أيها الرسول: لو أنكم تملكون التصرف في خزائن الله، لأمسكتم خشية الفقر؛ أي: خشية أن تزول وتذهب، مع أنها لا تفرغ ولا تنفد أبدًا، وقصارى ذلك، أنّكم لو ملكتم من الخير والنعم خزائن لا نهاية لها .. لبقيتم على الشح والبخل، وفي هذا إيماء إلى أن الله لا يجيبكم إلى ما طلبتم من نبيه صلى الله عليه وسلم من بساتين، وعيون تنبع، لا بخلا منه، ولكن اقتضت الحكمة أن يكون نظام الدنيا هكذا، ولا رقيّ للإنسان إلا على هذا المنوال، فهو يوسع الرزق على قوم، ويضيقه على آخرين، على مقتضى الحكمة والمصلحة، ومن ثمّ لم ينزل ما اقترحتموه.
{وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُورًا} ؛ أي: بخيلًا منوعًا بطبعه، كما قال:{أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53)} ؛ أي: لو أنّ لهم نصيبًا في ملك الله .. لما أعطوا أحدًا شيئًا، ولا مقدار نقير.
وإجمال المعنى (1): أن الله لم يجب محمدًا إلى ما طلبتم، لا هوانًا لنبيه، ولا لأنه ليس بنبي، ولا بخلًا - حاشاه - بل لحكمة منه، فربّما كانت وفرة العطاء إذا نزلت على غير وجهها مصايب على الناس، فأما أنتم فمنعكم يجري على طريق البخل، فلو سلّم لكم السموات والأرض، وادارستموها لم تفهموا إلا الإمساك، ومن ثمّ لا يسلمكم مفاتيح خزائنه، لئلّا تمسكوا المال لأنفسكم، ولا تنفعوا خلقه.
(1) المراغي.