المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

{الْأَمْرُ}؛ أي: التصرف والتدبير في جميعها؛ إذ هو المال لها - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٩

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: {الْأَمْرُ}؛ أي: التصرف والتدبير في جميعها؛ إذ هو المال لها

{الْأَمْرُ} ؛ أي: التصرف والتدبير في جميعها؛ إذ هو المال لها لا شريك له فيها.

وفي معنى الآية قوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} وقوله: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} وقوله: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} وجاءت هذه الجملة توكيدا لما قبلها؛ لبيان أنه هو الذي خلق السموات والأرض، وهو الذي دبرهما وصرفهما بحسب إرادته.

ولما ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية خلق السموات والأرض في ذلك الأمد اليسير، ثم ذكر استواءه على عرشه، وتسخير الشمس والقمر والنجوم، وأن له الخلق والأمر .. قال:{تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ} ؛ أي: تزايد خيره وبره، وكثرت بركته وإحسانه، وعم نواله وإنعامه. وقال الأزهري: معنى: {تَبارَكَ} تعالى وتعاظم؛ أي: تعالى الله مالك العالمين بوحدانيته وألوهيته، وتعاظم بربوبيته وصفاته، وأن كل ما في هذا العالم من الخيرات الكثيرة، والنعم العظيم؛ فهو منه، فيجب على عباده أن يشكروه عليها ويعبدوه دون غيره مما عبدوه معه، وليس له من الخلق ولا من الأمر شيء. وفي هذه الآية رد على من يقول من أهل الضلال: إن للشمس والقمر والكواكب تأثيرات في هذا العالم.

‌55

- {ادْعُوا رَبَّكُمْ} ؛ أي: اسألوا أيها العباد ربكم، ومتولي أموركم، وخالقكم حال كونكم {تَضَرُّعًا}؛ أي: متضرعين متذللين وخاضعين له ومبتهلين إليه {وَ} حالة كونكم {خُفْيَةً} ؛ أي: مخفين ومسرين دعاءكم عن غيركم، أو هما صفتان لمصدر محذوف؛ أي: ادعوه دعاء تضرع، ودعاء خفية، والتضرع: الذلة والخشوع والاستكانة، والخفية: الإسرار به، فإن ذلك أقطع لعرق الرياء، وأحسن لباب من يخالف الإخلاص. وقرأ الجمهور بضم خاء {وَخُفْيَةً} ، وقرأ أبو بكر بكسرها؛ وهما لغتان.

وفي هذا إيماء إلى أن الإخفاء في الدعاء أفضل إن لم يكن وجبا، ويدل على ذلك وجوه:

ص: 348

1 -

أنه تعالى أثنى على زكريا، فقال:{إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3)} ؛ أي: أنه أخفاه عن العباد، وأخلصه لله، وانقطع به إليه.

2 -

روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أيها الناس اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمّا ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا، وهو معكم» رواه مسلم.

3 -

روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «دعوة في السر تعدل سبعين دعوة في العلانية» وقال: «خير الذكر الخفي، وخير الرزق ما يكفي» .

4 -

روي عن الحسن البصري أنه قال: إن كان الرجل لقد جمع، وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير، وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعند الزور، وما يشعرون به، ولقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر فيكون علانية أبدا، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله تعالى يقول:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} اه.

5 -

أن النفس شديدة الرغبة في الرياء والسمعة، فإذا رفع المرء صوته بالدعاء امتزج الرياء به، فلا يبقى فيه فائدة البتة، ومن ثم كان الأولى الإخفاء؛ ليبقى مصونا عن الرياء.

وفصل بعض العلماء، فقال: إن التضرع بالجهر المعتدل يحسن في حال الخلوة والأمن من رؤية الناس للداعي، ومن سماعهم لصوته، فلا جهره يؤذيهم، ولا الفكر فيهم يشغله عن التوجه إلى الرب وحده، أو يفسد عليه دعاءه بحب الرياء والسمعة، ويحسن الإسرار في حال اجتماع الناس في المساجد والمشاعر وغيرها إلا ما ورد فيه رفع الصوت من الجميع كالتلبية في الحج، وتكبير العيدين. وإذا كان الليل سترا ولباسا شرع فيه الجهر في قراءة الصلاة إلى أنه

ص: 349

يطرد الوسواس، ويقاوم فتور النعاس، ويعين على تدبر القرآن، وبكاء الخشوع للرحمن لدى المتهجدين في خلواتهم.

وقال الشيخ محمد بن عيسى الحكيم الترمذي: إن كان خائفا على نفسه من الرياء .. فالأولى إخفاء العمل صونا لعمله عن البطلان، وإن كان قد بلغ في الصفاء وقوة اليقين إلى حيث صار آمنا عن شائبة الرياء .. كان الأولى في حقه الإظهار لتحصل فائدة الاقتداء به. {إِنَّهُ} سبحانه وتعالى. قرأ ابن أبي عبلة {إن الله} جعل مكان المضمر المظهر. ذكره أبو حيان. {لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}؛ أي: المجاوزين لما أمروا به في الدعاء بترك هذين الأمرين التضرع والإخفاء، وفي كل شيء، فمن جاوز ما أمره الله به في شيء من الأشياء .. فقد اعتدى، والله لا يحب المعتدين؛ أي: لا يثيبه البتة، ولا يحسن إليه، وتدخل المجاوزة في الدعاء في هذا العموم دخولا أوليا، ومن الاعتداء (1) في الدعاء أن يسأل الداعي ما ليس له كالخلود في الدنيا، أو إدراك ما هو محال في نفسه، أو يطلب الوصول إلى منازل الأنبياء في الآخرة، أو يرفع صوته بالدعاء صارخا به.

وعن النبي صلى الله عليه وسلم (2): «سيكون قوم يعتدون في الدعاء، وحسب المرء أن يقول: اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل» ثم قرأ: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} . أخرجه ابن ماجه عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه ..

وللاعتداء في الدعاء مظاهر شتى (3):

1 -

اعتداء خاص بالألفاظ كالمبالغة في رفع الصوت، والتكلف في صيغ الدعاء.

(1) الشوكاني.

(2)

المراح.

(3)

المراغي.

ص: 350

2 -

اعتداء خاص بالمعنى؛ وهو طلب غير المشروع من وسائل المعاصي ومقاصدها كضرر العباد، وطلب إبطال سنن الله في الخلق، أو تبديلها كطلب النصر على الأعداء مع ترك وسائله كأنواع السلاح والعتاد، وطلب الغنى بلا كسب، وطلب المغفرة مع الإصرار على الذنب مع أن الله سبحانه وتعالى يقول:{فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} .

3 -

اعتداء بالتوجه فيه إلى غير الله تعالى؛ ليشفع له عنده، وهذا شر أنواع الاعتداء كما قال:{فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} ومن طلب ذلك من غير الله .. فقد اتخذه إلها؛ لأن الإله هو المعبود كما روى أحمد عن النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدعاء هو العبادة» وروى الترمذي عن أنس مرفوعا: «الدعاء مخ العبادة» وروي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سلوا الله لي الوسيلة» ، قالوا: وما الوسيلة؟ قال: «القرب من الله عز وجل» ، ثم قرأ:{يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} وابتغاء ذلك يكون بدعائه وعبادته بما شرعه على لسان رسوله دون غيره.

فائدة أخرى: وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب «الدعاء» (1)، والخطيب في «تاريخه» عن الحسن بن علي قال: أنا ضامن لمن قرأ هذه العشرين آية في كل ليلة أن يعصمه الله من كل سلطان ظالم، ومن كل شيطان مريد، ومن كل سبع ضاري، ومن كل لص عادي: آية الكرسي، وثلاث آيات من الأعراف:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} ، وعشرا من أول سورة الصافات، وثلاث آيات من الرحمن أولها:{يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} ، وخاتمة الحشر. وأخرج أبو الشيخ بن عبيد بن أبي مرزوق قال: من قرأ عند نومه: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ

} الآية .. بسط عليه ملك جناحه حتى يصبح، وعوفي من السرق.

وأخرج أبو الشيخ عن محمد بن قيس صاحب عمر بن عبد العزيز قال: مرض رجل من أهل المدينة، فجاءه زمرة من أصحابه يعودونه، فقرأ رجل منهم:

(1) الشوكاني.

ص: 351