المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

حرصا على رياستهم وفسقهم وفسادهم .. لم يكونوا يشعرون بأن - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٩

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: حرصا على رياستهم وفسقهم وفسادهم .. لم يكونوا يشعرون بأن

حرصا على رياستهم وفسقهم وفسادهم .. لم يكونوا يشعرون بأن عاقبة مكرهم تحيق بهم لجهلهم بسنن الله في خلقه، وهم خليقون بهذا الجهل. وأما في الآخرة فالأمر واضح والنصوص متظاهرة على ذلك. وهذه الجملة متضمنة لوعيد الماكرين من مجرمي أهل مكة، وفيها وعد وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.

‌124

- {وَإِذا جاءَتْهُمْ} ؛ أي: وإذا جاءت مشركي العرب كالوليد بن المغيرة وعبد ياليل وأبي مسعود الثقفي {آيَةٌ} من القرآن تأمرهم باتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتخبرهم بصنيعهم {قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ} ؛ أي: قالوا: لن نصدقك {حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} سبحانه وتعالى؛ أي: حتى يوحى إلينا ويأتينا جبريل، فيخبرنا أنك رسول الله، وأنك صادق. قال تعالى ردا عليهم:{اللَّهِ} سبحانه وتعالى: {أَعْلَمُ} ؛ أي: عالم {حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ} ؛ أي: الموضع الذي يجعل فيه رسالته؛ أي: أعلم من يليق برسالته؛ أي: بإرسال جبريل إليه لأمر من الأمور، وهذا إعلام بأنهم لا يستحقون ذلك التشريف، وهذا (1) المعنى قول الحسن، ومنقول عن ابن عباس.

[معنى آخر للآية:] وقيل معنى الآية: وإذا جاءتهم آية على صدق النبي صلى الله عليه وسلم .. قالوا: لن نؤمن برسالته أصلا حتى نؤتى نحن من الوحي والنبوة مثل إيتاء رسل الله. قال تعالى:

إنه تعالى يعلم من يستحق الرسالة، فيشرفه بها ويعلم من لا يستحقها، وأنتم لستم أهلا لها، ولأن النبوة لا تحصل لمن يطلبها، خصوصا لمن عنده حسد ومكر وغدر.

[معنى آخر للآية أيضا:] وقيل المعنى (2): وإذا جاءت أولئك المشركين آية بينة من القرآن تتضمن صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به عن ربه من التوحيد والهدى .. قالوا: لن نؤمن إلا إذا أتى على يديه من الآيات الكونية التي يؤيده الله بها مثل ما أوتي رسل الله كفلق البحر لموسى، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى لعيسى. وقال ابن

(1) المراح.

(2)

المراغي.

ص: 49

كثير: أي: حتى تأتينا الملائكة من الله بالرسالة كما تأتي إلى الرسل، بمعنى قوله تعالى: {وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا

} الآية.

وخلاصة ذلك: أنهم لا يؤمنون بالرسالة إلا إذا صاروا رسلا يوحى إليهم، وقد رد عليهم جهالتهم وبين لهم خطأهم بقوله:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ} ؛ أي: هو أعلم حيث يضع رسالته ومن يصلح لها من خلقه، وهذا كقوله حكاية عنهم: {وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ

} الآية، يريدون لولا نزل هذا القرآن على رجل عظيم مبجل في أعينهم من القريتين مكة والطائف، ذلك أنهم جازاهم الله تعالى بما يستحقون، كانوا يزدرون الرسول صلى الله عليه وسلم بغيا وحسدا وعنادا واستكبارا كما قال تعالى:{وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36)} وهم مع ذلك كانوا يعترفون بشرفه ونسبه، وطهارة بيته ومرباه ومنشئه، وكانوا يسمونه بالأمين، فكان ينبغي أن يكون في ذلك مقنع لهم بأنه أولى من أولئك الأكابر الحاسدين له بالرسالة وبكل ما فيه الكرامة، ولكن الحسد والبغي والتقليد كل أولئك كان الباعث لهم على تلك الأقوال، وعمل هاتيك الأفعال في عداوته ومعاندته.

والخلاصة: أن الرسالة فضل من الله يمنحه من يشاء من خلقه لا يناله أحد بكسب، ولا يصل إليه بسبب ولا نسب، ولا يعطيه إلا من كان أهلا له لسلامة الفطرة وطهارة القلب وحب الخير والحق، وقد اختار أن يجعل الرسالة في محمد صفيه وحبيبه، فدعوا طلب ما ليس من شأنكم. وقرأ حفص وابن كثير: رِسالَتَهُ بالإفراد، والباقون على الجمع.

فائدة: ويستجاب (1) الدعاء بين هاتين الجلالتين وهذا دعاء عظيم يدعى به بينهما ووجد بخط بعض الفضلاء؛ وهو «اللهم من الذي دعاك فلم تجبه، ومن الذي استجارك فلم تجره، ومن الذي سألك فلم تعطه، ومن الذي استعان بك فلم

(1) المراح.

ص: 50

تعنه، ومن الذي توكل عليك فلم تكفه، يا غوثاه يا غوثاه يا غوثاه بك أستغيث أغثني يا مغيث واهدني هداية من عندك، واقض حوائجنا، واشف مرضانا، واقض ديوننا، واغفر لنا ولآبائنا ولأمهاتنا بحق القرآن العظيم والرسول الكريم برحمتك يا أرحم الراحمين».

ثم أوعدهم وبين سوء عاقبتهم لحرمانهم من الاستعداد للإيمان فقال: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} ؛ أي: سيصيب الذين أشركوا بقولهم: لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله ومكروا بك {صَغارٌ} ؛ أي: ذل وهوان وحقارة في الدنيا {عِنْدَ اللَّهِ} ؛ أي: ثابت لهم في حكم الله تعالى بالقتل والأسر {وَعَذابٌ شَدِيدٌ} بالنار في الآخرة {بِما كانُوا يَمْكُرُونَ} ؛ أي: بسبب مكرهم بقولهم ذلك، وحسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وتكذيبهم له وطلبهم ما لا يستحقون.

وقال اسماعيل الضرير (1): في الكلام تقديم وتأخير؛ أي: صغار وعذاب شديد عند الله في الآخرة انتهى. أي: سيصيب (2) المجرمين الماكرين الذين قد قضت سنة الله أن يكونوا زعماء في كل شعب دب فيه الفساد عذاب شديد مكان ما تمنوه وعلقوا به آمالهم من عز النبوة وشرف الرسالة. ومعنى كونه من عند الله: أنه مما اقتضاه حكمه وعدله وسبق به تقديره، فإن ما هو ثابت عند الله في حكمه التكويني الذي دبر به نظام الخلق وحكمه الشرعي التكليفي الذي أقام به العدل والحق .. يقال: إنه من عند الله، ويكون هذا جزاء لهم على استكبارهم عن الحق في دار الدنيا كما قال تعالى:{كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26)} .

وعذاب الأمم في الدنيا بذنوبها مطرد، وعذاب الأفراد لا يطرد، وإن كانوا من المجرمين الماكرين، وقد عذب الله في الدنيا أكابر مجرمي أهل مكة الذين

(1) البحر المحيط.

(2)

المراغي.

ص: 51