الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} الآية كلها، وقد أصمت الرجل، فتحرك، ثم استوى جالسا، ثم سجد يومه وليلته حتى كان من الغد من الساعة التي سجد فيها قال له أهله: الحمد لله الذي عافاك، قال: بعث إلى نفسي ملك يتوفاها، فلما قرأ صاحبكم الآية التي قرأ سجد الملك وسجدت سجوده، فهذا حين رفع رأسه، ثم مال فقضي عليه. انتهى.
56
- {وَلا تُفْسِدُوا} أيها الناس {فِي الْأَرْضِ} بالمعاصي والكفر، والدعاء إلى غير طاعة الله تعالى:{بَعْدَ إِصْلاحِها} ؛ أي: بعد إصلاح الله إياها ببعثة الرسل، وبيان الشرائع، والدعاء إلى طاعة الله تعالى، وهذا المعنى قاله الحسن والسدي والضحاك والكلبي. وقيل معنى الآية: ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاح الله لها بما خلق فيها من المنافع، وما هدى الناس إليها من استغلالها، والانتفاع بتسخيرها لهم، وامتنانه بذلك في مثل قوله:{وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)} وهذا الإفساد شامل لإفساد النفوس بالقتل، وقطع الأطراف والأعضاء، وإفساد الأموال بالغصب والسرقة، وإفساد الأديان بالكفر والمعاصي والبدع، وإفساد الأنساب بالإقدام على الزنا، وإفساد العقول بشرب المسكر ونحوه.
والخلاصة (1): أن الإفساد شامل لإفساد العقول والعقائد، والآداب الشخصية والاجتماعية، والمعايش والمرافق من زراعة وصناعة وتجارة، ووسائل تعاون بين الناس.
وإصلاح الله تعالى لحال البشر كان بهداية الدين، وإرسال الرسل، وتمم ذلك ببعثة خاتم الأنبياء والمرسلين الذي كان رحمة للعالمين، فبه أصلحت عقائد البشر، وهذبت أخلاقهم وآدابهم بما جمع لهم فيها من مصالح الروح والجسد، وما شرع لهم من التعاون والتراحم، وبما حفظ لهم من العدل والمساواة، وبما شرع لهم من الشورى المقيدة بقاعدة: درء المفاسد وحفظ المصالح، وبذا امتاز
(1) المراغي.
به دينهم عن بقية الأديان.
وبعد أن بين في الآية الأولى شرط الدعاء .. أعاد الأمر به إيذانا بأن من لا يعرف أنه محتاج إلى رحمة ربه مفتقر إليها، ولا يدعو ربه تضرعا وخفية، ولا يخاف من عقابه، ولا يطمع في غفرانه يكون أقرب إلى الإفساد منه إلى الإصلاح، فقال:{وَادْعُوهُ} ؛ أي: وادعوا أيها الناس ربكم حالة كونكم {خَوْفًا} ؛ أي: خائفين من عقابه على مخالفتكم لشرعه المصلح لأنفسكم وأجسامكم، أو ذوي خوف من عقابه {وَ} حالة كونكم {طَمَعًا}؛ أي: طامعين في رحمته وإحسانه في دنياكم وآخرتكم، أو ذوي طمع في رحمته، والخوف: الانزعاج من المضار التي لا يؤمن من وقوعها، والطمع: توقع حصول الأمور المحبوبة.
فإن قلت (1): إنه تعالى قال في الآية الأولى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} وقال هنا: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} وهذا من عطف الشيء على نفسه، فما فائدة ذلك؟
قلت: الفائدة فيه أن المراد بقوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ} ؛ أي: ليكن الدعاء مقرونا بالتضرع والإخبات، وقوله:{وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} أن فائدة الدعاء أحد هذين الأمرين، فكانت الآية الأولى في بيان شرط صحة الدعاء، والآية الثانية في بيان فائدة الدعاء، وقيل معناه: كونوا جامعين في أنفسكم بين الخوف والرجاء في أعمالكم كلها، ولا تطمعوا أنكم وفيتم حق الله في العبادة والدعاء، وإن اجتهدتم فيهما.
ودعاء المولى حين الشعور بالعجز والافتقار إليه مما يقوي الأمل بالإجابة، ويحول بينها وبين اليأس إذا تقطعت الأسباب، وجهلت وسائل النجاح، والدعاء مخ العبادة ولبها، وإجابته مرجوة حين استكملت شرائطها وآدابها، فإن لم تكن
(1) الخازن.
بإعطاء الداعي ما طلبه، فربما كانت بما يعلم الله أنه خير له منه. ثم بين فائدة الدعاء وعلل سبب طلبه، فقال:{إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ} سبحانه وتعالى وثوابه {قَرِيبٌ مِنَ} عباده {الْمُحْسِنِينَ} ذكر الخبر نظرا إلى أن الرحمة بمعنى الثواب كما فسرناه كذلك؛ أي: إن رحمته تعالى قريبة من المحسنين أعمالهم بأي نوع من الأنواع كان إحسانهم، لأن الجزاء من جنس العمل كما قال:{هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ (60)} فمن أحسن في عبادته .. نال حسن الثواب، ومن أحسن في الدعاء .. أعطي خيرا مما طلبه، وقد طلب الإحسان في كل شيء يهدي إليه دين الفطرة، وحرم الإساءة في كل شيء، وجعل جزاءها من جنسها كما قال:{لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} . وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الإحسان على كل شي، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته» . رواه مسلم.
وأصل الرحمة (1): رقة تقتضي الإحسان إلى المرحوم، وتستعمل تارة في الرقة المجردة، وتارة في الإحسان المجرد عن الرقة، وإذا وصف بها الباري جل وعز، فليس يراد بها إلا الإحسان المجرد دون الرقة، فرحمة الله عز وجل عبارة عن الإفضال والإنعام على عباده، وإيصال الخير إليهم.
وكون الرحمة قريبة من المحسنين (2)؛ لأن الإنسان في كل ساعة من الساعات في إدبار عن الدنيا، وإقبال على الآخرة، وإذا كان كذلك كان الموت أقرب إليه من الحياة، وليس بينه وبين رحمة الله التي هي الثواب في الآخرة إلا الموت؛ وهو قريب من الإنسان.
والأحسن (3) في علة تذكير {قَرِيبٌ} مع أن {الرحمة} مؤنثة أن يقال: تذكيره إما باعتبار أن الرحمة مجازية التأنيث، أو باعتبار أن المراد بها الثواب؛
(1) الخازن.
(2)
الخازن.
(3)
الجمل بتصرف.