المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

أبو بكر رضي الله عنه في أول خطبة له: أما - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٩

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: أبو بكر رضي الله عنه في أول خطبة له: أما

أبو بكر رضي الله عنه في أول خطبة له: أما بعد: فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإذا استقمت فأعينوني، وإذا زغت فقوموني. وقال الخليفة الثاني على المنبر: من رأى منكم فيّ اعوجاجا فليقومه. وقال الخليفة الثالث على المنبر أيام الفتنة: أمري لأمركم تبع. وقوله: {الظَّالِمِينَ} يشمل الظالمين لأنفسهم والظالمين للناس من الحكام وغيرهم؛ إذ كل من هؤلاء وأولئك يتولى من يشاكله في أخلاقه وأعماله، وينصره على من يخالفه.

‌130

- ثم أجاب سبحانه وتعالى عن سؤال يخطر بالبال، وهو: ما حال الظالمين إذا قدموا على الله يوم القيامة؟ فأجاب بأنهم يسألون، فقال:{يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} وهذا شروع (1) في حكاية ما سيكون من توبيخ المعشرين بما يتعلق بخاصة أنفسهم إثر حكاية توبيخ معشر الجن بإغواء الإنس وإضلالهم إياهم؛ أي: ويوم نحشرهم جميعا نقول توبيخا لهم وتقريرا: يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل من مجموعكم؛ أي: من بعضكم؛ وهو الإنس، والاستفهام فيه للتوبيخ والتقريع. والصحيح (2) أن الرسل إنما كانت من الإنس خاصة، وقد قام الإجماع على أن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل للإنس والجن كافة، والمراد برسل الجن هم الذين سمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ولوا إلى قومهم منذرين، فالمراد بالرسل ما يعم رسل الرسل، فالله تعالى إنما بكت الكفار بهذه الآية؛ لأنه تعالى أزال العذر وأزاح العلة بسبب أنه تعالى أرسل الرسل إلى الكل مبشرين ومنذرين، فإذا وصلت البشارة والنذارة إلى الكل بهذا الطريق .. فقد حصل ما هو المقصود من إزاحة العذر وإزالة العلة. وقد زعم (3) قوم أن الله أرسل للجن رسولا منهم يسمى يوسف.

وقرأ الأعرج: {ألم تأتكم} على تأنيث لفظ رسل بالتاء. والجن عالم غيبي لا نعرف عنه إلا ما ورد به، وقد دل الكتاب الكريم وصحيح الأحاديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إليهم، كقوله تعالى حكاية عن الذين استمعوا القرآن

(1) أبو السعود.

(2)

المراح.

(3)

الجمل.

ص: 60

منهم أنهم قالوا: {إِنَّا سَمِعْنا كِتابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى} فهذا ظاهر في أنه كان مرسلا إليهم فنؤمن بذلك، ونفوض الأمر فيما عداه إلى الله، ثم بين سبحانه وظيفة الرسل الذين أرسلهم الله إلى الفريقين بقوله:{يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي} ؛ أي: يقول الله سبحانه وتعالى يوم القيامة لكفار الجن والإنس على سبيل التقريع والتوبيخ والتقرير يا معشر الجن والإنس، ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آياتي؛ أي: يخبرونكم بما أوحي إليهم من آياتي الدالة على توحيدي وتصديق رسلي المبينة لأصول الإيمان، وأحاسن الآداب والفضائل، والمفصلة لأحكام التشريع التي من ثمراتها صلاح الأعمال والنجاة من الأهوال {وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا}؛ أي: ويخوفونكم لقاء عذابي في يومكم هذا؛ وهو يوم الحشر الذي عاينوا فيه ما أعد لهم من أنواع العقوبات الهائلة، ثم أجابوا عن سؤال فهم من الكلام السابق كأنه قيل: فماذا قالوا حين ذلك التوبيخ الشديد؟ فقيل: {قالُوا} أي: قال كفار الجن والإنس {شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا} ؛ أي: شهدنا واعترفنا وأقررنا بإتيان الرسل إيانا، وبإنذارهم لنا، وبمقابلتنا لهم بالكفر والتكذيب، وفي هذا الجواب اعتراف صريح بكفرهم وإقرار بأن الرسل قد أتوهم وبلغوهم دعوتهم إما مشافهة أو نقلا عمن سمعوا منهم.

وهذا موطن من مواطن يوم القيامة، وفي موطن آخر لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون، وفي موطن ثالث يكذبون على أنفسهم بما ينكرون من كفرهم، وأنهم قدموا شيئا من السيئات والخطايا، ونحو الآية:{قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} . وإنما وقعوا في ذلك الكفر بسبب أنهم {وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا} ؛ أي: غرتهم وخدعتهم عن الآخرة زينة الحياة الدنيا ومتاعها من الشهوات والأموال والأولاد وحب السلطان على الناس وعظيم الجاه، فكفروا بالرسل عنادا وكبرا، وقلدهم في ذلك أتباعهم، واغتر كل منهم بما يغتر به من التعاون مع الآخر.

وأما غرور غيرهم ممن جاء بعدهم بالدنيا، فلما غلب عليهم من الإسراف في الشهوات المحرمة والجاه الباطل، حتى لقد أصبحت الحظوة بين الناس لذوي المال والنسب مهما اجترحوا من الموبقات، وأبسلوا من المكارم والخيرات.

ص: 61