الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من تلك المادة صورة بشر سوي قابل للحياة، وقد يكون المعنى: إنا قدرنا إيجادكم تقديرا، ثم صورنا مادتكم تصويرا، ذلك شامل لخلق آدم وخلق مجموع الناس إذ أن كل فرد يقدر الله خلقه، ثم يصور المادة التي يخلقه منها في بطن أمه.
{ثُمَّ} بعد إكمال خلقه وتصويره {قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} ؛ أي: أمرنا الملائكة بالسجود لآدم تكريما له ولذريته سجود تحية وإكرام بالانحناء. فالمراد (1) به السجود اللغوي، وهو الانحناء، وقيل: إن السجود شرعي بوضع الجبهة على الأرض لله، وآدم قبلة كالكعبة {فَسَجَدُوا}؛ أي: سجد الملائكة بعد الأمر؛ أي: سجد جميعهم لآدم، وذلك قبل دخول الجنة {إِلَّا إِبْلِيسَ} أبا الجن كان مفردا مستورا بألوف من الملائكة متصفا بصفاتهم، فغلّبوا عليه في قوله: {لِلْمَلائِكَةِ
…
} الخ، وقيل: هو أبو الشياطين فرقة من الجن لم يؤمن منهم أحد؛ أي: سجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى وامتنع من السجود له تكبرا وعنادا، فالاستثناء منقطع {لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} له؛ أي: ممن سجدوا له.
والمعنى: وبعد أن سويناه ونفخنا فيه من روحنا، وصار مستعدا لأن يكون خليفة في الأرض، وعلمناه الأسماء كلها .. قلنا لجماعة الملائكة:{اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} ؛ أي: سجد الملائكة جميعا إلا إبليس أبى واستكبر، وهو من الجن لا منهم، وهذا السجود سجود تكريم وتعظيم من الله لآدم، لا سجود عبادة، فقد قامت الدلائل القاطعة على أنه لا معبود إلا الله وحده.
12
- {قالَ} الله سبحانه وتعالى توبيخا للّعين {ما مَنَعَكَ} يا إبليس {أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} بالسجود لآدم مع الملائكة؛ أي: أيّ شيء منعك من السجود لآدم حين أمرتك بالسجود له؟ فعلى (2) هذا التأويل تكون {لا} زائدة في قوله: {أَلَّا تَسْجُدَ} كما في قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ} ؛ أي: أقسم زيدت لتأكيد معنى النفي في منعك بدليل قوله في سورة ص: {ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ} بحذفها، وهو الأصل؛ لأن القرآن يفسر بعضه بعضا، فيصير المعنى؛ أي شيء منعك من امتثال أمري،
(1) الصاوي.
(2)
الخازن.
فرفضت أن تسجد لآدم مع الساجدين؟ وهذا قول الكسائي والفراء والزجاج. وقد تكون {لا} غير زائدة، والمنع بمعنى الحمل والاضطرار، وعليه فالمعنى: ما حملك واضطرك ودعاك إلى أن لا تسجد.
وخلاصة ذلك: أي شيء عرض لك، فحملك على أن لا تكون مع الملائكة في امتثال أمري؟ وقال ابن (1) كثير: واختار ابن جرير أن {مَنَعَكَ} مضمن معنى فعل آخر تقديره: ما أحوجك وألزمك واضطرك أن لا تسجد إذ أمرتك، وهذا القول قوي حسن، لأنه (2) لا يجوز أن يقال: إن كلمة من كتاب الله تعالى زائدة أو لا معنى لها.
{قالَ} اللعين الخبيث مجيبا للمولى عما سأله عنه {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} ؛ أي: إنما لم أسجد لآدم؛ لأني أنا خير وأفضل من آدم وأشرف منه، فكيف يسجد الفاضل ويعظم المفضول ولو أمره ربه؟ وإنما (3) قال في الجواب: أنا خير منه، ولم يقل منعني كذا؛ لأنّ في هذه الجملة التي جاء بها مستأنفة ما يدل على المانع، وهو اعتقاده أنه أفضل منه، والفاضل لا يفعل مثل ذلك للمفضول مع ما تفيده هذه الجملة من إنكار أن يؤمر مثله بالسجود لمثله، ثم علل ما ادعاه من الخيرية بقوله:{خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ} ؛ أي: وإنما كنت خيرا منه؛ لأنني خلقتني من نار نورانية، فهي أغلب أجزائي {وَخَلَقْتَهُ}؛ أي: وخلقت آدم {مِنْ طِينٍ} ظلماني، وهو أغلب أجزائه، فالنار أفضل من الطين؛ لأن النار مشرقة علوية لطيفة يابسة، مجاورة لجواهر السموات، والطين مظلم سفلي كثيف بعيد عن مجاورة السموات، والمخلوق من الأفضل أفضل.
وقد أخطأ إبليس اللعين طريق الصواب، فإن عنصر الطين أفضل من عنصر النار من جهة رزانته وسكونه وطول بقائه، والنار خفيفة مضطربة سريعة النفاد، ومع هذا فهو موجود في الجنة دونها، وهي عذاب دونه، وهي محتاجة إليه لتتحيز فيه، وهو مسجد وطهور، وهو سبب للحياة من إنبات النبات، وهي سبب لهلاك الأشياء، وهو سبب جمع الأشياء، وهي سبب تفريقها، ولولا سبق شقاوته
(1) ابن كثير.
(2)
الخازن.
(3)
الشوكاني.
وصدق كلمة الله عليه .. لكان له بالملائكة المطيعين لهذا الأمر أسوة وقدوة، فعنصرهم النوري أشرف من عنصره الناري، ومع ذلك سجدوا طاعة لربهم.
ولا شك (1) أن في جوابه هذا ضروبا من الجهالة، وأنواعا من الفسوق والعصيان، تتجلى وتتضح لك فيما يلي:
1 -
اعتراضه على مولاه وخالقه بما تضمنه جوابه.
2 -
احتجاجه عليه بما يؤيد به اعتراضه، والمؤمن المذعن لأمر ربه يعلم أن لله الحجة البالغة والحكمة الكاملة فيما يفعل، ويأمر وينهى.
3 -
أنه جعل امتثال الأمر موقوفا على استحسانه له، وموافقته لهواه، وهذا رفض لطاعة الخالق، وترفع عن مرتبة العبودية، والمرؤوس في الدنيا إذا لم يطع أمر الرئيس إلا فيما يوافق هواه .. صار الأمر فوضى، والعاقبة وخيمة. فلا يصح عمل، ولا يتم الفوز والنجاج.
وقد روى أبو نعيم في «الحلية» عن جعفر الصادق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«أول من قاس أمر الدين برأيه إبليس، قال الله تعالى له: اسجد لآدم. قال: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين» . قال جعفر: فمن قاس أمر الدين برأيه قربه الله يوم القيامة بإبليس.
4 -
استدلاله على خيريته بالمادة التي منها التكوين، وخيرية المواد بعضها على بعض أمور اعتبارية تختلف فيها الآراء، ولا تثبت بالبرهان إلى أن كثيرا من المواد النفسية خسيسة الأصل، ألا ترى أن أصل المسك الدم؛ وهو أطيب الطيب إلى أن الملائكة خلقوا من النور، وهو قد خلق من النار، والنور خير من النار، وهم قد سجدوا امتثالا لأمر ربهم.
5 -
أن جميع الأحياء النباتية والحيوانية التي في هذه الأرض إما من الطين مباشرة، أو بالواسطة، وهي خير ما فيها، وليس للنار شيء من هذه المزايا ولا ما يقرب منها.
(1) المراغي.