الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كما جاء في الحديث: «لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم» ، قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: «فمن؟» . رواه الشيخان. ورأس البلية في هذا الابتداع القول في الدين بالرأي، فما من أحد يبتدع، أو يتبع مبتدعا إلا استدل على بدعته بالرأي. وقد ظهرت مبادىء هذه البدع والأهواء في القرون الأولى قرون العلم بالسنة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما زال أمرها يستفحل حتى وصلت إلى ما نراه الآن. وما شرع (1) من اجتهاد الرأي في حديث معاذ وغيره؛ فهو خاص بالقضاء لا بأصول الدين وعباداته، فقد أكمل الله دينه، فلم يترك فيه نقصا يكمله غيره بظنه ورأيه بعد وفاة رسوله، وليس لقاض ولا مفت أن يسند رأيه الاجتهادي إلى الله، فيقول: هذا حكم الله، وهذا دينه، بل يقول: هذا مبلغ اجتهادي، فإن كان صوابا فمن توفيق الله وإلهامه، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان.
والخلاصة: أنه لا ينبغي لأحد أن يحرم شيئا تحريما دينيا على عباد الله، أو يوجب عليهم شيئا إلا بنص صريح عن الله ورسوله، ومن تهجم على ذلك .. فقد جعل نفسه شريكا لله، ومن تبعه في ذلك .. فقد جعله ربا له، ومن ثم كان فقهاء الصحابة والتابعين يتحامون القول في الدين بالرأي، وقد أنكر الله سبحانه وتعالى على من نسب إلى دينه تحليل شيء أو تحريمه من عنده بلا برهان، فقال:
وهذه الجنايات الخمسة المذكورة في هذه الآية أصول الجنايات، وأما غيرها فهي كالفروع.
34
- {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ} : من الأمم التي كذبت الرسل {أَجَلٌ} ؛ أي: وقت معين لهلاكها {فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ} ؛ أي: وقت هلاكهم؛ أي: أجل واحد اندرج تحت الأمة {لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً} ؛ أي: لا يتركون بعد الأجل طرفة عين {وَلا
(1) المراغي.
يَسْتَقْدِمُونَ}؛ أي: ولا يهلكون قبل الأجل طرفة عين، فقوله:{ساعَةً} ؛ أي: شيئا قليلا من الزمان؛ فهي مثل يضرب لغاية القلة من الزمان. ذكره أبو السعود. فالجزاء (1) مجموع الأمرين، لا كل واحد على حدته، والمعنى: أن الوقت المحدود لا يتغير، وهذا وعيد لأهل مكة بالعذاب النازل في أجل معلوم عند الله كما نزل بالأمم السابقة؛ إذ خالفوا أمر ربهم؛ يعني (2): فلا يؤخرون ولا يمهلون قدر ساعة ولا أقل من ساعة، وإنما ذكرت الساعة؛ لأنها أقل أسماء الأوقات في العرف يقول المستعجل لصاحبه: في ساعة، يريد في أقصر وقت وأقربه، وإنما أفرد (3) الأجل؛ لأنه اسم جنس، أو لتقارب أعمال أهل كل عصر، أو لكون التقدير: لكل واحد من أمة. وقرأ الحسن وابن سيرين: {فإذا جاء آجالهم} بالجمع.
والمعنى (4): قل يا محمد لقومك ولغيرهم لكل أمة أمد مضروب لحياتها مقدر لها بحسب السنن التي وضعها الخالق لوجودها، وهذا الأجل على ضربين: أجل لوجودها في الحياة الدنيا، وأجل لعزها وسعادتها بين الأمم:
الأول: أجل لأمة بعث فيها رسول لهدايتها، فردوا دعوته كبرا وعنادا، واقترحوا عليه الآيات فأعطوها مع إنذارهم بالهلاك إذا لم يؤمنوا، فاستمروا في تكذيبهم، فأخذهم ربهم أخذ عزيز مقتدر، كما وقع لقوم نوح وعاد وثمود وفرعون وإخوان لوط وغيرهم.
وهذا النوع من الهلاك كان خاصا بأقوام الرسل أولي الدعوة الخاصة بأقوامهم، وقد انتهى ذلك ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم الذي خاطبه الله بقوله:{وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ..} وقد مضت سنة الله في الأمم أن الذين يقترحون الآيات لا يؤمنون بها، ومن ثم لم يعط الله تعالى رسوله شيئا مما كانوا يقترحونه عليه.
(1) المراح.
(2)
الخازن.
(3)
البحر المحيط.
(4)
المراغي.
والثاني: أجل مقدر لحياة الأمم سعيدة عزيزة باستقلالها ومكانتها بين الأمم، وهذا منوط بسنن الله في الاجتماع البشري، وعوامل الرقي والعمران، وأسباب انتهاء هذا الاجتماع لا تعد، ومخالفة ما أرشدت إليه الآيات السالفة كإسراف في الزينة، أو إسراف في التمتع بالطيبات، أو باقتراف الفواحش والآثام والبغي على الناس، أو بالتوغل في خرافات الشرك والوثنية، أو بالكذب على الله بإرهاق الأمة بما لم يشرعه لها من الأحكام. فالأمم التي ترتكب هذه الضلالات والمفاسد يسلبها الله سعادتها، ويسلط عليها من يستذلها كما قال تعالى:{وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)} وهاكم شاهد صدق على ما نقول، إن الأمم التي كان لها شأن يذكر في التاريخ كالرومان والفرس والعرب والترك وغيرهم، ممن سلب ملكهم كله أو بعضه، لم يكن لذلك من سبب سوى ما أسلفنا، وهذا الضرب من الأجل، وإن عرفت أسبابه لا يمكن أن يحد بالسنين والأعوام والليالي والأيام، ولكن الله يعلم تحديده بما أوجده من الأسباب التي تنتهي بمسبباتها، وبالمقدمات التي تترتب عليها نتائجها كما قال:{فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} .
الساعة لغة: أقل مدة من الزمن؛ أي: فإذا جاء الوقت الذي وقته الله لهلاكهم، وحلول العقاب بهم لا يتأخرون عنه بالبقاء في الدنيا أقل تأخر، كما أنهم لا يتقدمون أيضا عن الوقت الذي جعله لهم وقتا للفناء والهلاك. فإن قلت:
لم أتى بالفاء هنا وفي سائر المواضع إلا في يونس فحذفها؟
قلت: لأن مدخولها في غير يونس جملة معطوفة على أخرى مصدرة بالواو، وبينهما اتصال وتعقيب، فحسن الإتيان بالفاء الدالة على التعقيب بخلاف ما في يونس. انتهى من «الفتوحات» .
وفي الآية إيماء إلى أن الأمة قد تملك طلب تأخير الهلاك قبل مجيئه؛ أي:
قبل أن تغلبها على إرادتها أسباب الهلاك بأن تترك الفواحش والآثام والظلم والبغي، والإسراف المفسد للأخلاق، وخرافات الشرك المفسدة للعقول، وتترك البدع في التحريم والتحليل بما لم يخاطب به المولى بأن يقوم فيها جماعة من