الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شعيب، مأخوذ من القيلولة؛ وهي استراحة وسط النهار، وإن لم يكن معها نوم. قال أبو حيان (1): وخص مجيء البأس بهذين الوقتين؛ لأنهما وقتان للسكون والدعة والاستراحة، فمجيء العذاب فيهما أشق وأفظع؛ لأنه على حين غفلة من المهلكين من غير تقدم أمارة تدلهم على وقت نزول العذاب بهم، وفيه وعيد وتخويف للكفار، فكأنه قيل لهم: لا تغتروا بأسباب الأمن والراحة والفراغ، فإن عذاب الله إذا نزل دفعة واحدة، فلا تغتروا بأحوالكم فلا يجمل بالعاقل أن يأمن غدر الليالي، ولا خدع الأيام، ولا يغتر بالرخاء فيعده علامة على أنه مستحق له، فهو مظنة الدوام.
وفي ذلك (2): تعريض بغرور كفار قريش بقوتهم وثروتهم وعزهم وعصبيتهم، وأن ذلك من دلائل رضا الله عنهم كما قال تعالى حكاية عنهم:{وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلادًا وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} . {فَما كانَ دَعْواهُمْ} ؛ أي: دعاءهم وتضرعهم واستغاثتهم، أو ما كان قولهم:{إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا} ؛ أي: حين جاءهم عذابنا، ورأوا أمارته في الدنيا إلا أن قالوا: إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ أي: مشركين؛ أي: ما كان قولهم وقتئذ إلا اعترافهم بظلمهم تحصرا وندامة، وهيهات أن ينفع الندم.
5
- أي: فما كان دعاءهم ربهم واستغاثتهم به حين جاءهم العذاب إلا أن اعترفوا بظلمهم فيما كانوا عليه، وشهدوا ببطلانه تحسرا وندامة، وطمعا في الخلاص، ولكن أنى ينفع الندم، وقد أزفت الآزفة ليس لها من دون الله كاشفة. وفي الآية من العبرة أن كل مذنب يقع عليه عقاب ذنب فعله في الدنيا .. يعترف بجرمه، ويندم على ما فرط منه إذا هو علم أنه سبب العقاب، وقلما يشعر المرء بعقاب في الدنيا على الذنوب؛ لأنه يأتي على التراخي غالبا، فالأمراض التي تتولد من شرب الخمر كأمراض القلب والكبد والجهاز التناسلي، وضعف النسل واستعداده للأمراض إلى نحو ذلك من الأمراض الجسدية والعقلية تحصل ببطء،
(1) البحر المحيط.
(2)
المراغي.
وقلما يعرفها غير الأطباء، ومن ثم لا يشعر بها السكارى، وإنما يشعرون بما يعقب الشرب من صداع وغشيان يسهل عليهم احتماله، وترجيح لذة النشوة عليه إلى أنه لو علمها بعد، فقلما يفيد علمه بها شيئا بعد بلوغ تأثيرها هذه الدرجة في السكر حتى تحمله على التوبة إذ داء الخمّار يزمن، وحب السكر يضعف الإرادة. وعقاب الأفراد على الذنوب في الدنيا لا يطرد في الأمم، فعقابها في الدنيا على ما تجترح حتم لا شبهة فيه، ولكن له آجال ومواقيت أطول مما يكون في الأفراد، ويختلف باختلاف أحوال الأمة في القوة والضعف، فأمة نشأ فيها الظلم والطغيان، وعدمت الثقة بين أفرادها، واختلّ نظام الأمن فيها، وكثر فيها الفسق والفجور .. تسوء حالها، وتنحل قواها، وتتفكك روابط الألفة والمودة بين أفرادها، وتضعف منعتها، فتحسب أهلها جميعا وقلوبهم شتى، ولا يزال أمرها يأخذ في التدهور - السقوط في مهواة التسفل - والفساد حتى يستولى عليها العدو القاهر، ويمتص ثروتها، ويجعل أهلها أذلة مستضعفين، وقلما تشعر أمة بعاقبة ذنوبها قبل وقوع العقوبة كما لا يجديها نفعا أن يقول حكماؤها: يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ.
وربما عمّها الجهل، وران على قلوبها الفساد، فلا تشعر بأن ما حل بها إنما كان جزاء وفاقا، ونكالا من الله على ما قدمت من عمل، واقترفت من إثم، فترضى باستذلال الغاصب واستعباده واستئماره، كما رضيت من قبل بما اجترحت من الآثام والذنوب، كما هو مشاهد في بعض شعوب إفريقيا، وإذا أرادت لها علاجا، وتمنت لها دواء من دائها الدوي، وتلفتت يمنة ويسرة سرا وعلانية .. لم تجده إلا ما وصفه الكتاب الكريم:{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ} ولن يكون ذلك إلا بالإقلاع عما ترتكب من الجرائم، والتوبة الصادقة، والعمل الطيب الذي تصلح به القلوب، وتستقيم الأمور، وهاكم ما قاله العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم حين توسل به عمر والصحابة بتقديمه لصلاة الاستسقاء لما انقطع الغيث، وعم الجدب: اللهم إنه لا ينزل بلاء إلا بذنب، ولا يرفع إلا بتوبة.
وفي هذا عبرة أيما عبرة للشعوب الإسلامية التي ثلّت عروشها، وخوت صروح عظمتها، وقد كانت أجدر بهدى القرآن، ولكن أنى لها بذلك، وقد هجره