المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. وأفرد (1) الصلاة بالذكر مع دخولها - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٩

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. وأفرد (1) الصلاة بالذكر مع دخولها

ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

وأفرد (1) الصلاة بالذكر مع دخولها في النسك؛ لأن روحها - وهو الدعاء، وتعظيم المعبود، وتوجيه القلب إليه والخوف منه - مما يقع فيه الشرك.

والخلاصة: أنه لا ينبغي أن تكون العبادة إلا لله رب العباد وخالقهم، فمن توجه إليه وإلى غيره من عباده المكرمين، أو إلى غيرهم مما يستعظم من خلقه .. كان مشركّا، فالله لا يقبل من العبادة إلا ما كان خالصا لوجهه الكريم.

ومعنى {لا شَرِيكَ لَهُ} ؛ أي: لا شريك له في ألوهيته، فيستحق أن يشركه في العبادة ويتوجه إليه معه للتأثير في عبادته، وبذلك أمرني ربي، وأنا أول المسلمين المنقادين إلى امتثال ما أمره به، وترك ما نهى عنه. وفي هذا بيان إجمالي لتوحيد الألوهية بالعمل بعد بيان أصل التوحيد في العقيدة،

‌164

- ثم انتقل إلى برهانه الأعلى، وهو توحيد الربوبية بما أمره به، فقال:{قُلْ} يا محمد لهؤلاء المشركين توبيخا لهم وإنكارا عليهم {أَغَيْرَ اللَّهِ} الذي خلق الخلق ورباهم {أَبْغِي} وأطلب {رَبًّا} آخر أشركه في عبادتي له بدعائه والتوجه إلى لينفعني، أو يمنع الضر عني، أو ليقربني إليه زلفى؛ أي: هل أطلب ربا ومالكا وإلها غير الله سبحانه وتعالى أعبده وأتخذه إلها ومعبودا؟ {وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} ؛ أي: والحال أنه سبحانه وتعالى رب كل شيء مما عبد، ومما لم يعبد، ومالكه وخالقه، فكيف يليق بي أن أتخذ إلها غير الله؟ فهو الذي خلق الملائكة والمسيح، والشمس والقمر، والكواكب والأصنام، كما قال:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96)} وإذا كان هو الخالق والمدبر، فكيف أسفه نفسي، وأكفر بربي بجعل المخلوق المربوب مثلي ربا لي، وجميع المشركين يعترفون بأن معبوداتهم مخلوقة لله رب العالمين وخالق الخلق أجمعين.

والمعنى: أي (2) لا أطلب إلها غيره ولا أتوكل إلا عليه، فهو رب كل شيء

(1) المراغي.

(2)

الجمل.

ص: 184

ومليكه وخالقه، فكيف يكون المملوك شريكا لمالكه {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ}؛ أي: ولا تحمل نفس ذنبا {إِلَّا} كان {عَلَيْها} جزاؤه لا على غيرها {وَلا تَزِرُ} ؛ أي: ولا تعمل كل نفس {وازِرَةٌ} ؛ أي: آثمة؛ أي: ولا غير وازرة أيضا {وِزْرَ أُخْرى} ؛ أي: ذنب نفس أخرى؛ أي: فلا تحمل آثمة ولا طائعة ذنب غيرها، وإنما (1) قيد في الآية بالوازرة موافقة لسبب النزول، وهو أن الوليد بن المغيرة كان يقول للمؤمنين: اتبعوا سبيلي أحمل عنكم أوزاركم، وهو وازر وآثم إثما كبيرا. وفي الآية رد لما كانت عليه الجاهلية من مؤاخذة القريب بذنب قريبه، والواحد من القبيلة بذنب الآخر، وقد قيل: إن المراد بهذه الآية في الآخرة والأولى حمل الآية على ظاهرها؛ أعني: العموم، وما ورد من المؤاخذة بذنب الغير كالدية التي تحملها العاقلة، ونحو ذلك .. فيكون في حكم المخصص بهذا العموم، ويقر في موضعه، ولا يعارض هذه الآية قوله تعالى:{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ} فإن المراد بالأثقال التي مع أثقالهم هي أثقال الذين يضلونهم كما في الآية الأخرى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} ذكره الشوكاني.

والخلاصة:

أن الدين أرشدنا أن نجري على ما أودعته الفطرة في النفوس من أن سعادة الناس وشقاءهم في الدنيا بأعمالهم، والعمل يؤثر في النفس التأثير الذي يزكيها إن كان صالحا، أو التأثير الذي يدسيها ويفسدها إن كان سيئا، والجزاء مبني على هذا التأثير، فلا ينتفع أحد، ولا يتضرر بعمل غيره.

ومن كان قدوة صالحة في عمل، أو معلما له .. فإنه ينتفع بعمل من أرشدهم بقوله أو فعله زيادة على انتفاعه بأصل ذلك القول أو الفعل، ومن كان قدوة سيئة في عمل، أو دالا عليه ومغريا به .. فإن عليه مثل إثم من فعله، وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم هذا بقوله: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان

(1) الفتوحات.

ص: 185

عليه وزرها، ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء». رواه مسلم.

وهذه قاعدة من أصول كل دين بعث الله به رسله كما جاء في سورة النجم: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى (39)} . وهذه الوصية من أعظم دعائم الإصلاح في المجتمع البشري، وهادمة لأسس الوثنية، وهادية للناس جميعا إلى ما تتوقف عليه سعادتهم في الدنيا والآخرة، فإن العمل وحده هو وسيلة الفوز وطريق النجاة، لا كما يزعم الوثنيون من طلب رفع الضر وجلب النفع بقوة من وراء الغيب، وهي وساطة بعض المخلوقات الممتازة ببعض الخواص والمزايا بين الناس وربهم ليعطيهم ما يطلبون في الدنيا بلا كسب ولا سعي من طريق الأسباب التي جرت بها سنته في خلقه، وليحملوا عنهم أوزارهم حتى لا يعاقبوا بها، أو ليحملوا الخالق على رفعها عنهم، وترك عقابهم عليها، وعلى إعطائهم نعيم الآخرة، وإنقاذهم من عذابها.

ومما ينتفع به المرء من عمل غيره - لأنه في الحقيقة كأنه عمله، إذ كان سببا فيه - دعاء أولاده وحجهم وتصدقهم عنه وقضاؤهم لصومه، كما ورد في الحديث:«إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي عن أبي هريرة. ذاك أن الله قد ألحق ذرية المؤمنين بهم بنص الكتاب، وصح في السنة أن ولد الرجل من كسبه.

{ثُمَّ} بعد اختلافكم في الدنيا في الأديان والملل {إِلى رَبِّكُمْ} لا إلى غيره {مَرْجِعُكُمْ} ؛ أي: رجوعكم يوم القيامة للمجازاة، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر {فَيُنَبِّئُكُمْ}؛ أي: يخبركم ويعلمكم {بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} في الدنيا من الأديان والملل، فيثيب المسلمين ويعذب الكافرين؛ أي: ثم إن رجوعكم في الحياة الآخرة إلى ربكم دون غيره مما عبدتم من دونه، فينبئكم بما كنتم تختلفون فيه من أمر أديانكم المختلفة، ويتولى جزاءكم عليه وحده بحسب علمه وإرادته القديمين،

ص: 186