المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

تصدوا لإيذاء النبي صلى الله عليه وسلم والكيد له، فقتل - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٩

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: تصدوا لإيذاء النبي صلى الله عليه وسلم والكيد له، فقتل

تصدوا لإيذاء النبي صلى الله عليه وسلم والكيد له، فقتل منهم من قتل في بدر، ولحق الصغار والهوان بالباقين.

‌125

- ثم أردف ذلك بالموازنة بينهم وبين المستعدين للإيمان، فقال:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ} ؛ أي: فمن يرد الله سبحانه وتعالى هدايته للحق ويرشده لدينه {يَشْرَحْ صَدْرَهُ} ؛ أي: يوسع قلبه {لِلْإِسْلامِ} حتى يقبله بصدر منشرح منبسط له.

ومعنى الآية (1): فمن يرد الله تعالى أن يهديه للإيمان بالله وبرسوله وبما جاء به من عنده .. يوفقه له ويشرح صدره لقبوله ويهونه عليه، ويسهله له بفضله وكرمه ولطفه به وإحسانه إليه، فعند ذلك يستنير الإسلام في قلبه، فيضيء به ويتسع له صدره.

والخلاصة (2): فمن كان أهلا بإرادة الله وتقديره لقبوله دعوة الإسلام الذي هو دين الفطرة والهادي إلى طريق الحق والرشاد .. وجد لذلك في نفسه انشراحا واتساعا بما يشعر به قلبه من السرور، فلا يجد مانعا من النظر الصحيح فيما ألقي إليه فيتأمله وتظهر له عجائبه، وتتضح له دلالته، فتتوجه إليه إرادته، ويذعن له قلبه بما يرى من ساطع النور الذي يستضيء به لبه، وباهر البرهان الذي يتملك نفسه.

ولما نزلت هذه الآية (3) .. سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرح الصدر، فقال:

«هو نور يقذفه الله تعالى في قلب المؤمن، فينشرح له وينفسح» ، فقالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال: «نعم، الإنابة إلى الدار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت» . وأسند الطبري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت عليه هذه الآية: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ} قال: «إذا دخل النور القلب .. انفسح وانشرح» . قالوا: فهل لذلك من آية يعرف بها؟ قال: «الإنابة إلى دار

(1) الخازن.

(2)

المراغي.

(3)

الخازن.

ص: 52

الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت».

{وَمَنْ يُرِدْ} الله سبحانه وتعالى {أَنْ يُضِلَّهُ} ؛ أي: إضلاله وشقاوته {يَجْعَلْ صَدْرَهُ} وقلبه {ضَيِّقًا} عن قبول الإسلام غير متسع له {حَرَجًا} ؛ أي: شديد الضيق لا يتسع لشيء من الهدي، ولا يخلص إليه شيء من الإيمان فهو بمعنى الضيق مع المبالغة كرره تأكيدا، وحسن ذلك اختلاف اللفظ {كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ}؛ أي: كأنما يتكلف صدره الصعود في السماء، ويحاول الطلوع إليها، ويزاول أمرا غير ممكن. قال ابن جرير: وهذا (1) مثل ضربه الله لقلب هذا الكافر في شدة ضيقه عن وصول الإيمان إليه مثل امتناعه من الصعود إلى السماء وعجزه عنه؛ لأنه ليس في وسعه، أي: أن (2) من فسدت فطرته بالشرك وتدنست نفسه بالآثام والذنوب .. يجد في صدره ضيقا أيما ضيق إذا طلب إليه التأمل فيما يدعى له من دلائل التوحيد، والنظر في الآفاق والأنفس لما استحوذ على قلبه من باطل التقاليد والاستكبار عن مخالفة ما ألفه وسار عليه الناس، وتضعف إرادته عن ترك ما هو عليه، فتكون إجابته الداعي إلى الدين الجديد ثقيلة عليه، ويشعر بالعجز عن احتمالها، ويكون مثله مثل من صعد في الطبقات العليا في جو السماء إذ يشعر بضيق شديد في التنفس، وكلما صعد في الجو أكثر شعر بضيق أشد، حتى إذا ما ارتفع إلى أعلى من ذلك شعر بتخلخل الهواء، ولم يستطع سبيلا إلى البقاء، فإن هو قد بقي فيها مات اختناقا.

وخلاصة ذلك: أن الله ضرب مثلا لضيق النفس المعنوي يجده من دعي إلى الحق، وقد ألف الباطل وركن إليه بضيق التنفس الذي يجده من صعد بطائرة إلى الطبقات العليا من الجو حتى لقد يشعر بأنه أشرف على الهلاك، وهو لا محالة هالك إن لم يتدارك نفسه، وينزل من هذا الجو إلى طبقات أسفل.

سبحانك ربي، نطق كتابك الكريم بقضية لم يتفهم سرّها البشر، ولم يفقه

(1) الطبري.

(2)

المراغي.

ص: 53

معرفة كنهها إلا بعد أن مضى على نزولها نحو أربعة عشر قرنا، وتقّدم فنّ الطيران، الآن علم الطيارين بالتجربة صدق ما جاء في كتابك، ودل على صحة ما ثبت في علم الطبيعة من اختلاف الضغط الجوي في مختلف طبقات الهواء، وقد علم الآن أن الطبقات العليا أقل كثافة في الهواء من الطبقات التي هي أسفل منها، وأنه كلما صعد الإنسان إلى طبقة أعلى شعر بالحاجة إلى الهواء وبضيق في التنفس نتيجة لقلة الهواء الذي يحتاج إليه حتى لقد يحتاجون أحيانا إلى استعمال جهاز التنفس؛ ليساعدهم على السير في تلك الطبقات.

وهذه الآيات وأمثالها لم يستطع العلماء أن يفسروها تفسيرا جليا؛ لأنهم لم يهتدوا لسرها، وجاء الكشف الحديث وتقدم العلوم، فأمكن شرح مغزاها وبيان المراد منها بحسب ما أثبته العلم، ومن هذا صح قولهم: الدين والعلم صنوان لا عدوان، وهكذا كلما تقدم العلم أرشد إلى إيضاح قضايا خفي أمرها على المتقدمين من العلماء والمفسرين.

وخلاصة معنى الآية (1): فمن يرد الله أن يهديه قوّى في قلبه ما يدعوه إلى الإيمان؛ بأن اعتقد أن نفعه زائد وخيره راجح وربحه ظاهر، فمال طبعه إليه وقويت رغبته في حصوله وحصل في القلب استعداد شديد لتحصيله، ومن يرد أن يضله ألقى في قلبه ما يصرفه عن الإيمان ويدعوه إلى الكفر بأن اعتقد أن شر الإيمان زائد وضرره راجح، فعظمت النفرة عنه، فإن الكافر إذا دعي إلى الإسلام شق عليه جدا، كأنه كلف أن يصعد إلى السماء إذا دعي إلى الإسلام من ضيق صدره عنه، ولا يقدر على ذلك، أو المعنى: كان قلب الكافر يصعد إلى السماء تكبرا عن قبول الإسلام.

وقرأ ابن كثير (2): {ضَيِّقًا} - بالتخفيف - مثل هين ولين، وقرأ الباقون بالتشديد، وهما لغتان، وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم:{حَرِجًا} - بكسر الراء -

(1) المراح.

(2)

الشوكاني وابن الجوزي.

ص: 54