المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

لا تعقل له فائدة ولا تظهر فيه لذوي العقول الراجحة - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٩

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: لا تعقل له فائدة ولا تظهر فيه لذوي العقول الراجحة

لا تعقل له فائدة ولا تظهر فيه لذوي العقول الراجحة مصلحة.

‌152

- والسادس: ما ذكره بقوله: {وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ؛ أي: ولا تقربوا مال اليتيم إذا وليتم أمره، أو تعاملتم به ولو بواسطة وليه، أو وصيه إلا بالفعلة التي هي أحسن من غيرها في حفظ ماله وتثميره، ورجحان مصلحته، والإنفاق منه على تربيته، وتعليمه ما به يصلح معاشه ومعاده. قال مجاهد: هي التجارة فيه. وقال الضحاك: هو أن يسعى له فيه، ولا يأخذ من ربحه شيئا، هذا إذا كان القيم بالمال غنيا غير محتاج، فلو كان الوصي فقيرا .. فله أن يأكل بالمعروف، والنهي عن القرب من الشيء أبلغ من النهي عنه، فإن الأول يتضمن النهي عن الأسباب والوسائل المؤدية إليه، وعن الشبهات التي هي مظنة التأويل، فيبتعد عنه المتقي ويستسيغها الطامع فيه إذ يراها بالتأويل من الوجوه الحلال لا تضر به، أو يرجح نفعها على ضررها كأن يأكل من ماله حين يعمل عملا له فيه ربح، ولولاه ما ربح.

{حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} ؛ أي: احفظوا مال اليتيم إلى أن يبلغ أشده؛ أي: إلى بلوغه رشيدا، فإذا بلغ أشده فادفعوا إليه ماله، فأما (1) الأشد: فهو استحكام قوة الشباب والسن حتى يتناهى في الشباب إلى حد الرجال. والمراد بالأشد في هذه الآية: هو ابتداء بلوغ الحلم مع إيناس الرشد، وهو أن يكون في تصرفاته سالكا مسلك العقلاء لا مسلك أهل السفه والتبذير، وهذا هو المختار في تفسير هذه الآية.

والمعنى:

احفظوا مال اليتيم، ولا تسمحوا له بتبذير شيء من ماله وإضاعته أو الإسراف فيه حتى يبلغ، فإذا بلغ رشيدا فسلموه إليه.

والخلاصة:

أن المراد النهي عن كل تعد على مال اليتيم، وهضم لحقوقه من الأوصياء وغيرهم حتى يبلغ سن القوة بدنا وعقلا؛ إذ قد دلت التجارب على أن الحديث العهد بالاحتلام يكون ضعيف الرأي قليل الخبرة بشؤون المعاش يخدع كثيرا في المعاملات.

(1) الخازن.

ص: 136

وقد كان الناس في الجاهلية لا يحترمون إلا القوة ولا يعرفون الحق إلا للأقوياء، ومن ثم بالغ الشارع في الوصية بالضعيفين المرأة واليتيم.

وقد شرط الشارع الحكيم لإيتاء اليتامى أموالهم بلوغ سن الحلم (1)، وظهور الرشد في المعاملات المالية بالاختبار، كما سلف في سورة النساء من قوله:{وَابْتَلُوا الْيَتامى} الآية.

والقوة التي يحفظ بها المرء ماله في هذا العصر هي إتزان الفكر والرشد العقلي والأخلاقي بكثرة المران والتجارب في المعاملات، لكثرة الفسق والحيل، ووجود أعوان السوء الذين يوسوسون إلى الوارثين، ويزينون لهم الإسراف في اللذات والشهوات على جميع ضروبها حتى لا يتركوهم إلا وهم فقراء، وقلما يستيقظون من غفلتهم إلا إذا بلغوا سن الكهولة التي يكمل فيها العقل، ويفقهون تكاليف الحياة، ويهتمون فيها بأمر النسل.

والسابع: ما ذكره بقوله: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ} ؛ أي: أتموا الكيل بالكميال {وَ} الوزن بـ {الْمِيزانَ بِالْقِسْطِ} ؛ أي: بالعدل والحق من غير نقصان من المعطي، ومن غير طلب الزيادة من صاحب الحق.

والمعنى: وأتموا الكيل إذا كلتم للناس أو اكتلتم عليهم لأنفسكم، وأوفوا الميزان إذا وزنتم لأنفسكم فيما تبتاعون، أو لغيركم فيما تبيعون فليكن كل ذلك وافيا تاما بالعدل، ولا تكونوا من أولئك المطففين الذين وصفم الله تعالى بقوله:{الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)} .

والخلاصة: أن الإيفاء بالكيل والميزان يكون من الجانبين حين البيع وحين الشراء، فيرضى المرء لغيره ما يرضاه لنفسه، وقوله:{بِالْقِسْطِ} يدل على تحري العدل في الكيل والميزان حال البيع والشراء بقدر المستطاع {لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَها} ؛ أي: أن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا ما يسعها فعله بأن تأتيه بلا عسر ولا حرج، فهو لا يكلف من يبيع أو يشتري الأقوات ونحوها أن يزنها أو يكيلها

(1) المراغي.

ص: 137

بحيث لا تزيد حبة ولا مثقالا، بل يكلفه أن يضبط الوزن والكيل له أو عليه سواء، بحيث يعتقد أنه لم يظلم بزيادة ولا نقص يعتد بهما عرفا. والقاعدة الشرعية: أن التكليف إنما يكون بما في وسع المكلف بلا حرج ولا مشقة عليه، ولو اتبع المسلمون هذه الوصية وعملوا بها .. لاستقامت أمور معاملاتهم وعظمت الثقة والأمانة بينهم، ولكن وا أسفا فسدت أمورهم، وقلت ثقتهم بأنفسهم، ووثقوا بغيرهم لاتباعهم هذه الوصية وأمثالها، وقد قص علينا الكتاب الكريم قصص من طففوا الكيل والميزان، فأخذهم ربهم أخذ عزيز مقتدر بما كان من ظلمهم كقوم شعيب. وقد حكى الله عنهم ما قال لهم نبيهم شعيب عليه السلام: ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحاب الكيل والميزان: «إنكم وليتم أمرا هلكت فيه الأمم السالفة قبلكم» .

والثامن: ما ذكره بقوله: {وَإِذا قُلْتُمْ} في الحكم أو الشهادة أو غيرهما {فَاعْدِلُوا} ؛ أي: فاصدقوا {وَلَوْ كانَ} المقول له أو عليه {ذا قُرْبى} ؛ أي: صاحب قرابة منكم.

والمعنى (1): وعليكم أن تعدلوا في القول إذ قلتم قولا في شهادة أو حكم على أحد، ولو كان المقول له أو عليه ذا قرابة منكم؛ إذا بالعدل تصلح شؤون الأمم والأفراد، فهو ركن ركين في العمران، وأساس في الأمور الاجتماعية، فلا يحل لمؤمن أن يحابي فيه أحدا لقرابة ولا غيرها، فالعدل كما يكون في الأفعال كالوزن والكيل .. يكون في الأقوال، ونحو الآية قوله تعالى:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} وقوله: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ} .

والتاسع: ما ذكره بقوله {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} ؛ أي: وأتموا عهد الله، وهو شامل بما عهد الله تعالى إلى عباده ووصاهم به، وأوجبه عليهم، وبما أوجبه

(1) المراغي.

ص: 138

الإنسان على نفسه كنذر ونحوه، وبما عاهده الناس بعضهم بعضا. فمن آمن برسول من رسل الله تعالى .. فقد عاهد الله حين الإيمان به أن يمتثل أمره ونهيه، وما شرعه للناس ووصاهم به فهو مما عهده إليهم، وما التزمه الإنسان من عمل البر بنذر أو يمين فهو عهد عاهد عليه ربه كما قال تعالى ناعيا على المنافقين سوء فعلهم:{وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ} الآية. وكذلك من عاهد السلطان وبايعه على الطاعة في المعروف، أو عاهد غيره على القيام بعمل مشروع وجب عليه الوفاء إذا لم يكن من قبيل المعصية. روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كان فيه خصلة منها كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» .

{ذلِكُمْ} التكاليف الأربعة المذكورة في هذه الآية {وَصَّاكُمْ بِهِ} ؛ أي: أمركم ربكم به أمرا مؤكدا {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ؛ أي: لعلكم تتعظون وتتذكرون فتأخذون ما أمركم به.

والتذكر (1) يطلق حينا على تكلف ذكر الشيء في القلب أو التدرج فيه بفعله المرة إثر الأخرى، وحينا على الاتعاظ والتدبر كما قال تعالى:{وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} وقال: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10)} .

والخلاصة (2): أن ذلك الذي تلوته عليكم من الأوامر والنواهي وصاكم الله به رجاء أن يذكره بعضكم لبعض في التعليم والتواصي الذي أمر الله به في مثل قوله: {وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ} لما فيه من مصالح ومنافع كتدارك النسيان والغفلة من كثرة الشواغل الدنيوية، أو رجاء أن يتعظ به من سمعه أو قرأه.

ولما كانت (3) التكاليف الخمسة المذكورة في الآية الأولى أمورا ظاهرة يجب تعقلها وتفهمها .. ختمت بقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ولما كانت التكاليف

(1) المراغي.

(2)

المراغي.

(3)

المراح.

ص: 139