الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ، وَقِصَّةِ أَبِي الْيَسَرِ
[3006]
حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ- وَتَقَارَبَا فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ، وَالسِّيَاقُ لِهَارُونَ- قَالَا: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ مُجَاهِدٍ أَبِي حَزْرَةَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي نَطْلُبُ الْعِلْمَ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنْ الْأَنْصَارِ قَبْلَ أَنْ يَهْلِكُوا، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ لَقِينَا أَبَا الْيَسَرِ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ غُلَامٌ لَهُ مَعَهُ ضِمَامَةٌ مِنْ صُحُفٍ، وَعَلَى أَبِي الْيَسَرِ بُرْدَةٌ وَمَعَافِرِيَّ، وَعَلَى غُلَامِهِ بُرْدَةٌ وَمَعَافِرِيَّ، فَقَالَ لَهُ أَبِي: يَا عَمِّ، إِنِّي أَرَى فِي وَجْهِكَ سَفْعَةً مِنْ غَضَبٍ؟ قَالَ: أَجَلْ، كَانَ لِي عَلَى فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ الْحَرَامِيِّ مَالٌ، فَأَتَيْتُ أَهْلَهُ، فَسَلَّمْتُ، فَقُلْتُ: ثَمَّ هُوَ؟ قَالُوا: لَا، فَخَرَجَ عَلَيَّ ابْنٌ لَهُ جَفْرٌ، فَقُلْتُ لَهُ: أَيْنَ أَبُوكَ؟ قَالَ: سَمِعَ صَوْتَكَ فَدَخَلَ أَرِيكَةَ أُمِّي، فَقُلْتُ: اخْرُجْ إِلَيَّ، فَقَدْ عَلِمْتُ أَيْنَ أَنْتَ، فَخَرَجَ، فَقُلْتُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنِ اخْتَبَأْتَ مِنِّي؟ قَالَ: أَنَا- وَاللَّهِ- أُحَدِّثُكَ، ثُمَّ لَا أَكْذِبُكَ، خَشِيتُ- وَاللَّهِ- أَنْ أُحَدِّثَكَ فَأَكْذِبَكَ، وَأَنْ أَعِدَكَ فَأُخْلِفَكَ، وَكُنْتَ صَاحِبَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكُنْتُ- وَاللَّهِ- مُعْسِرًا قَالَ: قُلْتُ: آللَّهِ؟ قَالَ: اللَّهِ، قُلْتُ: آللَّهِ؟ قَالَ: اللَّهِ، قُلْتُ: آللَّهِ؟ قَالَ: اللَّهِ، قَالَ: فَأَتَى بِصَحِيفَتِهِ، فَمَحَاهَا بِيَدِهِ، فَقَالَ: إِنْ وَجَدْتَ قَضَاءً فَاقْضِنِي، وَإِلَّا أَنْتَ فِي حِلٍّ، فَأَشْهَدُ بَصَرُ عَيْنَيَّ هَاتَيْنِ- وَوَضَعَ
إِصْبَعَيْهِ عَلَى عَيْنَيْهِ- وَسَمْعُ أُذُنَيَّ هَاتَيْنِ، وَوَعَاهُ قَلْبِي هَذَا- وَأَشَارَ إِلَى مَنَاطِ قَلْبِهِ- رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يَقُولُ:((مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا، أَوْ وَضَعَ عَنْهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ)).
[3007]
قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ أَنَا: يَا عَمِّ، لَوْ أَنَّكَ أَخَذْتَ بُرْدَةَ غُلَامِكَ وَأَعْطَيْتَهُ مَعَافِرِيَّكَ، وَأَخَذْتَ مَعَافِرِيَّهُ وَأَعْطَيْتَهُ بُرْدَتَكَ، فَكَانَتْ عَلَيْكَ حُلَّةٌ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ، فَمَسَحَ رَأْسِي، وَقَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ فِيهِ، يَا ابْنَ أَخِي، بَصَرُ عَيْنَيَّ
هَاتَيْنِ، وَسَمْعُ أُذُنَيَّ هَاتَيْنِ، وَوَعَاهُ قَلْبِي هَذَا- وَأَشَارَ إِلَى مَنَاطِ قَلْبِهِ- رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ:((أَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ))، وَكَانَ أَنْ أَعْطَيْتُهُ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ حَسَنَاتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
في هذا الحديث والأحاديث التي بعده: الحرص على طلب العلم، وأنه ينبغي للمسلم أن ينتهز الفرصة ما دام أهل العلم موجودين؛ ولهذا قال رضي الله عنه:((خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي نَطْلُبُ الْعِلْمَ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنْ الْأَنْصَارِ قَبْلَ أَنْ يَهْلِكُوا))، يعني: قبل أن يموتوا، ويذهب العلم بموتهم؛ لأن ذهاب العلم يكون بذهاب العلماء، كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم:((إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا))
(1)
.
وقوله: ((فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ لَقِينَا أَبَا الْيَسَرِ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم): أبو اليسر- بفتح المثناة التحتية وفتح السين المهملة- صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، ((وَمَعَهُ غُلَامٌ))، أي: عبد مملوك.
وقوله: ((مَعَهُ ضِمَامَةٌ))، أي: رزمة من صحف.
وقوله: ((وَعَلَى أَبِي الْيَسَرِ بُرْدَةٌ وَمَعَافِرِيَّ، وَعَلَى غُلَامِهِ بُرْدَةٌ وَمَعَافِرِيَّ)): البردة: شملة مخططة، وقيل: كساء مربع فيه صغر يلبسه الأعراب، والمعافري: بفتح الميم نسبة إلى بلدة في اليمن، تأتي منها الثياب المعافرية، وهذا فيه: أنه ساواه بنفسه، فألبسه مما يلبس.
وقوله رضي الله عنه: ((فَقَالَ لَهُ أَبِي))، يعني: الوليد.
وقوله: ((يَا عَمِّ، إِنِّي أَرَى فِي وَجْهِكَ سَفْعَةً مِنْ غَضَبٍ؟ ))، أي: أرى تغيُّرًا على
(1)
أخرجه البخاري (100)، ومسلم (2673).
وجهك، قال:((قَالَ: أَجَلْ، كَانَ لِي عَلَى فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ الْحَرَامِيِّ مَالٌ، فَأَتَيْتُ أَهْلَهُ)): كلمة: (أَجَلْ) هذه جواب، مثل:(نَعَمْ)، لكنها أقوى منها، وهي للتقريب، و (الحرامي) بالحاء المهملة والراء، نسبة إلى ابن حرام، بطن من الأنصار، وروي بالحاء، والزاي:(الحَزَامِيِّ)، لكن الأرجح:(الحَرَامِيِّ).
وقوله: ((فَسَلَّمْتُ، فَقُلْتُ: ثَمَّ هُوَ؟ )): فيه: مشروعية السلام عند الاستئذان على أهل شخص، و (ثَمَّ) ظرف مكان، و (ثَمَّ هُوَ)، أي: أَثَمَّ هُوَ؟ على حذف حرف الاستفهام، والمعنى: هل هو موجود في البيت؟ قالوا: لا.
وقوله: ((فَخَرَجَ عَلَيَّ ابْنٌ لَهُ جَفْرٌ))، يعني: خرج من البيت ابن صغير له قارب البلوغ، وقيل: ابن خمس سنين، وقيل: أقل من ذلك، فسأله:((أَيْنَ أَبُوكَ؟ قَالَ: سَمِعَ صَوْتَكَ فَدَخَلَ أَرِيكَةَ أُمِّي)): الأريكة يعني: السرير فى الحجلة.
وقوله: ((فَقُلْتُ: اخْرُجْ إِلَيَّ، فَقَدْ عَلِمْتُ أَيْنَ أَنْتَ فَخَرَجَ))، أي: لقد علمت مكانك؛ لأن البيوت لم تكن بعيدة مثلما هو حاصل في البيوت الآن.
وقوله: ((فَقُلْتُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنِ اخْتَبَأْتَ مِنِّي؟ قَالَ: أَنَا وَاللَّهِ أُحَدِّثُكَ، ثُمَّ لَا أَكْذِبُكَ: خَشِيتُ- وَاللَّهِ- أَنْ أُحَدِّثَكَ فَأَكْذِبَكَ، وَأَنْ أَعِدَكَ فَأُخْلِفَكَ، وَكُنْتَ صَاحِبَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكُنْتُ- وَاللَّهِ- مُعْسِرًا))، يعني: أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولك مكانة وقدر، وأنا معسر، وأخشى أن أحدثك فأكذب عليك، أو أعدك فأخلفك، والذي يحملني على ذلك الإعسار؛ لهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ من المغرم، فكان يقول:((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ المَأْثَمِ وَالمَغْرَمِ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنَ المَغْرَمِ، فَقَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ))
(1)
، وكما قيل: الدين همٌّ بالليل، مذلَّةٌ بالنهار.
وقوله: ((قَالَ: قُلْتُ: آللَّهِ؟ قَالَ: اللَّهِ، قُلْتُ: آللَّهِ؟ قَالَ: اللَّهِ، قُلْتُ: آللَّهِ؟ قَالَ: اللَّهِ)): استحلفه ثلاثَ مراتٍ ليتأكد من صدقه؛ ليُسقط عنه الدين.
(1)
أخرجه البخاري (832).
وقوله: ((قُلْتُ: آللَّهِ؟ قَالَ: اللَّهِ)): الأول بهمزة ممدودة على الاستفهام، والثاني بلا مد جواب استفهام، والهاء فيهما مكسورة، والمعنى: بالله هل أنت صادق في قولك: إنك معسر؟
فلما استحلفه وحلف أتى بصحيفته، فمحى عنه الدَّين، ((فَقَالَ: إِنْ وَجَدْتَ قَضَاءً فَاقْضِنِي، وَإِلَّا أَنْتَ فِي حِلٍّ)): قضاء يعني: دَينًا، فهي صفة قامت مقام الموصوف المحذوف، والتقدير: إن وجدتَ دينًا يكون قضاءً فاقضني، وهذا فيه: فضل أبي اليسر رضي الله عنه، ومبادرته ومسارعته إلى الخير.
وفيها: أن الصحابة رضي الله عنهم أفضل الناس، وأنهم أسرع الناس إلى العمل بالأحاديث، والمسابقة إلى الخيرات.
وقوله: ((فَأَشْهَدُ بَصَرُ عَيْنَيَّ هَاتَيْنِ- وَوَضَعَ إِصْبَعَيْهِ عَلَى عَيْنَيْهِ- وَسَمْعُ أُذُنَيَّ هَاتَيْنِ، وَوَعَاهُ قَلْبِي هَذَا)): هذا قول أبي حميد، ((بَصَرُ)): هو بفتح الصاد ورفع الراء، وسَمْعُ: بإسكان الميم ورفع العين، هذه رواية الأكثرين، ورواه جماعة بضم الصاد وفتح الراء (بصُر عيناي هاتان)، وبكسر الميم وفتح العين (سمِعَ أذناي هاتان)، وكلاهما صحيح لكن الأول أولى
(1)
.
والمعنى: أنا متأكد مما أقول، فقد أبصرت عيني النبي صلى الله عليه وسلم حين رأيت بياض إبطيه، وسمعت أذني كلامه. ووعيته بقلبي من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: ((وَأَشَارَ إِلَى مَنَاطِ قَلْبِهِ)): وهو عرق معلَّق بالقلب.
وقوله: ((مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا، أَوْ وَضَعَ عَنْهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ))، يعني: من صبر عليه، ولم يطالبه بالدين، أو وضعه عنه، والمعسر: من لا يقدر على النفقة، أو أداء ما عليه، وهذا فيه: فضل عظيم لمن أنظر معسرًا، أو وضع عنه الدين، وهو على مرتبتين:
الأولى: إنظار المعسر.
(1)
شرح مسلم، للنووي (18/ 135).
الثانية: الوضع عنه بإسقاط بعض الدين.
وإنظار المعسر فريضة، والوضع عنه بإسقاط بعض الدين نافلة، والنافلة هنا أفضل من الفريضة، قال تعالى:{وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} ، يعني: إن كان المدين معسرًا {فَنَظِرَةٌ} : خبر بمعنى الأمر، أي: أنظِره إلى وقت الإيسار، وهذا فرض واجب، {وأن تصدقوا} يعني: بإسقاط بعض الدين فهو {خير لكم} .
وقوله: ((أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ)): المراد ظل العرش، كما تقدم بيانه.
والقاعدة: أن ما أضيف لله عز وجل نوعان:
الأول: معانٍ لا تقوم بنفسها، فهذه صفات لله، مثل: العلم، والقدرة، والسمع، والبصر.
الثاني: أعيان قائمة بنفسها، فهذه إضافة مخلوق إلى خالقه، تفيد التشريف، كإضافة عبد الله، وناقة الله.
وقوله: ((قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ أَنَا: يَا عَمِّ، لَوْ أَنَّكَ أَخَذْتَ بُرْدَةَ غُلَامِكَ وَأَعْطَيْتَهُ مَعَافِرِيَّكَ، وَأَخَذْتَ مَعَافِرِيَّهُ وَأَعْطَيْتَهُ بُرْدَتَكَ، فَكَانَتْ عَلَيْكَ حُلَّةٌ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ)): الحلة مكونة من ثوبين: إزار، ورداء، والمعنى: أن كل واحد منهما عليه حلة مكونة من ثوبين: إزار، ورداء، فأبو اليسر رضي الله عنه أخذ بردة، واتزر بها، والمعافير جعلها على كتفيه، وكذلك فعل مع الغلام الذي معه، فصار كل واحد عليه إزار من نوع، ورداء من نوع آخر، فقال له الوليد: لماذا لا تأخذ البردة التي معه وتجعلها معك، فتكون حلة متساوية لك، وتعطيه المعافري التي معك، وتكون حلة متساوية له، فيتحصل من ذلك: أن يكون مع أحدهما: معافير إزار، ومعافير رداء، والثاني: معه بردة إزار، وبردة رداء، أو العكس، فتكون الحلة متناسبة، فقال له: لا، أنا أريد أن أساويه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:((أَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ)).
وهذا من باب الاستحباب عند أهل العلم، فلا يجب على الإنسان أن يسوي عبده بنفسه في الأكل واللباس، وإنما يطعمه مما يأكل، ويلبسه مما يلبس؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:((لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ، وَلَا يُكَلَّفُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا يُطِيقُ))
(1)
، ولكن لا يجب عليه أن يطعمه مما يأكل من الطعام الفاضل الذي يأكله، أو اللباس الفاضل الذي يلبسه.
وإطعام العبيد على ثلاث أحوال:
الأولى: أن يطعم الرقيق مما يأكل طعامًا فاضلًا، ويلبسه مما يلبس لباسًا فاضلًا، كما فعل أبو اليسر رضي الله عنه، وأبو ذر رضي الله عنه، وهذا هو الأفضل والأكمل والمستحب. قال النووي رحمه الله:((لو قتَّر السيد على نفسه تقتيرًا خارجًا عن عادة أمثاله- إما زهدًا، وإما شُحًّا- لا يحل له التقتير على المملوك وإلزامه وموافقته إلا برضاه))
(2)
.
الثانية: أن يطعمهم ويكسوهم مما يناسب أمثالهم، وهذا هو الواجب.
الثالثة: أن يطعم الرقيق مما تأكل البهائم، ويُكسوهم مما يلبسه الشحاذون، وهذا لا يجوز.
وقوله: ((فَمَسَحَ رَأْسِي))، يعني: أن أبا اليسر رضي الله عنه أجاب الوليد، ومسح برأسه إيناسًا له، وشكر له على ملاحظته، ودعا له بقوله:((اللَّهُمَّ بَارِكْ فِيهِ))، وقال له: إن الذي جعلني ألبس إزارًا ورداءً ملفقًا وغلامي كذلك؛ خشية أن أفضِّل نفسي على غلامي، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((أَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ)).
وقوله: ((وَكَانَ أَنْ أَعْطَيْتُهُ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ حَسَنَاتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ)): خشي أبو اليسر رضي الله عنه إن فضَّل نفسه على غلامه أن يكون قد أخل
(1)
أخرجه مسلم (1662).
(2)
شرح مسلم، للنووي (11/ 133).
بالواجب، مع أن هذا ليس بواجب، لكنه من باب الورع والاحتياط.
[3008]
ثُمَّ مَضَيْنَا حَتَّى أَتَيْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فِي مَسْجِدِهِ وَهُوَ يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُشْتَمِلًا بِهِ، فَتَخَطَّيْتُ الْقَوْمَ، حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ! أَتُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَرِدَاؤُكَ إِلَى جَنْبِكَ؟ قَالَ: فَقَالَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِي هَكَذَا- وَفَرَّقَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَقَوَّسَهَا- أَرَدْتُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيَّ الْأَحْمَقُ مِثْلُكَ، فَيَرَانِي كَيْفَ أَصْنَعُ، فَيَصْنَعُ مِثْلَهُ، أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَسْجِدِنَا هَذَا وَفِي يَدِهِ عُرْجُونُ ابْنِ طَابٍ، فَرَأَى فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ نُخَامَةً، فَحَكَّهَا بِالْعُرْجُونِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا، فَقَالَ:((أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يُعْرِضَ اللَّهُ عَنْهُ؟ ! )) قَالَ: فَخَشَعْنَا، ثُمَّ قَالَ:((أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يُعْرِضَ اللَّهُ عَنْهُ؟ ! )) قَالَ: فَخَشَعْنَا، ثُمَّ قَالَ:((أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يُعْرِضَ اللَّهُ عَنْهُ؟ ! ))، قُلْنَا: لَا أَيُّنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:((فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّي فَإِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى قِبَلَ وَجْهِهِ، فَلَا يَبْصُقَنَّ قِبَلَ وَجْهِهِ، وَلَا عَنْ يَمِينِهِ، وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ تَحْتَ رِجْلِهِ الْيُسْرَى، فَإِنْ عَجِلَتْ بِهِ بَادِرَةٌ، فَلْيَقُلْ بِثَوْبِهِ هَكَذَا))، ثُمَّ طَوَى ثَوْبَهُ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، فَقَالَ:((أَرُونِي عَبِيرًا))، فَقَامَ فَتًى مِنَ الْحَيِّ يَشْتَدُّ إِلَى أَهْلِهِ، فَجَاءَ بِخَلُوقٍ فِي رَاحَتِهِ، فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَهُ عَلَى رَأْسِ الْعُرْجُونِ، ثُمَّ لَطَخَ بِهِ عَلَى أَثَرِ النُّخَامَةِ.
فَقَالَ جَابِرٌ: فَمِنْ هُنَاكَ جَعَلْتُمُ الْخَلُوقَ فِي مَسَاجِدِكُمْ.
قوله: ((حَتَّى أَتَيْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فِي مَسْجِدِهِ وَهُوَ يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُشْتَمِلًا بِهِ))، يعني: ليس عليه إلا قطعة واحدة، والصحابة رضي الله عنهم كانوا يلبسون الأُزُر والأردية، وأحيانًا يلبسون القُمُص، وفيه: دليل على جواز الصلاة في ثوب واحد مع وجود الثياب، لكن الأفضل أن يزيد على ثوب عند الإمكان، وإنما فعل جابر رضي الله عنه هذا للتعليم.
وقوله: ((يَرْحَمُكَ اللَّهُ أَتُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَرِدَاؤُكَ إِلَى جَنْبِكَ؟ ))، أي: أتصلي في قطعة واحدة مع وجود غيرها؟ !
وقوله: ((فَقَالَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِي هَكَذَا- وَفَرَّقَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَقَوَّسَهَا- أَرَدْتُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيَّ الْأَحْمَقُ مِثْلُكَ)): الأحمق هو: الجاهل الذي يعمل ما يضره مع علمه به، وهذا من باب التعزير، والتأديب، أي: كيف تعترض عليَّ يا أحمق، وأنا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا مما يعزَّر ويؤدَّب به المتعلم.
وجابر رضي الله عنه خاطبه بذلك؛ لأنه يعلم أن الوليد لا يتأثر بهذا، والمعلم إذا كان يَعلم أن التلميذ لا يتأثر بمثل هذا جاز له أن يخاطبه بمثله، كما فعل جابر رضي الله عنهما مع الوليد، والصحابة رضي الله عنهم كالآباء للناس، والأصل: أنه لا ينبغي للمعلم أن يقابل المتعلم بمثل هذا، ويقول له: يا أحمق؛ لأن في هذا تنفيرًا له.
وقوله: ((أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَسْجِدِنَا هَذَا، وَفِي يَدِهِ عُرْجُونُ ابْنِ طَابٍ، فَرَأَى فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ نُخَامَةً، فَحَكَّهَا بِالْعُرْجُونِ)): العرجون: هو عرجون النخل الذي يكون فيه التمر، وابْنِ طَابٍ: نوع من تمر المدينة، فلما رآى النبي صلى الله عليه وسلم النخامة في قبلة المسجد حكَّها بالعرجون الذي كان في يده.
وقوله: ((أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يُعْرِضَ اللَّهُ عَنْهُ؟ )): كررها ثلاثًا، يعني: أيكم يحب أن يعامله الله تعالى معاملة المعرِض عنه، فلا يثيبه؟ !
والإعراض من صفات الله عز وجل، وكما في الحديث عند البخاري في قصة الثلاثة نفر الذين أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه:((وَأَمَّا الآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ))
(1)
.
وصفة الإعراض من الصفات المتقابلة، أي: إعراض في مقابل إعراض العبد، مثل: المكر في مقابل الماكرين، والاستهزاء مقابل المستهزئين، وهذه الصفات إنما تكون كمالًا إذا كانت من باب المجازاة، والمقابلة، ولا يوصف بها الله عز وجل استقلالًا، فلا يقال: من صفات الله: المكر، والكيد، والاستهزاء، والإعراض.
(1)
أخرجه البخاري (66)، ومسلم (2176).
وقوله: ((قَالَ: فَخَشَعْنَا)): الخشوع: السكون والتذلل.
وقوله: ((فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّي فَإِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى قِبَلَ وَجْهِهِ)): فيه: إثبات هذه الصفات لله عز وجل، وهي:(تبارك وتعالى)، وتبارك من صفات الله تعالى الخاصة به، قال تعالى:{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، وقال تعالى:{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بروجًا} ، وغيرهما من الآيات، فالله تعالى المبارِك وعبده المبارَك.
تنبيه: لهذا لا يقال: تباركت علينا، فهذا غلط؛ لأن تبارك خاص بالله تعالى، لكن يقال: تحصل البركة، أو أنت مبارك، كما قال الله تعالى على لسان عيسى عليه السلام:{وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ} ، وكما قال أسيد بن الحضير رضي الله عنه وعباد بن بشر رضي الله عنه لعائشة:((مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِى بَكْر؟ ))
(1)
، يعني: من بركتكم التي جعلها الله فيكم.
وقوله: ((أَرُونِي عَبِيرًا))، أي: أمر بالعبير، وهو أخلاط تجمع بالزعفران، وهو نوع من الطيب.
وقوله: ((فَقَامَ فَتًى مِنَ الْحَيِّ يَشْتَدُّ إِلَى أَهْلِهِ، فَجَاءَ بِخَلُوقٍ فِي رَاحَتِهِ، فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَهُ عَلَى رَأْسِ الْعُرْجُونِ، ثُمَّ لَطَخَ بِهِ عَلَى أَثَرِ النُّخَامَةِ)): فيه: مشروعية تطييب المساجد، وتبخيرها، والعناية بها، وفرشها، وتنظيفها، وجعل الخلوق فيها.
وقوله: ((فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّي فَإِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى قِبَلَ وَجْهِهِ، فَلَا يَبْصُقَنَّ قِبَلَ وَجْهِهِ، وَلَا عَنْ يَمِينِهِ، وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ تَحْتَ رِجْلِهِ الْيُسْرَى)): فيه: تحريم بصق المصلي من أمامه، أو عن يمينه، وجوازه عن يساره تحت رجله اليسرى، وهذا في غير المسجد، أما إذا كان في المسجد فإنه يبصق في منديل، أو نحوه.
(1)
أخرجه البخاري (334)، ومسلم (367).
وجاء في الحديث الآخر: ((وَالْمَلَكُ عَنْ يَمِينِهِ، فَلَا يَبْصُقْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا عَنْ يَمِينِهِ، وَلْيَبْصُقْ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى أَوْ عَنْ يَسَارِهِ))
(1)
، وهذا في الصلاة، ولكن هل يجوز ذلك خارج الصلاة، أو لا يجوز؟
قال بعض العلماء: لا يجوز أن يبصق أمامه، أو عن يمينه حتى خارج الصلاة، ولكن يبصق عن يساره، ولكن الحديث مقيد بالصلاة، لكن إذا احتاط ولم يبصق أمامه، ولا عن يمينه حتى خارج الصلاة فهو أولى.
وفيه: إثبات أن الله تعالى قِبلَ المصلي، وأنه في ناحية منه، وهو فوق العرش أمام المصلي؛ لأنه من كان فوقك فهو أمامك.
وفيه: إثبات العلو لله عز وجل، والرد على من أنكره من الحلولية، والجهمية، والمعتزلة، والأشاعرة، وغيرهم.
وقوله: ((فَإِنْ عَجِلَتْ بِهِ بَادِرَةٌ، فَلْيَقُلْ بِثَوْبِهِ هَكَذَا))، أي: تفل في ثوبه، ورد بعضه على بعض.
وقوله: ((فَجَاءَ بِخَلُوقٍ)): هو طيب من أنواع مختلفة.
(1)
أخرجه أحمد (11185)، وأبو داود (480).
[3009]
سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ بَطْنِ بُوَاطٍ، وَهُوَ يَطْلُبُ الْمَجْدِيَّ بْنَ عَمْرٍو الْجُهَنِيَّ، وَكَانَ النَّاضِحُ يَعْقُبُهُ مِنَّا الْخَمْسَةُ وَالسِّتَّةُ وَالسَّبْعَةُ، فَدَارَتْ عُقْبَةُ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى نَاضِحٍ لَهُ، فَأَنَاخَهُ، فَرَكِبَهُ، ثُمَّ بَعَثَهُ، فَتَلَدَّنَ عَلَيْهِ بَعْضَ التَّلَدُّنِ، فَقَالَ لَهُ: شَأْ، لَعَنَكَ اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:((مَنْ هَذَا اللَّاعِنُ بَعِيرَهُ؟ )) قَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:((انْزِلْ عَنْهُ، فَلَا تَصْحَبْنَا بِمَلْعُونٍ، لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَا تُوَافِقُوا مِنَ اللَّهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ، فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ)).
قوله: ((النَّاضِحُ)): هو البعير الذي يُستقَى عليه.
وقوله: ((يَعْقُبُهُ)): العُقبة- بضم العين-: ركوب هذا نوبةً، وهذا نوبةً.
وقوله: ((فَتَلَدَّنَ))، أي: تلكَّأ وتوقَّف.
وقوله: ((شَأْ)): بشين مفتوحة بعدها همزة ساكنة، وهي كلمة زجر للبعير.
وقوله: ((فَلَا تَصْحَبْنَا بِمَلْعُونٍ)): نهاه عن صحبته لهم في تلك الساعة؛ تعزيرًا له وزجرًا له ولغيره، ولم تزل ملكية صاحبه له، بل هو في ملكه، وقد سبقت قصة الجارية التي لعنت ناقتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((خُذُوا مَا عَلَيْهَا، وَدَعُوهَا؛ فَإِنَّهَا مَلعُونَةٌ))
(1)
.
وقوله: ((لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَا تُوَافِقُوا مِنَ اللَّهِ سَاعَةً)): فيه: النهي عن الدعاء على الأنفس والأولاد والأموال، وعلَّل النهيَ بأن الدعاء قد يوافق ساعة إجابة.
(1)
أخرجه مسلم (2595).
[3010]
سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِذَا كَانَتْ عُشَيْشِيَةٌ، وَدَنَوْنَا مَاءً مِنْ مِيَاهِ الْعَرَبِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:((مَنْ رَجُلٌ يَتَقَدَّمُنَا، فَيَمْدُرُ الْحَوْضَ، فَيَشْرَبُ وَيَسْقِينَا))، قَالَ جَابِرٌ: فَقُمْتُ، فَقُلْتُ: هَذَا رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:((أَيُّ رَجُلٍ مَعَ جَابِرٍ؟ ))، فَقَامَ جَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ، فَانْطَلَقْنَا إِلَى الْبِئْرِ، فَنَزَعْنَا فِي الْحَوْضِ سَجْلًا، أَوْ سَجْلَيْنِ، ثُمَّ مَدَرْنَاهُ، ثُمَّ نَزَعْنَا فِيهِ حَتَّى أَفْهَقْنَاهُ، فَكَانَ أَوَّلَ طَالِعٍ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:((أَتَأْذَنَانِ؟ ))، قُلْنَا: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَشْرَعَ نَاقَتَهُ، فَشَرِبَتْ شَنَقَ لَهَا، فَشَجَتْ فَبَالَتْ، ثُمَّ عَدَلَ بِهَا، فَأَنَاخَهَا، ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْحَوْضِ، فَتَوَضَّأَ مِنْهُ، ثُمَّ قُمْتُ، فَتَوَضَّأْتُ مِنْ مُتَوَضَّأِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَهَبَ جَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ يَقْضِي حَاجَتَهُ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيُصَلِّيَ، وَكَانَتْ عَلَيَّ بُرْدَةٌ ذَهَبْتُ أَنْ أُخَالِفَ بَيْنَ طَرَفَيْهَا، فَلَمْ تَبْلُغْ لِي، وَكَانَتْ لَهَا ذَبَاذِبُ، فَنَكَّسْتُهَا، ثُمَّ خَالَفْتُ بَيْنَ طَرَفَيْهَا، ثُمَّ تَوَاقَصْتُ عَلَيْهَا، ثُمَّ جِئْتُ حَتَّى قُمْتُ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم، فَأَخَذَ بِيَدِي، فَأَدَارَنِي حَتَّى أَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ جَاءَ جَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ، فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ جَاءَ فَقَامَ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدَيْنَا جَمِيعًا، فَدَفَعَنَا حَتَّى أَقَامَنَا خَلْفَهُ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْمُقُنِي، وَأَنَا لَا أَشْعُرُ، ثُمَّ فَطِنْتُ بِهِ، فَقَالَ هَكَذَا بِيَدِهِ- يَعْنِي: شُدَّ وَسَطَكَ- فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((يَا جَابِرُ))، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:((إِذَا كَانَ وَاسِعًا، فَخَالِفْ بَيْنَ طَرَفَيْهِ، وَإِذَا كَانَ ضَيِّقًا، فَاشْدُدْهُ عَلَى حَقْوِكَ)).
قوله: ((عُشَيْشِيَةٌ)): أصلها: عُشَيَّة، تصغير عَشِيَّة، فَأُبدلت إحدى الياءين شينًا.
وقوله: ((فَيَمْدُرُ الْحَوْضَ))، أي: يطينه ويصلحه.
وقوله: ((سَجْلًا)): هو الدلو المملوء.
وقوله: ((أَفْهَقْنَاهُ))، أي: ملأناه.
وقوله: ((شَنَقَ لَهَا))، أي: كفها بزمامها.
وقوله: ((فَشَجَتْ فَبَالَتْ))، أي: رفعت رجليها لتبول.
وقوله: ((ثُمَّ عَدَلَ بِهَا، فَأَنَاخَهَا))، أي: مال بها.
وقوله: ((إِلَى الْحَوْضِ، فَتَوَضَّأَ مِنْهُ)): فيه: جواز الوضوء من الماء الذي شربت منه الإبل وغيرها من الحيوانات الطاهرة، وأنه لا كراهة فيه، ولو كان دون القُلَّتين.
وقوله: ((وَكَانَتْ لَهَا ذَبَاذِبُ))، أي: أهداب وأطراف.
وقوله: ((ثُمَّ تَوَاقَصْتُ عَلَيْهَا))، أي: أمسكتُ عليها بعنقي؛ لئلَّا تسقط.
وقوله: ((حَتَّى أَقَامَنَا خَلْفَهُ)): فيه: أن المأموم الواحد يقف عن يمين الإمام، وفيه: أنه إذا وقف عن يساره أداره الإمام عن يمينه، ومن خلفه، وفيه: أنه يبني على صلاته بعد إدراة الإمام له عن يمينه، وفيه: جواز العمل اليسير في الصلاة، وفيه: أن العمل في الصلاة إذا كان لحاجة فلا يُكرَه.
وقوله: ((يَرْمُقُنِي)): فيه: جواز الرمق والنظر المتتابع في الصلاة، وأنه لا كراهة فيه إذا كان لحاجة.
وقوله: ((فَقَالَ هَكَذَا بِيَدِهِ- يَعْنِي: شُدَّ وَسَطَكَ)): فيه: جواز الإشارة في الصلاة، وأنه لا كراهة فيها للحاجة.
وقوله: ((حَقْوِكَ)) - بفتح الحاء-: مقعد الإزار، وفيه: جواز الصلاة في الثوب الواحد إذا كان ساترًا للعورة، وأنه إذا كان ضيقًا اتزر به، وإن كان واسعًا خالف بين طرفيه على عاتقيه.
[3011]
سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ قُوتُ كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا فِي كُلِّ يَوْمٍ تَمْرَةً، فَكَانَ يَمَصُّهَا، ثُمَّ يَصُرُّهَا فِي ثَوْبِهِ، وَكُنَّا نَخْتَبِطُ بِقِسِيِّنَا، وَنَأْكُلُ حَتَّى قَرِحَتْ أَشْدَاقُنَا، فَأُقْسِمُ أُخْطِئَهَا رَجُلٌ مِنَّا يَوْمًا، فَانْطَلَقْنَا بِهِ نَنْعَشُهُ، فَشَهِدْنَا أَنَّهُ لَمْ يُعْطَهَا، فَأُعْطِيَهَا، فَقَامَ فَأَخَذَهَا.
قوله: ((وَكَانَ قُوتُ كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا فِي كُلِّ يَوْمٍ تَمْرَةً)): تمرة واحدة يمصها، ثم يشرب عليها الماء، وفيه: بيان ما أصاب الصحابة رضي الله عنهم من الشدة، لكنهم صبروا وجاهدوا في سبيل الله، ونشروا دينه فأفلحوا.
وقوله: ((فَكَانَ يَمَصُّهَا، ثُمَّ يَصُرُّهَا فِي ثَوْبِهِ)): هذا لتبقى معه أطول وقت ممكن.
[3012]
سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى نَزَلْنَا وَادِيًا أَفْيَحَ، فَذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْضِي حَاجَتَهُ، فَاتَّبَعْتُهُ بِإِدَاوَةٍ مِنْ مَاءٍ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَرَ شَيْئًا يَسْتَتِرُ بِهِ، فَإِذَا شَجَرَتَانِ بِشَاطِئِ الْوَادِي، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى إِحْدَاهُمَا، فَأَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا، فَقَالَ:((انْقَادِي عَلَيَّ بِإِذْنِ اللَّهِ))، فَانْقَادَتْ مَعَهُ كَالْبَعِيرِ الْمَخْشُوشِ الَّذِي يُصَانِعُ قَائِدَهُ، حَتَّى أَتَى الشَّجَرَةَ الْأُخْرَى، فَأَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا، فَقَالَ:((انْقَادِي عَلَيَّ بِإِذْنِ اللَّهِ))، فَانْقَادَتْ مَعَهُ كَذَلِكَ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْمَنْصَفِ مِمَّا بَيْنَهُمَا لَأَمَ بَيْنَهُمَا- يَعْنِي: جَمَعَهُمَا- فَقَالَ: ((الْتَئِمَا عَلَيَّ بِإِذْنِ اللَّهِ))، فَالْتَأَمَتَا، قَالَ جَابِرٌ: فَخَرَجْتُ أُحْضِرُ مَخَافَةَ أَنْ يُحِسَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقُرْبِي فَيَبْتَعِدَ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ: فَيَتَبَعَّدَ، فَجَلَسْتُ أُحَدِّثُ نَفْسِي، فَحَانَتْ مِنِّي لَفْتَةٌ، فَإِذَا أَنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُقْبِلًا وَإِذَا الشَّجَرَتَانِ قَدِ افْتَرَقَتَا، فَقَامَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى سَاقٍ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ وَقْفَةً، فَقَالَ بِرَأْسِهِ هَكَذَا- وَأَشَارَ أَبُو إِسْمَاعِيلَ بِرَأْسِهِ يَمِينًا وَشِمَالًا- ثُمَّ أَقْبَلَ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيَّ قَالَ:((يَا جَابِرُ، هَلْ رَأَيْتَ مَقَامِي؟ ))، قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: ((فَانْطَلِقْ إِلَى الشَّجَرَتَيْنِ، فَاقْطَعْ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا
غُصْنًا، فَأَقْبِلْ بِهِمَا، حَتَّى إِذَا قُمْتَ مَقَامِي، فَأَرْسِلْ غُصْنًا عَنْ يَمِينِكَ وَغُصْنًا عَنْ يَسَارِكَ))، قَالَ جَابِرٌ: فَقُمْتُ، فَأَخَذْتُ حَجَرًا، فَكَسَرْتُهُ، وَحَسَرْتُهُ فَانْذَلَقَ لِي، فَأَتَيْتُ الشَّجَرَتَيْنِ، فَقَطَعْتُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا غُصْنًا، ثُمَّ أَقْبَلْتُ أَجُرُّهُمَا حَتَّى قُمْتُ مَقَامَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلْتُ غُصْنًا عَنْ يَمِينِي وَغُصْنًا عَنْ يَسَارِي، ثُمَّ لَحِقْتُهُ، فَقُلْتُ: قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَعَمَّ ذَاكَ؟ قَالَ:((إِنِّي مَرَرْتُ بِقَبْرَيْنِ يُعَذَّبَانِ، فَأَحْبَبْتُ بِشَفَاعَتِي أَنْ يُرَفَّهَ عَنْهُمَا مَا دَامَ الْغُصْنَانِ رَطْبَيْنِ)).
قوله: ((نَزَلْنَا وَادِيًا أَفْيَحَ))، أي: واسعًا.
وقوله: ((فَإِذَا شَجَرَتَانِ بِشَاطِئِ الْوَادِي))، أي: بجانبيه.
وقوله: ((إِذَا كَانَ بِالْمَنْصَفِ))، أي: نصف المسافة.
وقوله: ((فَخَرَجْتُ أُحْضِرُ))، أي: خرجت أعدو وأسعى سعيًا شديدًا.
وقوله: ((فَحَانَتْ مِنِّي لَفْتَةٌ)): لفتة، أي: نظرة إلى جانب، وقوله:((فَحَانَتْ))، أي: وقعت، ورواه بعضهم:((حَالَتْ))
(1)
، وهي بمعنى: حانت.
وقوله: ((فَإِذَا أَنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُقْبِلًا، وَإِذَا الشَّجَرَتَانِ قَدِ افْتَرَقَتَا، فَقَامَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى سَاقٍ)): فيه: معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، ودليل من دلائل نبوته.
وقوله: ((إِنِّي مَرَرْتُ بِقَبْرَيْنِ يُعَذَّبَانِ، فَأَحْبَبْتُ بِشَفَاعَتِي أَنْ يُرَفَّهَ عَنْهُمَا مَا دَامَ الْغُصْنَانِ رَطْبَيْنِ)): هذه قصة ثانية للنبي صلى الله عليه وسلم في وضع غصنين على قبرين، والقصة الأخرى فيها: أنه جعل جريدتين فغرز في كل قبر واحدة، وقال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما
(2)
.
(1)
إكمال المعلم، للقاضي عياض (8/ 570).
(2)
أخرجه البخاري (2189)، ومسلم (292).
[3013]
قَالَ: فَأَتَيْنَا الْعَسْكَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:((يَا جَابِرُ، نَادِ بِوَضُوءٍ))، فَقُلْتُ: أَلَا وَضُوءَ، أَلَا وَضُوءَ، أَلَا وَضُوءَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا وَجَدْتُ فِي الرَّكْبِ مِنْ قَطْرَةٍ، وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يُبَرِّدُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَاءَ فِي أَشْجَابٍ لَهُ عَلَى حِمَارَةٍ مِنْ جَرِيدٍ، قَالَ: فَقَالَ لِيَ: ((انْطَلِقْ إِلَى فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ الْأَنْصَارِيِّ، فَانْظُرْ هَلْ فِي أَشْجَابِهِ مِنْ شَيْءٍ؟ )) قَالَ: فَانْطَلَقْتُ إِلَيْهِ، فَنَظَرْتُ فِيهَا، فَلَمْ أَجِدْ فِيهَا إِلَّا قَطْرَةً فِي عَزْلَاءِ شَجْبٍ مِنْهَا، لَوْ أَنِّي أُفْرِغُهُ لَشَرِبَهُ يَابِسُهُ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَمْ أَجِدْ فِيهَا إِلَّا قَطْرَةً فِي عَزْلَاءِ شَجْبٍ مِنْهَا، لَوْ أَنِّي أُفْرِغُهُ لَشَرِبَهُ يَابِسُهُ، قَالَ:((اذْهَبْ، فَأْتِنِي بِهِ))، فَأَتَيْتُهُ بِهِ، فَأَخَذَهُ بِيَدِهِ، فَجَعَلَ يَتَكَلَّمُ بِشَيْءٍ لَا أَدْرِي مَا هُوَ، وَيَغْمِزُهُ بِيَدَيْهِ، ثُمَّ أَعْطَانِيهِ، فَقَالَ: يَا جَابِرُ ((نَادِ بِجَفْنَةٍ))، فَقُلْتُ: يَا جَفْنَةَ الرَّكْبِ، فَأُتِيتُ بِهَا تُحْمَلُ، فَوَضَعْتُهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ فِي الْجَفْنَةِ هَكَذَا، فَبَسَطَهَا، وَفَرَّقَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، ثُمَّ وَضَعَهَا فِي قَعْرِ الْجَفْنَةِ، وَقَالَ:((خُذْ يَا جَابِرُ، فَصُبَّ عَلَيَّ، وَقُلْ: بِاسْمِ اللَّهِ))، فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ، وَقُلْتُ: بِاسْمِ اللَّهِ، فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَفُورُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ فَارَتِ الْجَفْنَةُ، وَدَارَتْ حَتَّى امْتَلَأَتْ،
فَقَالَ: ((يَا جَابِرُ، نَادِ مَنْ كَانَ لَهُ حَاجَةٌ بِمَاءٍ)) قَالَ: فَأَتَى النَّاسُ، فَاسْتَقَوْا حَتَّى رَوُوا، قَالَ: فَقُلْتُ: هَلْ بَقِيَ أَحَدٌ لَهُ حَاجَةٌ؟ فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ مِنَ الْجَفْنَةِ وَهِيَ مَلْأَى.
قوله: ((أَشْجَابٍ)): جمع شجب، وهو السقاء اليابس.
وقوله: ((عَلَى حِمَارَةٍ مِنْ جَرِيدٍ))، أي: أعواد تُعلَّق عليها أسقية الماء.
وقوله: ((فَلَمْ أَجِدْ فِيهَا إِلَّا قَطْرَةً))، أي: يسيرًا.
وقوله: ((عَزْلَاءِ)): فم القربة.
وقوله: ((لَشَرِبَهُ يَابِسُهُ)): معناه: أنه قليل جدًّا، فلقلته مع شدة يبس باقي الشجب- وهو السقاء- لو أفرغته لأشنقه اليابس منه، ولم ينزل منه شيء
(1)
.
وقوله: ((وَيَغْمِزُهُ بِيَدَيْهِ))، أي: يعصره.
وقوله: ((يَا جَفْنَةَ الرَّكْبِ))، أي: يا صاحب جفنة الركب، فحذف المضاف.
وقوله: ((فَأَتَى النَّاسُ، فَاسْتَقَوْا حَتَّى رَوُوا)): وهذه معجزة أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم في تكثير الماء، وقد حصل هذا للنبي صلى الله عليه وسلم مراتٍ.
[3014]
وَشَكَا النَّاسُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْجُوعَ، فَقَالَ:((عَسَى اللَّهُ أَنْ يُطْعِمَكُمْ))، فَأَتَيْنَا سِيفَ الْبَحْرِ، فَزَخَرَ الْبَحْرُ زَخْرَةً، فَأَلْقَى دَابَّةً فَأَوْرَيْنَا عَلَى شِقِّهَا النَّارَ، فَاطَّبَخْنَا، وَاشْتَوَيْنَا، وَأَكَلْنَا حَتَّى شَبِعْنَا، قَالَ جَابِرٌ: فَدَخَلْتُ أَنَا وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ- حَتَّى عَدَّ خَمْسَةً- فِي حِجَاجِ عَيْنِهَا مَا يَرَانَا أَحَدٌ حَتَّى خَرَجْنَا، فَأَخَذْنَا ضِلَعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ، فَقَوَّسْنَاهُ ثُمَّ دَعَوْنَا بِأَعْظَمِ رَجُلٍ فِي الرَّكْبِ، وَأَعْظَمِ جَمَلٍ فِي الرَّكْبِ، وَأَعْظَمِ كِفْلٍ فِي الرَّكْبِ فَدَخَلَ تَحْتَهُ مَا يُطَأْطِئُ رَأْسَهُ.
قوله: ((سِيفَ الْبَحْرِ))، أي: ساحله.
وقوله: ((فَزَخَرَ الْبَحْرُ زَخْرَةً))، أي: علا موجه.
وقوله: ((فَأَوْرَيْنَا))، أي: أوقدنا.
وقوله: ((حِجَاجِ عَيْنِهَا)): هو عظمها المستدير بها.
وقوله: ((وَأَعْظَمِ كِفْلٍ فِي الرَّكْبِ)): الكساء الذي يحويه راكب البعير على سنامه؛ لئلَّا يسقط.
(1)
شرح مسلم، للنووي (18/ 146).
وفيه: أن هذه القصة غير القصة التي حصلت لأبي عبيدة رضي الله عنه، فإن هذه القصة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلك سرية ليس فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكل منها الصحابة شهرًا، أو ثمانية عشر يومًا حتى سمنوا، حتى ورد في الحديث:((فَلَقَدْ أَخَذَ مِنَّا أَبُو عُبَيْدَةَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَأَقْعَدَهُمْ فِي وَقْبِ عَيْنِهِ))
(1)
.
(1)
أخرجه مسلم (1935).