الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ تَحْرِيشِ الشَّيْطَانِ، وَبَعْثِهِ سَرَايَاهُ لِفِتْنَةِ النَّاسِ
،
وَأَنَّ مَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ قَرِينًا
[2813]
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وقَالَ عُثْمَانُ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ)).
وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ. ح وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، كِلَاهُمَا عَنِ الْأَعْمَشِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ.
قوله صلى الله عليه وسلم: ((وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ))، أي: بالفتن والخصومات والحروب.
وقد استدل بعض الناس بهذا الحديث على أن الشرك لا يقع في هذه الأمة، وأنها معصومة منه، فقالوا: إن ما يقع من عُبَّاد القبور من الطواف حولها، والنذر والذبح لغير الله، وسؤال الموتى تفريجَ الكربات وغيره ليس من الشرك.
وهذا الذي ذكروه من أبطل الباطل؛ فإن الشرك واقع في هذه الأمة، كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث، منها: قوله صلى الله عليه وسلم: ((وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَلْحَقَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي بِالْمُشْرِكِينَ، حَتَّى تَعْبُدَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي الْأَوْثَانَ))
(1)
، وقال عليه الصلاة والسلام:((لَا يَذْهَبُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ حَتَّى تُعْبَدَ اللَّاتُ وَالْعُزَّى))
(2)
، وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا-:((لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَضْطَرِبَ أَلَيَاتُ نِسَاءِ دَوْسٍ حَوْلَ ذِي الْخَلَصَةِ)): وَكَانَتْ صَنَمًا
(1)
أخرجه أحمد (22395).
(2)
أخرجه مسلم (2907).
تَعْبُدُهَا دَوْسٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِتَبَالَةَ
(1)
، فهذه الأحاديث وغيرها صريحة في أن الشرك واقع في هذه الأمة.
وأما حديث الباب فلا حجة لهم فيه على أن الشرك غير واقع في هذه الأمة؛ لأن العلماء رحمهم الله قد أجابوا عنه بثلاثة أجوبة:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: إن الله أيأس الشيطانَ، وإنما أخبر صلى الله عليه وسلم أن الشيطان يئس أن يعبده المصلون لَمَّا رأى انتشار الإسلام وظهوره، ودخول الناس في دين الله أفواجًا، فهو صلى الله عليه وسلم ليس معصومًا في رجائه؛ فقد وقع خلاف ظنه عليه السلام.
الثاني: أن المراد بـ ((الْمُصَلُّونَ)): في قوله صلى الله عليه وسلم: ((قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ)): هم الصحابة رضي الله عنهم، فتكون ((أل)) في ((المصلون)) للعهد الذهني، أي: الصحابة المعهودون في زمن الوحي، وهم الذين رسخ الإيمان في قلوبهم.
الثالث: أن المعنى: أن الشيطان يئس أن تُطْبِقَ الأمة على الشرك وتجتمع عليه، وهذا صحيح، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك في الحديث الصحيح بقوله:((لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ لَا يُبَالُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ، أَوْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ عز وجل)
(2)
.
وهذه الأجوبة كلها صحيح، إلا أن الجواب الأول هو أحسنها.
(1)
أخرجه البخاري (7116)، ومسلم (2906).
(2)
أخرجه أحمد (16881).
[2813]
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وقَالَ عُثْمَانُ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((إِنَّ عَرْشَ إِبْلِيسَ عَلَى الْبَحْرِ، فَيَبْعَثُ سَرَايَاهُ، فَيَفْتِنُونَ النَّاسَ، فَأَعْظَمُهُمْ عِنْدَهُ أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً)).
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ- وَاللَّفْظُ لِأَبِي كُرَيْبٍ- قَالَا: أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ، فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ، فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا قَالَ: ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ، فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ، وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ))، قَالَ الْأَعْمَشُ: أُرَاهُ قَالَ: ((فَيَلْتَزِمُهُ)).
حَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ، حَدَّثَنَا مَعْقِلٌ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:((يَبْعَثُ الشَّيْطَانُ سَرَايَاهُ، فَيَفْتِنُونَ النَّاسَ، فَأَعْظَمُهُمْ عِنْدَهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً)).
في هذا الحديث: أن الشيطان يَبعث سراياه، فيقول أحدهم: فعلت كذا وكذا، فيخبره إبليس أنه لم يصنع شيئًا، ثم يأتي أحدهم فيقول: فرَّقت بينه وبين امرأته، يعني: طلَّقها، فيحمد إبليسُ صنيعَه ويلتزمه، ويقول له:((نِعْمَ أَنْتَ)): رضًا بما صنع؛ لِمَا في ذلك من انتشار الفواحش والزنا.
ومعلوم أن الشرك أعظم من هذا كله، إلا أن الشيطان علم أنه لا يطاع في الشرك إذا أمر به، فإذا كان قد علم أنه لا يطاع في الشرك، فإنه يرضى بأن يطاع في هذا ونحوه.
وفيه: أن إبليس اللعين يضع عرشه على الماء تشبُّها بالرب عز وجل، وأنه يرسل جنوده ليفتنوا الناس عن دينهم.
[2814]
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وقَالَ عُثْمَانُ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ)) قَالُوا: وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ ! قَالَ: ((وَإِيَّايَ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ، فَأَسْلَمَ، فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ)).
حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ- يَعْنِيَانِ: ابْنَ مَهْدِيٍّ- عَنْ سُفْيَانَ. ح وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ رُزَيْقٍ، كِلَاهُمَا عَنْ مَنْصُورٍ، بِإِسْنَادِ جَرِيرٍ مِثْلَ حَدِيثِهِ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ سُفْيَانَ:((وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ، وَقَرِينُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ)).
[2815]
حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو صَخْرٍ عَنِ ابْنِ قُسَيْطٍ حَدَّثَهُ أَنَّ عُرْوَةَ حَدَّثَهُ: أَنَّ عَائِشَةَ- زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا لَيْلًا، قَالَتْ: فَغِرْتُ عَلَيْهِ، فَجَاءَ فَرَأَى مَا أَصْنَعُ، فَقَالَ:((مَا لَكِ- يَا عَائِشَةُ- أَغِرْتِ؟ ! ))، فَقُلْتُ: وَمَا لِي لَا يَغَارُ مِثْلِي عَلَى مِثْلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:((أَقَدْ جَاءَكِ شَيْطَانُكِ؟ )) قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَ مَعِيَ شَيْطَانٌ؟ قَالَ:((نَعَمْ))، قُلْتُ: وَمَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ؟ قَالَ: ((نَعَمْ))، قُلْتُ: وَمَعَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ ! قَالَ: ((نَعَمْ، وَلَكِنْ رَبِّي أَعَانَنِي عَلَيْهِ حَتَّى أَسْلَمَ)).
في هذا الحديث: حسنُ أدب عائشة رضي الله عنها؛ فهي لم تقل للنبي صلى الله عليه وسلم من أول الأمر: أمعك شيطان؟ وإنما تدرَّجت معه في الحديث، فقالت أولًا:((أَوَ مَعِيَ شَيْطَانٌ؟ )) يا رسول الله؟ ثم قالت ثانيًا: ((وَمَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ؟ ))، ثم قالت في المرة الثالثة:((وَمَعَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ ! ))، وهذا من حسن أدبها رضي الله عنها.
وفيه: دليل على أن كل إنسان معه قرين من الجن، ومعه قرين من
الملائكة، وفي الحديث:((إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً بِابْنِ آدَمَ، وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً))
(1)
، فلمة الشيطان: إيعاز بالشر، وتسهيل له، ولمة الملائكة: إيعاز بالخير، وتسهيل له.
وفيه: دليل على أنه ما من أحد إلا ومعه قرين، حتى النبي صلى الله عليه وسلم؛ بدليل قوله عليه السلام:((وَلَكِنْ رَبِّي أَعَانَنِي عَلَيْهِ حَتَّى أَسْلَمَ)).
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((فَأَسْلَمَ)): فيه روايتان، رواية بضم الميم:((فَأَسْلَمُ))، والثانية:((فَأَسْلَمَ)): بفتحها.
فأما رواية الضم: ((فَأَسْلَمُ)) فهي على تقدير مبتدأ محذوف، أي: فأنا أَسْلَمُ من شره وفتنته، فلا يأمرني إلا بخير.
وأما رواية الفتح ((فَأَسْلَمَ)) فلها وجهان:
الأول: أنها بمعنى: صار مسلمًا ودخل في الإسلام، وهذا هو ظاهر الحديث.
الثاني: أنها بمعنى: استسلم وانقاد، وإن كان كافرًا.
(1)
أخرجه الترمذي (2988).