الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابٌ فِي سِعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهَا سَبَقَتْ غَضَبَهُ
[2751]
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ- يَعْنِي: الْحِزَامِيَّ- عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ- فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ-: إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي)).
[خ: 3194]
حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:((قَالَ اللَّهُ عز وجل: سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي)).
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو ضَمْرَةَ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ مِينَاءَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ عَلَى نَفْسِهِ- فَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ-: إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي)).
في هذا الحديث: إثبات غضب الله عز وجل، كما يليق بجلاله وكماله.
وفيه: إثبات الرحمة وإثبات النفس لله عز وجل، كما يليق بجلاله وكماله.
وفيه: أن هذا الكتاب- وهو اللوح المحفوظ- مستثنى من كون العرش سقف المخلوقات، فالعرش سقف المخلوقات، لكن الكتاب فوقه.
وفيه: إثبات الكتابة لله عز وجل، ، كما يليق بجلاله وكماله، وهو من الصفات الفعلية.
وقوله: ((إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي))، و ((إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي)): لهما معنيان متقاربان.
وفيه: أن رحمة الله تغلب غضبه، ففيه الرجاء، والمرء يرجو ربه ويحسن الظن به عز وجل، ولكن الرجاء لا بد أن يكون معه العمل، قال الله تعالى:{فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملًا صالحًا} ، وقال الله تعالى: {إن
الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله}، أما إذا كان الرجاء بدون عمل فهذا يسمى غرورًا وتمنيًا، وليس رجاءً حقيقيًّا.
وفيه: جواز قول المسلم: يا ربِّ أسالك برحمتك التي سبقت غضبك، وهذا توسل إلى الله تبارك وتعالى بصفاته العلا.
[2752]
حَدَّثَنَا حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ، وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ تَتَرَاحَمُ الْخَلَائِقُ حَتَّى تَرْفَعَ الدَّابَّةُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا؛ خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ)).
[خ: 6000]
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ- يَعْنُونُ: ابْنُ جَعْفَرٍ- عَنِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((خَلَقَ اللَّهُ مِائَةَ رَحْمَةٍ، فَوَضَعَ وَاحِدَةً بَيْنَ خَلْقِهِ، وَخَبَأَ عِنْدَهُ مِائَةً إِلَّا وَاحِدَةً)).
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:((إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ، أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ، فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ، وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ عَلَى وَلَدِهَا، وَأَخَّرَ اللَّهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).
[2753]
حَدَّثَنِي الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ، فَمِنْهَا رَحْمَةٌ بِهَا يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ بَيْنَهُمْ، وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ)).
وَحَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ عَنْ أَبِيهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ.
حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِائَةَ رَحْمَةٍ، كُلُّ رَحْمَةٍ طِبَاقَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَجَعَلَ مِنْهَا فِي الْأَرْضِ رَحْمَةً، فَبِهَا تَعْطِفُ الْوَالِدَةُ عَلَى وَلَدِهَا، وَالْوَحْشُ وَالطَّيْرُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَكْمَلَهَا بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ)).
في هذه الأحاديث: أن الرحمة من فضل الله تعالى وإحسانه، وأنها مخلوقة، وهي غير الرحمة التي هي صفة الله، فالرحمة رحمتان: الرحمة التي هي صفة لله تعالى، وهي وصف قائم به، والرحمة المخلوقة، كما في هذا الحديث، فهو صريح بأنها مخلوقة.
ولا شك أن صفات الله - سبحانه - تتفاضل، والصفة نفسها تتفاضل درجاتها، فصفة الكلام تتفاضل، فكلام الله بعضه أفضل من بعض فسورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن، والفاتحة أفضل سورة في القرآن، وآية الكرسي أعظم آية في القرآن.
وكذلك الصفات تتفاضل، كما في قوله:((إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي)).
[2754]
حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ التَّمِيمِيُّ- وَاللَّفْظُ لِحَسَنٍ- حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ، حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِسَبْيٍ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ تَبْتَغِي إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ، فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:((أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟ ! ))، قُلْنَا: لَا وَاللَّهِ، وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:((لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا)).
[خ: 5999]
[2755]
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ جَمِيعًا عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ ابْنُ أَيُّوبَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، أَخْبَرَنِي الْعَلَاءُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:((لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ مَا طَمِعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنَطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ)).
في هذا الحديث: إرشاد المؤمن أن يعبد ربه بالخوف والرجاء، فلا
يسترسل في المعاصي، وعليه أن يخاف من ذنوبه، ولكن لا ييأس، ولا يتشاءم، ولا يقنط من رحمة الله، ولا يسيء الظن بالله.
[2756]
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مَرْزُوقِ بْنِ بِنْتِ مَهْدِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:((قَالَ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ حَسَنَةً قَطُّ لِأَهْلِهِ: إِذَا مَاتَ فَحَرِّقُوهُ، ثُمَّ اذْرُوا نِصْفَهُ فِي الْبَرِّ، وَنِصْفَهُ فِي الْبَحْرِ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَيُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، فَلَمَّا مَاتَ الرَّجُلُ فَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ، فَأَمَرَ اللَّهُ الْبَرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، وَأَمَرَ الْبَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ ! قَالَ: مِنْ خَشْيَتِكَ يَا رَبِّ- وَأَنْتَ أَعْلَمُ- فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ)).
[خ: 7506]
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حميد، قَالَ عَبد: أَخْبَرَنَا، وقَالَ ابْنُ رَافِعٍ- وَاللَّفْظُ لَهُ- حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ قَالَ: قَالَ لِي الزُّهْرِيُّ: أَلَا أُحَدِّثُكَ بِحَدِيثَيْنِ عَجِيبَيْنِ؟ ! قَالَ الزُّهْرِيُّ: أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((أَسْرَفَ رَجُلٌ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْصَى بَنِيهِ، فَقَالَ: إِذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي، ثُمَّ اسْحَقُونِي، ثُمَّ اذْرُونِي فِي الرِّيحِ فِي الْبَحْرِ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي لَيُعَذِّبُنِي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ بِهِ أَحَدًا قَالَ: فَفَعَلُوا ذَلِكَ بِهِ، فَقَالَ لِلْأَرْضِ: أَدِّي مَا أَخَذْتِ، فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ، فَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ ! فَقَالَ: خَشْيَتُكَ يَا رَبِّ- أَوَ قَالَ: مَخَافَتُكَ- فَغَفَرَ لَهُ بِذَلِكَ)).
في هذا الحديث: أن هذا الرجل كان فيمن سبقنا مسرفًا على نفسه، وجاء في بعض الروايات: أنه كان ((نبَّاشًا))
(1)
ينبش القبور، فجمع أهله لما حضرته الوفاة، فقال: أيُّ أبٍ كنت لكم؟ فأثنوا عليه خيرًا، فأخذ عليهم
(1)
أخرجه البخاري (3452).
العهد والميثاق أن ينفذوا وصيته، ووصيته أنه قال: إذا أنا مت فأحرقوني بالنار، فإذا أكلت النار لحمي وخلصت إلى عظمي، فاسحقوا العظم، أي: اطحنوه ثم ذروه فإذا صرتُ رمادًا ((ذَرُّونِي فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ))
(1)
، وفي لفظ:((فَذَرُّونِي فِي اليَمِّ))
(2)
، أي: في البحر، وفي لفظ:((ثُمَّ اذْرُوا نِصْفِي فِي الْبَحْرِ، وَنِصْفِي فِي الْبَرِّ))
(3)
، ففعلوا به ذلك، فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر البر فجمع ما فيه، فقال الله له: قم، فإذا هو إنسان قائم، فقال الله له: ما حملك على ذلك؟ ! قال: يارب خشيتك، فغفر الله له.
وفيه: أنه اختلف العلماء في هذا الرجل: فمنهم من قال: إن هذا كان فيمن سبقنا، فهذا منكِرٌ للبعث وشاكٌّ في قدرة الله، وهذا كُفر، ولعله كان فيمن سبقنا أنه يُغفر للمشرك، لكن هذا بعيد.
وبعضهم أوَّل قوله: ((لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْه)): بمعنى: ضيَّق كقوله تعالى: {ومن قدر عليه رزقه} ، وأجيب بأجوبة.
والصواب: الذي عليه المحققون كشيخ الإسلام ابن تيمية
(4)
وغيره: أن هذا الرجل لم يكفر؛ لأنه أنكر أمرًا دقيقًا خفيًّا من دقائق الصفات، والذي حمله على ذلك هو الجهل، وليس عنده تكذيب، أو عناد، فلو كان عالمًا أو معاندًا أو مكذبًا لكان كافرًا، فهو لم ينكر البعث، ولكنه ظن أنه لو وصل إلى هذه الحالة وأُحرق وسُحق وذُرِّي في البر والبحر أنه يفوت على الله، ولا يدخل تحت القدرة، ولو ترك لبعثه الله، وهو لم ينكر قدرة الله، ولكنه أنكر كمال تفاصيل القدرة، فغفر الله له، وهو داخل في قول الله تعالى:{إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} ؛ ولهذا
(1)
أخرجه البخاري (3478).
(2)
أخرجه البخاري (3479).
(3)
أخرجه أحمد (11096).
(4)
مجموع الفتاوى، لابن تيمية (11/ 408).
غفر الله له، ولو كان مشركًا لما غفر الله له؛ لأنه سبحانه وتعالى حرم الجنة على المشركِ، قال الله تعالى:{إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار} .
أما الذين يعبدون الأوثان ويطوفون بالقبور ويدعونها من دون الله وهم يعيشون بين المسلمين فلا يُعذَرون؛ لأن هذا هو الأمر الذي بعث الله به رسوله، قال الله تعالى:{وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا} وقد بَعث الرسولَ، وقال:{وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ} ، وهذا أمر عظيم يبدئ القرآن فيه ويعيد، وليس هذا الشرك من الأمور الخفية.
[2619]
قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَحَدَّثَنِي حُمَيْدٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا، فَلَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا، وَلَا هِيَ أَرْسَلَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ حَتَّى مَاتَتْ هَزْلًا)).
قَالَ الزُّهْرِيُّ: ذَلِكَ لِئَلَّا يَتَّكِلَ رَجُلٌ، وَلَا يَيْأَسَ رَجُلٌ.
[2756]
حَدَّثَنِي أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنِي الزُّبَيْدِيُّ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((أَسْرَفَ عَبْدٌ عَلَى نَفْسِهِ))، بِنَحْوِ حَدِيثِ مَعْمَرٍ إِلَى قَوْلِهِ:((فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ))، وَلَمْ يَذْكُرْ حَدِيثَ الْمَرْأَةِ فِي قِصَّةِ الْهِرَّةِ، وَفِي حَدِيثِ الزُّبَيْدِيِّ قَالَ:((فَقَالَ اللَّهُ عز وجل لِكُلِّ شَيْءٍ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا: أَدِّ مَا أَخَذْتَ مِنْهُ)).
هذان الحديثان اللذان حدثهما الزهري عجيبان: الأول هذا الرجل الذي غفر الله له فيه: سعة رحمة الله، وفيه: الرجاء، والحديث الثاني حديث الهرة، فيه: الخوف؛ فالحديثان فيهما الجمع بين الخوف والرجاء، فإذا ضممتَ حديث هذا الرجل الذي غفر له، وحديث هذه المرأة التي عُذبت بالهرة أفادا الجمع بين الخوف والرجاء، وهو ما يجب أن يكون عليه قلب المسلم.
وقول الزهري: ((لِئَلَّا يَتَّكِلَ رَجُلٌ، وَلَا يَيْأَسَ رَجُلٌ)): معناه: لئلا يتكل أحد على سعة رحمة الله، ولا يعمل، ولا ييأس أحد بسبب إسرافه على نفسه بالمعصية، فحديث تعذيب الهرة يفيد الخوف، وحديث الرجل الذي غفر له يفيد الرجاء.
[2757]
حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ، سَمِعَ عُقْبَةَ بْنَ عَبْدِ الْغَافِرِ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: ((أَنَّ رَجُلًا فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَاشَهُ اللَّهُ مَالًا وَوَلَدًا، فَقَالَ لِوَلَدِهِ: لَتَفْعَلُنَّ مَا آمُرُكُمْ بِهِ، أَوْ لَأُوَلِّيَنَّ مِيرَاثِي غَيْرَكُمْ، إِذَا أَنَا مُتُّ، فَأَحْرِقُونِي- وَأَكْثَرُ عِلْمِي أَنَّهُ قَالَ: ثُمَّ اسْحَقُونِي وَاذْرُونِي فِي الرِّيحِ- فَإِنِّي لَمْ أَبْتَهِرْ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرًا، وَإِنَّ اللَّهَ يَقْدِرُ عَلَيَّ أَنْ يُعَذِّبَنِي قَالَ: فَأَخَذَ مِنْهُمْ مِيثَاقًا، فَفَعَلُوا ذَلِكَ بِهِ وَرَبِّي، فَقَالَ اللَّهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ؟ ! فَقَالَ: مَخَافَتُكَ قَالَ: فَمَا تَلَافَاهُ غَيْرُهَا)).
وَحَدَّثَنَاهُ يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: قَالَ لِي أَبِي: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ. ح وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. ح وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ قَتَادَةَ، ذَكَرُوا جَمِيعًا بِإِسْنَادِ شُعْبَةَ نَحْوَ حَدِيثِهِ، وَفِي حَدِيثِ شَيْبَانَ، وَأَبِي عَوَانَةَ: أَنَّ رَجُلًا مِنَ النَّاسِ رَغَسَهُ اللَّهُ مَالًا وَوَلَدًا، وَفِي حَدِيثِ التَّيْمِيِّ: فَإِنَّهُ لَمْ يَبْتَئِرْ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرًا قَالَ: فَسَّرَهَا قَتَادَةُ: لَمْ يَدَّخِرْ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرًا، وَفِي حَدِيثِ شَيْبَانَ: فَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا ابْتَأَرَ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرًا، وَفِي حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ: مَا امْتَأَرَ- بِالْمِيمِ.
قوله: ((فَإِنِّي لَمْ أَبْتَهِرْ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرًا)): أي: لم أدِّخر، وهذا في ظنه؛ بسبب الخوف الذي استولى عليه.