الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ حَدِيثِ تَوْبَةِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ
[2769]
حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ- مَوْلَى بَنِي أُمَيَّةَ- أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: ثُمَّ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَزْوَةَ تَبُوكَ وَهُوَ يُرِيدُ الرُّومَ وَنَصَارَى الْعَرَبِ بِالشَّامِ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ- كَانَ قَائِدَ كَعْبٍ مِنْ بَنِيهِ حِينَ عَمِيَ- قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ حَدِيثَهُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا قَطُّ، إِلَّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، غَيْرَ أَنِّي قَدْ تَخَلَّفْتُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَلَمْ يُعَاتِبْ أَحَدًا تَخَلَّفَ عَنْهُ، إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمُونَ يُرِيدُونَ عِيرَ قُرَيْشٍ، حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ، وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ، وَإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ أَذْكَرَ فِي النَّاسِ مِنْهَا، وَكَانَ مِنْ خَبَرِي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ: أَنِّي لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى، وَلَا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ، وَاللَّهِ مَا جَمَعْتُ قَبْلَهَا رَاحِلَتَيْنِ قَطُّ حَتَّى جَمَعْتُهُمَا فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ، فَغَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا وَاسْتَقْبَلَ عَدُوًّا كَثِيرًا، فَجَلَا لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ؛ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ، فَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِمُ الَّذِي يُرِيدُ، وَالْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَثِيرٌ، وَلَا يَجْمَعُهُمْ كِتَابُ حَافِظٍ- يُرِيدُ بِذَلِكَ: الدِّيوَانَ- قَالَ كَعْبٌ: فَقَلَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَتَغَيَّبَ يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ سَيَخْفَى لَهُ مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ عز وجل، وَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تِلْكَ الْغَزْوَةَ حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ وَالظِّلَالُ، فَأَنَا إِلَيْهَا أَصْعَرُ، فَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ، وَطَفِقْتُ أَغْدُو لِكَيْ أَتَجَهَّزَ مَعَهُمْ، فَأَرْجِعُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، وَأَقُولُ فِي نَفْسِي: أَنَا قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ إِذَا أَرَدْتُ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمَادَى بِي حَتَّى اسْتَمَرَّ بِالنَّاسِ الْجِدُّ، فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَادِيًا وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ، وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جَهَازِي شَيْئًا، ثُمَّ غَدَوْتُ، فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمَادَى بِي حَتَّى أَسْرَعُوا وَتَفَارَطَ الْغَزْوُ، فَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ، فَيَا لَيْتَنِي فَعَلْتُ، ثُمَّ لَمْ يُقَدَّرْ ذَلِكَ لِي، فَطَفِقْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَحْزُنُنِي أَنِّي لَا أَرَى لِي أُسْوَةً إِلَّا رَجُلًا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ فِي النِّفَاقِ، أَوْ رَجُلًا مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ، وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ، فَقَالَ
وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْقَوْمِ بِتَبُوكَ: ((مَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ؟ ))، قَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَبَسَهُ بُرْدَاهُ، وَالنَّظَرُ فِي عِطْفَيْهِ، فَقَالَ لَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: بِئْسَ مَا قُلْتَ! وَاللَّهِ- يَا رَسُولَ اللَّهِ- مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبَيْنَمَا هُوَ عَلَى ذَلِكَ رَأَى رَجُلًا مُبَيِّضًا يَزُولُ بِهِ السَّرَابُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:((كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ))، فَإِذَا هُوَ أَبُو خَيْثَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ، وَهُوَ الَّذِي تَصَدَّقَ بِصَاعِ التَّمْرِ حِينَ لَمَزَهُ الْمُنَافِقُونَ، فَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ تَوَجَّهَ قَافِلًا مِنْ تَبُوكَ حَضَرَنِي بَثِّي، فَطَفِقْتُ أَتَذَكَّرُ الْكَذِبَ، وَأَقُولُ: بِمَ أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ غَدًا، وَأَسْتَعِينُ عَلَى ذَلِكَ كُلَّ ذِي رَأْيٍ مِنْ أَهْلِي، فَلَمَّا قِيلَ لِي: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَظَلَّ قَادِمًا زَاحَ عَنِّي الْبَاطِلُ، حَتَّى عَرَفْتُ أَنِّي لَنْ أَنْجُوَ مِنْهُ بِشَيْءٍ أَبَدًا، فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ، وَصَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَادِمًا، وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ، فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمُخَلَّفُونَ، فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ، وَيَحْلِفُونَ لَهُ، وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا، فَقَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَانِيَتَهُمْ، وَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ حَتَّى جِئْتُ، فَلَمَّا سَلَّمْتُ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ
الْمُغْضَبِ، ثُمَّ قَالَ:((تَعَالَ، فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ))، فَقَالَ لِي:((مَا خَلَّفَكَ، أَلَمْ تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ؟ ! ))، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي- وَاللَّهِ- لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ أَنِّي سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ، وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلًا، وَلَكِنِّي- وَاللَّهِ- لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ- تَرْضَى بِهِ عَنِّي- لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ، وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ- تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ- إِنِّي لَأَرْجُو فِيهِ عُقْبَى اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا كَانَ لِي عُذْرٌ، وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى، وَلَا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:((أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ، فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ))، فَقُمْتُ وَثَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ، فَاتَّبَعُونِي، فَقَالُوا لِي: وَاللَّهِ مَا عَلِمْنَاكَ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْلَ هَذَا، لَقَدْ عَجَزْتَ فِي أَنْ لَا تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا اعْتَذَرَ بِهِ إِلَيْهِ الْمُخَلَّفُونَ، فَقَدْ كَانَ كَافِيَكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَكَ قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا زَالُوا يُؤَنِّبُونَنِي حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأُكَذِّبَ نَفْسِي قَالَ: ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ: هَلْ لَقِيَ هَذَا مَعِي مِنْ أَحَدٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ، لَقِيَهُ مَعَكَ رَجُلَانِ، قَالَا مِثْلَ مَا قُلْتَ، فَقِيلَ لَهُمَا مِثْلَ مَا قِيلَ لَكَ قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هُمَا؟ قَالُوا: مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعَةَ الْعَامِرِيُّ، وَهِلَالُ بْنُ
أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ قَالَ: فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ، قَدْ شَهِدَا بَدْرًا فِيهِمَا أُسْوَةٌ قَالَ: فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي قَالَ: وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلَامِنَا- أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ- مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ قَالَ: فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ، وَقَالَ: تَغَيَّرُوا لَنَا حَتَّى تَنَكَّرَتْ لِي فِي نَفْسِيَ الْأَرْضُ، فَمَا هِيَ بِالْأَرْضِ الَّتِي أَعْرِفُ، فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، فَأَمَّا صَاحِبَايَ، فَاسْتَكَانَا وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا يَبْكِيَانِ، وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَشَبَّ الْقَوْمِ وَأَجْلَدَهُمْ، فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلَاةَ وَأَطُوفُ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ، وَآتِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَأَقُولُ فِي نَفْسِي هَلْ حَرَّكَ
شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلَامِ، أَمْ لَا؟ ثُمَّ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنْهُ، وَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ، فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صَلَاتِي نَظَرَ إِلَيَّ، وَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي، حَتَّى إِذَا طَالَ ذَلِكَ عَلَيَّ مِنْ جَفْوَةِ الْمُسْلِمِينَ مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أَبِي قَتَادَةَ- وَهُوَ ابْنُ عَمِّي، وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ- فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَوَاللَّهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا قَتَادَةَ، أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمَنَّ أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟ قَالَ: فَسَكَتَ، فَعُدْتُ فَنَاشَدْتُهُ فَسَكَتَ، فَعُدْتُ فَنَاشَدْتُهُ، فَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَفَاضَتْ عَيْنَايَ، وَتَوَلَّيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ الْجِدَارَ، فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي فِي
سُوقِ الْمَدِينَةِ إِذَا نَبَطِيٌّ مِنْ نَبَطِ أَهْلِ الشَّامِ مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعَامِ يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ؟ قَالَ: فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ إِلَيَّ حَتَّى جَاءَنِي، فَدَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ، وَكُنْتُ كَاتِبًا فَقَرَأْتُهُ، فَإِذَا فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ، وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلَا مَضْيَعَةٍ، فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ قَالَ: فَقُلْتُ- حِينَ قَرَأْتُهَا-: وَهَذِهِ- أيضًا- مِنَ الْبَلَاءِ، فَتَيَامَمْتُ بِهَا التَّنُّورَ، فَسَجَرْتُهَا بِهَا، حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ مِنَ الْخَمْسِينَ، وَاسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ إِذَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْتِينِي، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ قَالَ: فَقُلْتُ: أُطَلِّقُهَا، أَمْ مَاذَا أَفْعَلُ؟ قَالَ: لَا، بَلِ اعْتَزِلْهَا، فَلَا تَقْرَبَنَّهَا قَالَ: فَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبَيَّ بِمِثْلِ ذَلِكَ قَالَ: فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي: الْحَقِي بِأَهْلِكِ، فَكُونِي عِنْدَهُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ قَالَ: فَجَاءَت امْرَأَةُ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ شَيْخٌ ضَائِعٌ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ، فَهَلْ تَكْرَهُ أَنْ أَخْدُمَهُ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ لَا يَقْرَبَنَّكِ، فَقَالَتْ: إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا بِهِ حَرَكَةٌ إِلَى شَيْءٍ، وَوَاللَّهِ مَا زَالَ يَبْكِي مُنْذُ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ إِلَى يَوْمِهِ هَذَا قَالَ: فَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِي: لَوِ اسْتَأْذَنْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم فِي امْرَأَتِكَ، فَقَدْ أَذِنَ لِامْرَأَةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ أَنْ تَخْدُمَهُ قَالَ: فَقُلْتُ: لَا أَسْتَأْذِنُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم وَمَا يُدْرِينِي مَاذَا يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اسْتَأْذَنْتُهُ فِيهَا، وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌّ قَالَ: فَلَبِثْتُ بِذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ، فَكَمُلَ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينَ نُهِيَ عَنْ كَلَامِنَا قَالَ: ثُمَّ صَلَّيْتُ صَلَاةَ الْفَجْرِ صَبَاحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ عز وجل مِنَّا، قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي، وَضَاقَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ أَوْفَى عَلَى سَلْعٍ يَقُولُ- بِأَعْلَى صَوْتِهِ-: يَا كَعْبُ بْنَ مَالِكٍ أَبْشِرْ قَالَ: فَخَرَرْتُ سَاجِدًا، وَعَرَفْتُ أَنْ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ قَالَ: فَآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى صَلَاةَ الْفَجْرِ، فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا، فَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرُونَ، وَرَكَضَ رَجُلٌ إِلَيَّ فَرَسًا، وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ قِبَلِي، وَأَوْفَى الْجَبَلَ، فَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِنَ الْفَرَسِ، فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِي، فَنَزَعْتُ لَهُ ثَوْبَيَّ فَكَسَوْتُهُمَا إِيَّاهُ بِبِشَارَتِهِ، وَاللَّهِ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا- يَوْمَئِذٍ- وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُمَا، فَانْطَلَقْتُ أَتَأَمَّمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا، يُهَنِّئُونِي بِالتَّوْبَةِ، وَيَقُولُونَ: لِتَهْنِئْكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ، حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ، وَحَوْلَهُ النَّاسُ، فَقَامَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأَنِي، وَاللَّهِ مَا قَامَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ قَالَ: فَكَانَ كَعْبٌ لَا يَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ، قَالَ كَعْبٌ: فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ، وَيَقُولُ:((أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ))، قَالَ: فَقُلْتُ: أَمِنْ عِنْدِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟ فَقَالَ:((لَا بَلْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ))، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ كَأَنَّ وَجْهَهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ قَالَ: وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ قَالَ: فَلَمَّا جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي: أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((أَمْسِكْ بَعْضَ مَالِكَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ))، قَالَ: فَقُلْتُ: فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِيَ الَّذِي بِخَيْبَرَ قَالَ: وَقُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا أَنْجَانِي بِالصِّدْقِ، وَإِنَّ مِنْ تَوْبَتِي: أَنْ لَا أُحَدِّثَ إِلَّا صِدْقًا مَا بَقِيتُ، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَبْلَاهُ اللَّهُ فِي صِدْقِ الْحَدِيثِ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى يَوْمِي هَذَا، أَحْسَنَ مِمَّا أَبْلَانِي اللَّهُ بِهِ، وَاللَّهِ مَا تَعَمَّدْتُ كَذِبَةً مُنْذُ قُلْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى يَوْمِي هَذَا، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِي اللَّهُ
فِيمَا بَقِيَ قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ} حَتَّى بَلَغَ {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} ، قَالَ كَعْبٌ: وَاللَّهِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ نِعْمَةٍ قَطُّ- بَعْدَ إِذْ هَدَانِي اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ- أَعْظَمَ فِي نَفْسِي مِنْ صِدْقِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا أَكُونَ كَذَبْتُهُ، فَأَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوا، إِنَّ اللَّهَ قَالَ لِلَّذِينَ كَذَبُوا حِينَ أَنْزَلَ الْوَحْيَ شَرَّ مَا قَالَ لِأَحَدٍ، وَقَالَ اللَّهُ:{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} ، قَالَ كَعْبٌ: كُنَّا خُلِّفْنَا- أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ- عَنْ أَمْرِ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ حَلَفُوا لَهُ، فَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَأَرْجَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمْرَنَا حَتَّى قَضَى فِيهِ، فَبِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ عز وجل:{وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} وَلَيْسَ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ مِمَّا خُلِّفْنَا تَخَلُّفَنَا عَنِ
الْغَزْوِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَخْلِيفُهُ إِيَّانَا وَإِرْجَاؤُهُ أَمْرَنَا عَمَّنْ حَلَفَ لَهُ، وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ، فَقَبِلَ مِنْهُ.
[خ: 4418]
وَحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا حُجَيْنُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِإِسْنَادِ يُونُسَ عَنِ الزُّهْرِيِّ سواء.
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ ابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ عَنْ عَمِّهِ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ- وَكَانَ قَائِدَ كَعْبٍ حِينَ عَمِيَ- قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ حَدِيثَهُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَزَادَ فِيهِ عَلَى يُونُسَ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَلَّمَا يُرِيدُ غَزْوَةً إِلَّا وَرَّى بِغَيْرِهَا حَتَّى كَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي حَدِيثِ ابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ: أَبَا خَيْثَمَةَ وَلُحُوقَهُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَحَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ، حَدَّثَنَا مَعْقِلٌ- وَهُوَ ابْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ- عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ عَمِّهِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ- وَكَانَ قَائِدَ كَعْبٍ حِينَ أُصِيبَ بَصَرُهُ، وَكَانَ أَعْلَمَ قَوْمِهِ وَأَوْعَاهُمْ لِأَحَادِيثِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ- وَهُوَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تِيبَ عَلَيْهِمْ- يُحَدِّثُ: أَنَّهُ لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا قَطُّ، غَيْرَ غَزْوَتَيْنِ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَقَالَ فِيهِ: وَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِنَاسٍ كَثِيرٍ يَزِيدُونَ عَلَى عَشْرَةِ آلَافٍ، وَلَا يَجْمَعُهُمْ دِيوَانُ حَافِظٍ.
قوله: ((وتَوَاثَقْنَا عَلَى الإِسْلَامِ)): تعاهدنا، أو تبايعنا على الإسلام ليلة العقبة؛ لأن البيعة كانت وقت الحج عند جمرة العقبة.
وقوله: عن بيعة العقبة: ((وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ)): : هذا اجتهاد منه رضي الله عنه، وإلا فغزوة بدر، قد قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم عنها:((وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ))
(1)
.
(1)
أخرجه البخاري (3007)، ومسلم (2494).
ولم يعاتب النبي صلى الله عليه وسلم أحدًا تخلف عن بدر؛ لأنه ما خرج للغزو، وإنما خرج للعير فكان النفير؛ ولذا قال الله تعالى:{وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم} .
وتخلُّف كعب بن مالك رضي الله عنه عن غزوة تبوك بدون عذر- حتى إنه قال: ما مر علي وقت كنت أيسر ولا أقوى من ذلك الوقت، ومع ذلك تخلفتُ- كان هذا لحكمة أن ابتلاه الله وطهَّره من الذنب بالتوبة التي أنزلها الله في كتابه، آية تتلى إلى يوم القيامة.
وقوله: ((فَجَلَا لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ، فَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِمُ الَّذِي يُرِيدُ)): يعني: أوضح لهم الأمر أنه سيذهب إلى الروم؛ لأن الأمر لم يكن بالأمر الهين، فالسفر بعيد، والمفاوز والمخاطر عظيمة، بمشقة وتحمل، وليست كأسفارنا اليوم قد هيأ الله لنا من المراكب التي يسرت الأسباب كما هو معلوم، وكانت- أيضًا- في شدة الحر، وفي وقت الخريف وقد طابت الثمار، والإنسان يميل إلى الدعة والراحة وجناء الثمار، والعدو- أيضًا- مخيف مهيب، كل هذا اجتمع، والمسلمون قدَّموا محبة الله ورسوله، وأمر الله ورسوله على هذه الأمور، وتلافوا هذه الصعاب والمشاق.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد غزوة ورَّى بغيرها، فإذا أراد جهة الشمال سار جهة الجنوب، لكن في هذه الغزوة أوضحها للناس للأسباب السابقة.
وقوله: ((وَلَا يَجْمَعُهُمْ كِتَابُ حَافِظٍ)): هكذا بالتخفيف في رواية مسلم، وهي بالتنوين في رواية البخاري
(1)
- ((يُرِيدُ: بِذَلِكَ الدِّيوَانَ))، يعني: ليسوا مكتوبين ومدونين بسجلات، ولا ينافي هذا كتابة الجيوش والمقاتلة، وقد بوب البخاري رحمه الله: باب كتابة الإمام الناس
(2)
، وقد جاء في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه
(1)
أخرجه البخاري (4418).
(2)
أخرجه البخاري (4/ 72).
سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ، وَلا تُسَافِرَنَّ امْرَأَةٌ إِلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ» ، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، وَخَرَجَتِ امْرَأَتِي حَاجَّةً قَالَ:«اذْهَبْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ»
(1)
، ويحتمل أن سبب عدم كتابتهم في هذه الغزوة: كثرة عدد الصحابة فقد قيل بأنهم عشرة آلاف وقيل: أكثر من ثلاثين ألفا
(2)
.
وقوله: ((وَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تِلْكَ الْغَزْوَةَ حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ وَالظِّلَالُ))، يعني: هذا ابتلاء وامتحان أن يكون الغزو في هذا الوقت، وفي هذه الظروف.
وقوله: ((فَأَنَا إِلَيْهَا أَصْعَرُ))، يعني: أميل إلى الراحة وجناء الثمار والرطب.
وقوله: ((وَطَفِقْتُ أَغْدُو لِكَيْ أَتَجَهَّزَ مَعَهُمْ)): أي: أنشأت وأردت.
ولله في ذلك حكمة أنه يحاول أن يتجهز ولا يدفعه شيء، ثم يقول في نفسه: أنا نشيط وقوي، والرسول صلى الله عليه وسلم قد مشى وأنا أستطيع اللحاق به، فألحقه بعد ساعة أو ساعتين، أو يوم أو يومين، وهكذا حتى تفارط عليه الأمر، وذهب الجيش ولم يذهب.
وهذا هو التسويف، ولا ينبغي للإنسان التسويف، بل ينبغي للمسلم أن يعزم وألا يؤخر عمل اليوم إلى الغد.
وقوله: ((فَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ فَيَا لَيْتَنِي فَعَلْتُ، ثُمَّ لَمْ يُقَدَّرْ ذَلِكَ لِي، فَطَفِقْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَحْزُنُنِي أَنِّي لَا أَرَى لِي أُسْوَةً إِلَّا رَجُلًا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ فِي النِّفَاقِ، أَوْ رَجُلًا مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ))، يعني: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وانتهى ووصلوا إلى تبوك ولم يمكنه أن يخرج؛ لأنه صار بينه وبينهم أيام، وجاءت أمور أخرى تنغص على كعب حياته، وتتعبه وتشق عليه، فإذا خرج في المدينة لا يجد إلا صنفين من المتخلفين: إما معذورًا- كأعمى أو أعرج أو مريض أو صبيان أو نساء- وإما شخصًا
(1)
أخرجه البخاري (3006)، ومسلم (1341).
(2)
فتح الباري، لابن حجر (8/ 117).
متهمًا بالنفاق، فتألم على حاله كيف تخلف؟ !
وقوله: ((حَبَسَهُ بُرْدَاهُ، وَالنَّظَرُ فِي عِطْفَيْهِ))، يعني: أنه معجب بثيابه ومعجب بحلته، فرد عليه معاذ بن جبل قائلًا:((بِئْسَ مَا قُلْتَ! وَاللَّهِ- يَا رَسُولَ اللَّهِ- مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا))، فيه الرد عن عرض المسلم، وأنه ينبغي للإنسان أن يرد عن عرض أخيه إذا كان يعلم عنه خيرًا.
وقوله: ((مُبَيِّضًا يَزُولُ بِهِ السَّرَابُ)): البياض بياض الإنسان في السراب.
وقوله: ((وَهُوَ الَّذِي تَصَدَّقَ بِصَاعِ التَّمْرِ حِينَ لَمَزَهُ الْمُنَافِقُونَ)): فالذي تصدق هو أبو خيثمة رضي الله عنه تصدق بصاع تمر فلمزه المنافقون، قالوا: إن الله لغني عن صدقة هذا، ما تصدق إلا بصاع، وكان الذي يتصدق بكثير يقولون عنه: هذا مُرَاءٍ، فما يسلم منهم أحد، قال الله تعالى:{الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات واللذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم} .
وقوله: ((فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ تَوَجَّهَ قَافِلًا مِنْ تَبُوكَ حَضَرَنِي بَثِّي)): البث: أشد الحزن، قال الله- عن يعقوب-:{إنما أشكو بثني وحزني إلى الله} .
وقوله: ((فَطَفِقْتُ أَتَذَكَّرُ الْكَذِبَ، وَأَقُولُ: بِمَ أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ غَدًا، وَأَسْتَعِينُ عَلَى ذَلِكَ كُلَّ ذِي رَأْيٍ مِنْ أَهْلِي، فَلَمَّا قِيلَ لِي: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَظَلَّ قَادِمًا زَاحَ عَنِّي الْبَاطِلُ، حَتَّى عَرَفْتُ أَنِّي لَنْ أَنْجُوَ مِنْهُ بِشَيْءٍ أَبَدًا، فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ)): لما بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء قادمًا من تبوك حضره الحزن، ماذا يعمل؟ كيف يقابل النبي صلى الله عليه وسلم؟ فلما وصل النبي صلى الله عليه وسلم تذكر الكذب، ثم انزاح عنه الباطل، وعزم على ألا يتكلم إلا بصدق، وأنه ليس له عذر.
وهذا من فضل الله على كعب أن الله أزال عنه الباطل وعزم على الصدق، مع أنه جَدِلٌ وعنده استطاعة على الاعتذار، ولكنه ترك هذا لله.
وقوله: ((وَصَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَادِمًا، وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَرَكَعَ
فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ)): هذا فيه: مشروعية صلاة ركعتين للقادم من السفر في المسجد قبل دخول بيته.
وقوله: ((فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمُخَلَّفُونَ، فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ وَيَحْلِفُونَ لَهُ، وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا، فَقَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَانِيَتَهُمْ وَبَايَعَهُمْ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ)): هؤلاء جاؤوا واعتذروا وحلفوا أنهم معذورون، والنبي صلى الله عليه وسلم قبِل العلانية واستغفر لهم، وقبِل عذرهم، ووكل سرائرهم إلى الله، أما كعب رضي الله عنه فاختار لنفسه أن يَصْدُق، وأن يصبر على الابتلاء في أول الأمر، ثم تكون العاقبة الحميدة له.
وقوله: ((مَا خَلَّفَكَ، أَلَمْ تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ؟ ! ))، يعني: ألم تكن قد اشتريتَ راحلتك.
قوله: ((وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلَامِنَا- أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ- مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ)): فيه: مشروعية هجر العاصي؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى الناس عن كلام كعب وصاحبيه هلال بن أمية الواقفي، ومرارة بن الربيع رضي الله عنهم أجمعين.
وقوله: ((فَأَمَّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا يَبْكِيَانِ، وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَشَبَّ الْقَوْمِ وَأَجْلَدَهُمْ، فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلَاةَ وَأَطُوفُ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ)): فيه: جواز البكاء على النفس ندمًا على المعصية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليهما بكاءهما على أنفسهما.
وفيه: دليل على أن الذي هجره الناس تسقط عنه صلاة الجماعة؛ ولهذا فإن هؤلاء كانوا يصلون في بيوتهم، وكعب رضي الله عنه وكان أشبَّهم- كان يصلي مع الناس، ولما كان في آخر الأمر كان كعب رضي الله عنه يصلي في بيته، قال: صليت الفجر على ظهر بيت لنا، ولم يُصَلِّ مع جماعة المسلمين؛ لأنه مهجور، ولا يكلمه أحد فهو معذور.
وقوله: ((حَتَّى إِذَا طَالَ ذَلِكَ عَلَيَّ مِنْ جَفْوَةِ الْمُسْلِمِينَ مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أَبِي قَتَادَةَ- وَهُوَ ابْنُ عَمِّي وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ- فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَوَاللَّهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ
السَّلَامَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا قَتَادَةَ أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمَنَّ أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟ قَالَ: فَسَكَتَ، فَعُدْتُ فَنَاشَدْتُهُ فَسَكَتَ، فَعُدْتُ فَنَاشَدْتُهُ، فَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَفَاضَتْ عَيْنَايَ، وَتَوَلَّيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ الْجِدَارَ)): أبو قتادة ابن عم كعب رضي الله عنهما، وكان أحب الناس إليه، ومع ذلك لم يرد عليه السلام لما سلم عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى الناس عن كلام هؤلاء الثلاثة، فهم ملتزمون بهذا، وطاعة الله ورسوله مقدمة على المحبة الطبيعية.
وفيه: أنه يشرع هجر العاصي حتى يتوب زجرًا له وتأديبًا، وليس هناك حد محدد للهجر هنا، بل يُهجَر حتى يتوب، هذا إذا كان الهجر من أجل الدين، أما إذا كان الهجر من أجل الدنيا، ومن أجل حظوظ النفس فإن الهجر لا يزيد عن ثلاثة أيام؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:((لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا، وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ))
(1)
؛ لأن النفس قد يحصل فيها شيء من التكدر بسبب ما يحصل بينه وبين أخيه من الشحناء، فأبيح ثلاثة أيام حتى يزول ما في نفسه، أما إذا كان الهجر من أجل الدين فليس له حد؛ ولهذا هجر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم خمسين ليلة حتى تاب الله عليهم.
ولكن هجر العاصي إنما يكون إذا كان الهجر يردعه، أما إذا كان الهجر يزيده شرًّا، أو لا يفيد فلا يهجر، بل يُستمر على نصيحته، فبعض الناس إذا هجرته فرح وصار يزيد في المعاصي، وإذا لم تهجره يراعيك ويخفف من المعاصي ويتستر؛ ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يهجر المنافقين الذين تخلفوا في تبوك، وإنما هجر هؤلاء الثلاثة، فالهجر كالدواء يستعمل إن كان يفيد.
وفيه: دليل على أنه إذا سئل الإنسان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم يقول: الله ورسوله أعلم، أما بعد وفاته فيقال: الله أعلم؛ وهذا أيضا كما في حديث معاذ رضي الله عنه لما قال له صلى الله عليه وسلم: ((يَا مُعَاذُ، أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى العِبَادِ؟ )): قَالَ: اللَّهُ
(1)
أخرجه البخاري (6237)، ومسلم (2560).
وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: ((أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، أَتَدْرِي مَا حَقُّهُمْ عَلَيْهِ؟ )): قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: ((أَنْ لا يُعَذِّبَهُمْ))
(1)
.
وهذا كان في حياته؛ لأنه يوحى إليه عليه الصلاة والسلام مِن علم الغيب، أما بعد وفاته فيقال: الله أعلم.
وفيه: دليل على أن الإنسان إذا سئل ثم قال: الله ورسوله أعلم، وقد حلف ألا يكلم أحدًا فإنه لا يحنث، إذا لم يقصد الكلام، وإن قصد أن يكلمه حنث.
وقوله: ((فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي فِي سُوقِ الْمَدِينَةِ إِذَا نَبَطِيٌّ مِنْ نَبَطِ أَهْلِ الشَّامِ مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعَامِ يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ)): نبطي: فلاح من العجم.
وقوله: ((يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ؟ قَالَ: فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ إِلَيَّ حَتَّى جَاءَنِي)): فيه: كمال امتثال الصحابة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه نهاهم أن يكلموا كعبًا فلما جاء النبطي يسأل عنه ما كلموه، وإنما أشاروا للأعجمي.
وقوله: ((فَدَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ، وَكُنْتُ كَاتِبًا فَقَرَأْتُهُ، فَإِذَا فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ، وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلَا مَضْيَعَةٍ، فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ قَالَ: فَقُلْتُ- حِينَ قَرَأْتُهَا-: وَهَذِهِ- أيضًا- مِنَ الْبَلَاءِ، فَتَيَامَمْتُ بِهَا التَّنُّورَ)): فيه: دليل على أن كلمة (أما بعد) كانت معروفة عند العرب والعجم، وأنها كانت تُكتب في المخاطبات، قيل: أول من تكلم بها داود عليه السلام، وقيل: قس بن ساعدة الإيادي، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستخدمها في خطبه.
وفيه: الابتلاء والامتحان الذي وقع لكعب رضي الله عنه، فقد ابتلي بهؤلاء الكفرة يكتبون إليه حتى يلحق بهم.
وفيه: أن من الحزم قطع أسباب الشر والفتنة؛ ولذلك فإن كعبًا أحرق هذا الكتاب حتى لا يبقى عنده ويتذكره، أو يضعف فيما بعد ويستجيب
(1)
أخرجه البخاري (7373)، ومسلم (30).
لهؤلاء القوم، فيَمَّم به التنور وزجره، يعني: أحرقه بالنار.
وقوله: ((حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ مِنَ الخَمْسِينَ وَاسْتَلْبَثَ الوَحْيُ))، أي: تأخر الوحي لحكمة بالغة.
وقوله: ((إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ قَالَ: فَقُلْتُ: أُطَلِّقُهَا، أَمْ مَاذَا أَفْعَلُ؟ قَالَ: لَا بَلِ اعْتَزِلْهَا، فَلَا تَقْرَبَنَّهَا قَالَ: فَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبَيَّ بِمِثْلِ ذَلِكَ)): وهذا من زيادة الابتلاء والامتحان، فقد ابتلي هؤلاء الثلاثة، ونهي الناس عن كلامهم، فلما مضى أربعون ليلة جاءهم أمر آخر بأن يجتنب كل واحد منهم امرأته ولا يجامعها؛ ولهذا قال له: أُطلقها؟ قال لا، لا تقربها.
وقوله: ((فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي: الْحَقِي بِأَهْلِكِ، فَكُونِي عِنْدَهُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ)): وهذا من الكناية، ففيه: أن الكناية لا تكون طلاقًا إلا بنية، فإذا قال لامرأته: كوني عند أهلك، أو اخرجي من البيت، فهذه كناية إن قصد الطلاق بها وقع، وإن لم يقصد فلا.
وقوله: ((فَجَاءَت امْرَأَةُ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ شَيْخٌ ضَائِعٌ، لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ، فَهَلْ تَكْرَهُ أَنْ أَخْدُمَهُ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ لَا يَقْرَبَنَّكِ، فَقَالَتْ: إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا بِهِ حَرَكَةٌ إِلَى شَيْءٍ، وَوَاللَّهِ مَا زَالَ يَبْكِي مُنْذُ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ إِلَى يَوْمِهِ هَذَا قَالَ: فَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِي: لَوِ اسْتَأْذَنْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي امْرَأَتِكَ، فَقَدْ أَذِنَ لِامْرَأَةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ أَنْ تَخْدُمَهُ قَالَ: فَقُلْتُ: لَا أَسْتَأْذِنُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَا يُدْرِينِي مَاذَا يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم): فيه: دليل على أن أهلهم لم يهجروهم؛ ولهذا كلم بعض أهل كعب كعبًا، وقالوا له: لو استأذنتَ رسول الله؟ فهذا دليل على أنهم كانوا يكلمونهم.
وكذلك امرأة هلال بن أمية رضي الله عنهما جاءت إلى النبي وقالت: يا رسول الله، إن هلال رجل ضائع، فهل تكره أن أخدمه؟ فهي تخدمه وتكلمه، ولا تهجره؛ لأنه مضطر إلى كلامها ومخاطبتها.
ويحتمل أن الذي كلم كعبًا زوجته، أو بعض أولاده الذين لم يهجروه،
وأما من كان خارج البيت كابن عمه فقد هجروه.
وفيه: كمال حزم كعب رضي الله عنه، فإنه لما قال له بعض أهله: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تبقى عندك زوجتك، قال: لا، هلال بن أمية رجل شيخ يحتاج زوجته أن تخدمه، أما أنا فشاب قوي أخدم نفسي، وقد لا أملك نفسي، ويقول- أيضًا-: لا أدري ماذا يرد عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم لو استأذنته؛ لأن حالي غير حال هلال.
وكونه شيخًا ضائعًا ليس ذلك عذرا له؛ وإلا لعذره النبي صلى الله عليه وسلم، فالكبر لا يمنع الجهاد، يكون عنده راحلة وقوة، حتى ولو لم يباشر الجهاد بنفسه، فقد يباشر في بعض الأمور التي يستطيعها، ويساعدهم في أشياء غير القتال.
وقوله: ((فَلَبِثْتُ بِذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ، فَكَمُلَ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينَ نُهِيَ عَنْ كَلَامِنَا، قَالَ: ثُمَّ صَلَّيْتُ صَلَاةَ الْفَجْرِ صَبَاحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا)): ظاهره: أنه ما لم يُصَلِّ مع الجماعة؛ لأنه مهجور، وهذا عذر له، كما ذكرنا.
وقوله: ((فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ عز وجل مِنَّا قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي، وَضَاقَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ أَوْفَى عَلَى سَلْعٍ يَقُولُ- بِأَعْلَى صَوْتِهِ-: يَا كَعْبُ بْنَ مَالِكٍ أَبْشِرْ قَالَ: فَخَرَرْتُ سَاجِدًا، وَعَرَفْتُ أَنْ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ قَالَ: فَآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى صَلَاةَ الْفَجْرِ)): فيه: مشروعية سجدة الشكر واستحبابها عند تجدد النعمة، أو اندفاع النقمة؛ كأن يبشر بانتصار المسلمين على أعدائهم، أو فتح حصن من الحصون فهذه نعمة عامة، أو نعمة خاصة كأن يُبشَّر بولد ولد له؛ ولهذا فإن كعبًا سجد لله شكرًا لما سمع البشير في أعلى جبل يقول: يا كعب بن مالك أبشر.
وسجدة الشكر تكون سجدة واحدة، يقول فيها: سبحان ربي الأعلى، ولا تُشترط الطهارة لها.
وقوله: ((أَوْفَى)): ارتفع.
وقوله: ((عَلَى سَلْعٍ)): جبل معروف بالمدينة.
وقوله: ((فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا، فَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرُونَ، وَرَكَضَ رَجُلٌ إِلَيَّ فَرَسًا وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ قِبَلِي، وَأَوْفَى الْجَبَلَ، فَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِنَ الْفَرَسِ)): فيه: استحباب التبشير والتهنئة بالخير؛ ولهذا فكل واحد من هؤلاء الثلاثة سعى إليه ساعٍ يبشره، وكعب ركض إليه رجل بفرس، والفرس هو أعلى شيء عندهم، فلم يكن عندهم سيارات، فركض إليه بفرس يبشره، وسبقه إنسان فصعد فوق الجبل، وجعل ينادي- بأعلى صوته-: أبشر يا كعب، فصار الصوت أسرع من الفرس.
قوله: ((فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِي، فَنَزَعْتُ لَهُ ثَوْبَيَّ فَكَسَوْتُهُمَا إِيَّاهُ بِبِشَارَتِهِ، وَاللَّهِ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا- يَوْمَئِذٍ- وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُمَا)): فيه: استحباب إعطاء البشير شيئًا إذا كان مثله يُعطَى ذلك، وقد لا يُعطَى بعضُ الناس كالوجهاء، فأعطاه كعب ثوبيه، والأقرب- والله أعلم-: أنهما الإزار والرداء، على عادة العرب كانوا يلبسون إزارًا ورداءً، يقول: والله ما أملك غيرهما، يعني: ما يملك غيرهما من الثياب، وإلا فإنه يملك شيئًا من المال والعقار؛ ولهذا فكما سيأتي بعد ذلك أنه قال:((إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ، وَإِلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم).
وفيه: دليل على أنه إذا قال الإنسان: والله لا أملك إلا كذا وقصد نوعًا من المال لا يكون كاذبًا، وكذلك من حلف أنه لا يملك من المال إلا كذا وقصد نوعًا من المال لا يحنث.
وقوله: ((فَانْطَلَقْتُ أَتَأَمَّمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهَنِّئُونِي بِالتَّوْبَةِ، وَيَقُولُونَ: لِتَهْنِئْكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ)): فيه: مشروعية التهنئة بالخير لمن تجددت له نعمة، أو اندفعت عنه نقمة.
وقوله: ((حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ، وَحَوْلَهُ
النَّاسُ، فَقَامَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأَنِي، وَاللَّهِ مَا قَامَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ قَالَ: فَكَانَ كَعْبٌ لَا يَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ)): قام طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه من المهاجرين يهرول حتى صافح كعبًا رضي الله عنه وسلم عليه وهنأه ولم يقم أحد من المهاجرين غيره؛ ولهذا فكان لا ينساها لطلحة، ففيه: دليل على جواز القيام للقادم لتهنئته والسلام عليه، فقد قام طلحة لكعب وهنأه رضي الله عنهما.
أما القيام من باب الاحترام لا للسلام فهذا مكروه، كما يفعله البعض في مجالس بعض الأمراء، أو الكبراء، إذا دخل واحد قاموا، ثم إذا جلس جلسوا، وأشد منه القيام على رأسه وهو جالس، فهذا محرم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما مرض في مرضه الأول وصلى بالناس قاعدًا، والناس حوله قيام أشار إليهم أن يجلسوا فلما سلم قال:((إِنْ كِدْتُمْ أَنْ تَفْعَلُوا فِعْلَ فَارِسَ وَالرُّومِ، يَقُومُونَ عَلَى مُلُوكِهِمْ وَهُمْ قُعُودٌ، فَلَا تَفْعَلُوا، ائْتَمُّوا بِأَئِمَّتِكُمْ، إِنْ صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا، وَإِنْ صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا))
(1)
.
والقيام له ثلاث أحوال:
الحال الأولى: أن يقوم إليه يسلم عليه ويصافحه فهذا مشروع، كما فعل طلحة بن عبيد الله، لما قام لكعب رضي الله عنهما وصافحه وسلم عليه، وكما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم ((إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ فاطمة رضي الله عنها قَامَ إِلَيْهَا فَأَخَذَ بِيَدِهَا، وَقَبَّلَهَا، وَأَجْلَسَهَا فِي مَجْلِسِهِ، وَكَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا قَامَتْ إِلَيْهِ، فَأَخَذَتْ بِيَدِهِ فَقَبَّلَتْهُ، وَأَجْلَسَتْهُ فِي مَجْلِسِهَا))
(2)
، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم في قصة سعد بن معاذ رضي الله عنه لما جاءه على حمار قال:((قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ)):
(3)
.
الحال الثانية: القيام للاحترام لا للسلام، فإذا دخل قاموا، وإذا جلس
(1)
أخرجه ابن ماجه (1240)، وابن حبان (2122).
(2)
أخرجه أبو داود (5217).
(3)
أخرجه البخاري (3043)، ومسلم (1768).
جلسوا، فهذا مكروه ويخشى أن يكون داخلًا في حديث:((مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ))
(1)
.
الحال الثالثة: أن يقام عند رأسه وهو جالس، فهذا محرم، ويستثنى من هذا: الحراسة، كما كان المغيرة بن شعبة يوم الحديبية واقفًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم للحراسة يحرسه، وهو يفاوض المشركين، ولما جاء بعض المشركين يفاوضه ومد يده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضربه المغيرة بنعل السيف، وقال: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
.
قوله: ((فلمَّا سلَّمْتُ عَلَى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، قال: وهو يَبرُقُ وجهُهُ مِنَ السُّرورِ، ويقولُ: أبشِرْ بخيرِ يومٍ مَرَّ عليك منذ ولدتك أمُّكَ، قال: فقلت: أمِنْ عندِكَ يا رسولَ اللهِ، أم من عند الله؟ فقال: لا بل مِن عندِ الله)): فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسره ما يسر أصحابه عليه السلام؛ ولهذا سُرَّ وجهه كأنه القمر بتوبة الله على هؤلاء الثلاثة.
وفيه: أن هذا اليوم يوم عظيم بالنسبة لكعب رضي الله عنه وأنه أفضل يوم مر عليه يقول: إنه خير يوم ما عدا اليوم الذي أسلم فيه.
وقوله: ((فلمَّا جلستُ بينَ يديهِ قلتُ: يا رسولَ الله، إنَّ مِن توبتي: أنْ أنخلِعَ مِن مالي صدقةً إلى الله، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أمسِكْ بعضَ مالِكَ، فهو خيرٌ لكَ، قال: فقلت: فإني أُمسِكُ سهمِيَ الذي بخيبرَ)): فيه: دليل على جواز قول: هذا المال صدقة إلى الله، وإلى رسوله، وصدقة إلى الله، يعني: أريد بها وجه الله، وإلى رسوله، أي: ليتصرف فيها وينفقها في مصارفها الشرعية، هذا في حياته صلى الله عليه وسلم، أما بعد وفاته، فيقول: هذه صدقة لله.
وفيه: دليل على أنه لا يجوز للإنسان أن ينفق أمواله كلها ويتصدق بها، ويبقى عالة يتكفف الناس، ويخل بالنفقة على من يعول؛ ولهذا نهاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أُمسِكُ سهمي الذي بخيبر.
لكن كيف يجمع بين هذا وبين فعل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وذلك أنه لما
(1)
أخرجه أبوداود (؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ )، والترمذي (2755).
(2)
أخرجه؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟
حث النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة جاء عمر رضي الله عنه بنصف ماله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه:((مَا أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ؟ قُلْتُ: مِثْلَهُ، وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ مَا أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ؟ قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قُلْتُ: لا أَسْبِقُهُ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا))
(1)
.
والجمع: أن هذا يكون بحسب الشخص، فإذا كان له دخل يومي، أو شهري يجوز له أن يتصدق بجميع ماله، أما إن كان ليس له مكسب يومي فإنه قد يصبح عالة.
وقوله: ((وقلتُ: يا رسولَ الله إن الله إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي ألَّا أُحَدِّثَ إلا بصدقٍ ما بقيتُ، قال: فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَبْلَاهُ اللَّهُ فِي صِدْقِ الْحَدِيثِ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى يَوْمِي هَذَا، أَحْسَنَ مِمَّا أَبْلَانِي اللَّهُ بِهِ)): أبلاه الله، أي: أنعم عليه، والبلاء يستعمل في الخير والشر، قال الله تعالى:{ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون} وقال تعالى- عن سليمان لما جاءه عرش بلقيس-: {قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر} .
والبلاء هو الاختبار والامتحان بالخير وبالشر.
وفيه: أن عاقبة الصدق حميدة، وأن العاقبة للصادقين، قال تعالى:{قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الانهار} ، والصدق يكون في الاعتقادات، فالمؤمن صادق في اعتقاده، والمنافق كاذب في اعتقاده، ويكون في الأقوال والأفعال، ففي الحديث:((الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا))
(2)
، يعني: بيَّنا ما في السلعة من العيوب.
(1)
أخرجه أبو داود (1678)، والترمذي (3675).
(2)
أخرجه البخاري (2079)، ومسلم (1532).